امبريالية اللامبالاة: بيسمارك والأرمن و«المسألة الشرقية»

حجم الخط
1

لم يتردّد باني الوحدة الألمانية أوتو فون بيسمارك، المستشار المهيمن على العقدين الأوّلين من حياة «الرايخ الثاني»، في الجهر عام 1876 بأنّ «مجمل تركيا، بما تحويه من قبائل مختلفة، لا تستأهل كمؤسسة سياسية، أن تهلك شعوب أوروبا المتحضّرة نفسها في حروب واسعة من أجل الصراع عليها».
كما يبيّن شتيفان ايهريغ في كتابه «التسويغ للإبادة. الألمان والأرمن من بيسمارك إلى هتلر» (2016) كانت هذه اللامبالاة تفيد كل شيء إلا قلّة الإهتمام. انبنى عليها تصوّر كامل للتوازنات الأوروبية في نهاية القرن التاسع عشر، ولمآل الإمبراطورية العثمانية ووضع الأرمن تحديداً فيها. فبما أنّ المملكة البروسية حققت الوحدة الألمانية بالحرب، من خلال النصر على «الإمبراطورية الثانية» الفرنسية، واجتياحها حتى باريس (1870)، أدرك بيسمارك حاجة بلاده لدوام تطويق فرنسا، ومنعها من عقد تحالفات «إنتقامية» خطرة على ألمانيا. لكن بيسمارك شدّد أيضاً على وجوب إخراج الإمبراطورية العثمانية نفسها من لعبة التحالفات الأوروبية، وظلّ يمانع أمام التحالف العثماني ـ الألماني نفسه الذي لم تفتح الطريق أمامه إلا بعد وصول فيلهلم الثاني إلى العرش وتنحي بيسمارك من المستشارية (1890). بالنسبة لـ«المستشار الحديدي»، ينبغي العمل في وقت واحد من أجل درء خطر التحارب بين الدول الأوروبية المتزاحمة على التركة العثمانية، ومن أجل المحافظة على الإمبراطورية العثمانية كونها كفيلة بإشباع تطلّعات وأطماع مختلف هذه الدول الأوروبية. هذا إذا أمكن ضبط اللعبة، بالحفاظ على ثابتة عزل فرنسا عن لعبة التحالفات.
لم يكن راغباً في الاستفراد الألماني باستتباع السلطنة اقتصادياً وعسكرياً، على ما سيفضي إليه الأمر بعد ذلك، وبخاصة مع اندلاع الحرب العالمية الأولى. كانت الأولوية عنده لتوطيد هيمنة ألمانيا على مركز القارة الأوروبية، وبالمقدور أن يسهّل «الإشباع العثماني» لمصالح الدول الأوروبية الأخرى ذلك. لذا، لم يعرقل الاستعمار البريطاني لمصر 1882، وشدّد على أنّ الصداقة الألمانية البريطانية أكثر أهمية بكثير من «مصير مصر». لكنه، وقف في المقابل، ومنذ مؤتمر برلين 1878 بوجه المطالب الأرمنية، ولم يتردّد في إظهار تعاطف مع السلطان عبد الحميد الثاني عند حلّ الأخير لمجلس «المبعوثان» وتعطيله العمل بالدستور، وبرّر ذلك بأنّ البرلمان ليس بفكرة مناسبة لإمبراطورية متعدّدة الأجناس. لم يرغب بيسمارك في إبرام تحالف مع السلطنة، تحاشياً لأي توتر على هذا الصعيد مع النمسا، وتردّد في إرسال الخبراء والتجهيزات العسكرية التي طلبتها منه، لكنه واظب على توجيه النصائح للعثمانيين بأنّ لا يقدّموا إلا «إصلاحات ما قلّ ودلّ»، وبالمماطلة والتسويف، وعندما يكون لا مناص منها، ذلك أن الإصلاحات السريعة والحادّة تهدّد وجود السلطنة.
يظهر شتيفان ايهريغ أنّ الأمور تطوّرت سريعاً مع بيسمارك، بحيث يمكن الحديث عن بروز نوع من «بارانويا» من الأرمن. فبعكس تساهله مع الاستعمار البريطاني لمصر، كان يرى خطر اجتماع الروس والإنكليز والفرنسيين حول «المسألة الأرمنية»، وينظر إلى ذلك على أنّه بمثابة انفكاك الطوق المفترض إدامته حول فرنسا، وقيام تقاطع، فتحالف، يقوم بتطويق ألمانيا بدلاً منها.
لأجل هذا شدّد بيسمارك على أن مصلحة ألمانيا في دعم السلطان العثماني في «سياسته تجاه الأرمن»، رغم أنّه لم يكن مقتنعاً بالتحالف الألماني العثماني نفسه، ويتفهّم الحاجة لإشباع النهم الإمبريالي الأوروبي في الفضاء العثماني بشكل عام. بعد سنوات على مغادرته المستشارية، سيراسل بيسمارك عبد الحميد الثاني مباشرة وينصحه بأن لا يضعف أبداً أمام الضغوط البريطانية لتليين سياسته تجاه الأرمن. هذا سنة 1896، في عزّ مجازر «الخيالة الحميدية».
سيفتح تنحي المستشار الحديدي الطريق أمام التحالف الألماني العثماني، مع أنّه لن يبرم رسمياً إلا عشية الحرب الكبرى. جرى الانتقال من «البارانويا» البيسماركية التي يحرّكها القصدُ المحموم بأنّ لا تتحوّل القضية الأرمنية إلى محور تقارب روسي بريطاني فرنسي يؤسس لقلب الموازين رأساً على عقب لغير صالح ألمانيا، إلى مشاعر ألمانية معادية للأرمن أنفسهم، وتؤصّل نفسها عرقياً، بأنّهم شبه اليهود خبثاء وغشاشون، بعيدون كل البعد عن المثل البروسية الفروسية.

المشاعر المعادية للأرمن كانت متفشية بين العسكريين الألمان المتواجدين في السلطنة، خلال أعمال الإبادة، وأنّ المشاعر المعادية للأرمن تداخلت مع ارتفاع معدل معاداة السامية بعيد الحرب

يستدرك ايهريغ في الوقت نفسه، أن فيلهلم الثاني كثيراً ما كان يستشيط غضباً كلّما علم بالفظائع المرتكبة ضدّ الأرمن، لكن الإمبراطور كان يعود سريعاً ويحمّل الإنكليز، الذي ينتمي اليهم من جهة الأم، مسؤولية الإيقاع بالأرمن وتحريضهم ودفعهم إلى المقتلة. وبشكل عام، ظلّت ألمانيا في عهد فيلهلم تشجب «المنطق الأرمني»، باعتباره يقوم على القيام بأعمال استفزازية بغية استجلاب التدخل الأجنبي، وكانت آية ذلك في أسلوب تعاطي الجهات الرسمية والصحافة في ألمانيا مع عملية اقتحام «المصرف العثماني» (مؤسسة ادارة المديونية العامة) في 26 آب 1896. كان هدف المقتحمين توجيه مطالب للدول الأوروبية، وليس للدولة العثمانية، مطالب تتعلق بحماية الأرمن في ولايات الأناضول الشرقية، ولأجل ذلك كان استهداف «المصرف العثماني» الذي كان في ذلك الوقت مبنى تحكم المساهمين الفرنسيين والإنكليز بمالية الدولة العثمانية. وفي وقت قوبلت فيه هذه العملية بالمجازر، سواء في الأستانة أو في الأناضول، كثرت التعليلات الألمانية التي تعيد اقتحام المصرف إلى طبيعة الأرمن كمرابين وإرهابيين في وقت واحد.
مثلما هناك إمبريالية التدخلين المباشر وغير المباشر، يمكن تطوير سلوك إمبريالي كامل انطلاقاً من مسلك اللامبالاة هذا، على الطريقة البيسماركية. اللامبالاة تجاه عذابات ومطالب الأرمن داخل السلطنة، مع عدم المبالاة تجاه خسارة السلطنة لمصر باستعمار البريطانيين لها، وعدم المبالاة بالعروض المقدّمة للتحالف معها. هذه كانت سياسة بيسمارك في «المسألة الشرقية». تبدّل الأمر في مرحلة ما بعد بيسمارك، إذ صارت المانيا معنية أكثر بتحويل السلطنة العثمانية إلى ملحق لها. أما «المنطق الإباديّ» نفسه، فتدشّنه المانيا مطلع القرن العشرين، بأعمال الإبادة ضد أقوام الهيريرو والناما بين عامي 1904-1908 في مستعمراتها الأفريقية، قبل أن تمضي اليه سياسة «الإتحاد والترقي» تجاه الأرمن، بعيد اندلاع الحرب الكبرى، مع أن «الإتحاد والترقي» نفسه كان طالب «الطاشناق» في مؤتمر الأخير بأرضروم 1914، بالايعاز لمناصريه لشن عمليات ضد روسيا، قبل أن تنقلب الحال من «التحالف» بين الحزبين القوميين، التركي والأرمني، إلى مشروع إبادة يحملها الأول لشعب الثاني.
يقرّ ايهريغ بأنّ دور الضباط والعسكريين الألمان المتواجدين على الأرض العثمانية، في الإبادة الأرمنية، ما زال غير واضح إلى اليوم، ويخشى أنّه لن يكون بالمستطاع إجلاء ذلك بشكل حاسم حتى في المستقبل. الواضح في المقابل، أن المشاعر المعادية للأرمن كانت متفشية بين العسكريين الألمان المتواجدين في السلطنة، خلال أعمال الإبادة، وأنّ المشاعر المعادية للأرمن تداخلت مع ارتفاع معدل معاداة السامية بعيد الحرب، وهو ما رصد بعيد نجاح سوغومون تهليريان في اغتيال الصدر الأعظم السابق طلعت باشا، في برلين، آذار 1921، وحالة النقمة الواسعة على تهليريان في الوسط القومي الألماني آنذاك. شيئاً فشيئاً ستنظر النازية إلى نموذج الإتحاد والترقي في الحل النهائي للمسألة الأرمنية على أنّه حلّ مثالي للمسألة اليهودية أيضاً، وإن كان ايهريغ يتعسّف في كتابه السابق «أتاتورك في الخيال النازي» بالمبالغة في تقدير أثر حرب الاستقلال التركية التي قادها مصطفى كمال على الخيال النازي، بوصفها حرب أراحتها الإبادة في العهد السابق.
تساهم مقاربة ايهريغ في إظهار كيفية بناء موقف إمبريالي على قاعدة «اللامبالاة» لا التدخل، ثم التدخل وربط السلطنة بالمانيا انطلاقاً من منطلق «اللامبالاة» الأولي هذا. كما يساهم في تجاوز أدبيات «التفاضل» بين الإبادات وربطها ببعضها البعض، ويتميز برصد العلاقة بين اللاسامية وبين مناهضة الأرمن بوصفهم صنو «المسألة اليهودية في الشرق»، وكل هذا يمكن أن يقدّم مقدّمات للنظر في الأشكال المختلفة، التدخلية واللامبالية
على حد سواء، لسياسات الدول الإمبريالية تجاه الشعوب المضطهدة والأقليات القومية والدينية في الشرق الأوسط. في المقابل، تبقى نزعة «تركوفوبيا» تشوب مجهود ايهريغ، اذ تظهر عنده تركيا سواء العثمانية أو الأتاتوركية أو الحالية، كحلقة وصل بين أقصى شكل للاستبداد الشرقي، وبين أقصى شكل للاستعمار الداخلي، الذي تمارسه منظومة على قسم من السكان داخلها، ومن دون عبور البحار إلى سواها.

كاتب لبناني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول أصبح ضميري مرتاحا و نائما الآن:

    أخيرا أشعر أن أجدادنا ليس لهم أدنى ذنب في مذبحة الأرمن , ألف شكر

إشترك في قائمتنا البريدية