في سأم الحياة اليومية، يكتسب التسكع في أزقة الشام القديمة متعة حقيقية، تحرّض طاقتي الإيجابية، عندما تداهمني فوضى مشاعر لا تعرف الهدوء والانضباط. أرتدي ثيابا خفيفة، وأنتعل حذائي الرياضي، أسير على غير هدى، مغمورة بطمأنينة عتمة حانية، تمنحني إياها الأزقة الضيقة. ابتسم لعشاق يسيرون متعانقي الأيدي، ملتصقي الرؤوس، التجأوا إليها بحثا عن خلوة وأمان.
كانت مجرد صدفة، أن أتوقف أمام ذاك البيت. بيت صامت وحيادي، ينتمي إلى كل البيوتات الدمشقية القديمة المغلقة على الداخل، المحصنة بذهنية متوجسة، ترفض الانفتاح على الغرباء،
الغريب الذي قد يكون زائراً فضولياً مثلي، لديه هاجس وشغف وسؤال، يخترع الحجج والذرائع، ليقتحم عالما يبدو بارداً ومغلقا، لكنه لا يفقد سحره، بل يَعِده بكثير من المكائد والفخاخ والأسرار التي تنتظره في الداخل.
أمسكت المدقة النحاسية الضخمة، وطرقت بها الباب، تردد صداها في الطرقات نغما خاويا. انتظرت قليلاً، قبل أن ينفرج عن امرأة خمسينية. الوجه منمنم لطيف، والعينان مكحولتان، والشعر منسدل على الظهر، وفلة حمراء انغرست في تموجات الأشقر المصبوغ.
ـ هل أستطيع الدخول، كنت مارة بجواركم و…؟ تمتمت في ارتباك وأنا أجول بنظري في فناء البيت الجميل.
ارتخى التساؤل من العينين المكحولتين، ابتسمت، قالت ببشاشة وهي تفسح لي الطريق.
ـ تفضلي اشربي القهوة معنا.
فاستجبت لها بامتنان، لم تكن هي المرة الأولى التي أزور بها بيتا دمشقيا قديما، لكن دائما أجد نفسي أواجه صدمة الجمال الأولى، أتلقى على مهل نفحاتها في روحي وذائقتي، فلا أستطيع أن أمنع آهة دهشة تلقائية تنطلق من ثنايا القلب،
تأسرني معركة الروائح، الياسمين والعراتلي والليمونة، معركة لا تعرف الخسارة، كل يعرف فيها موقعه، الجميع فيها منتصر. معركة الورود والألوان تختلف، هي أكثر تحدياً، تتسيّد فيها الوردة الجورية ملكة متوجة، يغازلها الشب الظريف، ويهادنها الاقحوان، ويقدم لها فروض الطاعة، الهوى المسترخي والنرجس الولهان والمكحلة الرشيقة. النافورة لها حكاية أخرى، تتوكأ على إيقاعات متعددة المستويات تتحد في النهاية في خط هارموني واحد.
جاءت صبية حلوة بصينية القهوة، تخطر بغنج على ايقاع وشوشة خلخالها الذهبي، مغندرة، معطرة، مهفهفة، على صدرها العاري عقد ذهبي، وفي أذنيها يتدلى قرطان. قدمتها لي المرأة الخمسينية بابتسامة منكسرة، وتواطؤ خفي، حاولت فيها أن تكون مساحة الرضى مراوغة ما أمكن:
ـ هذه ضُرّتي سعاد.
تغير المشهد أمامي فجأة، انزاح عن مشهد مغاير، لم يعد بريئا، ولم يعد هانئا مطمئنا، ولم تعد المرأة الخمسينية مزينة بالرضى. تكشف عن مشهد مضاد، أكثر تعقيداً لما حسبته بداية، فقد البيت الجميل سحره، في اللحظة التي استحوذ عليّ مشهد مفخخ، غامض كل الغموض، يعد بالكثير من الإثارة، تحت عنوان (امرأتان ورجل). رحت ارتشف القهوة المنكهة بالهيل في قلق، وفكرت، عليّ أن أركن كل واحدة منهما على حدة لأستمتع بالحديث مع الأخرى، كي تخفت في دماغي تلك الفوضى الفضولية، التي تحدث غالباً في حضرة زائرة نزقة، قد تشعل معركة أفكار متضاربة، لتصل إلى ما تريده من أسرار.
إذن هذه الزينة الصباحية، والفل، والكحل، والحناء، والخلخال، لم تكن كلها إلا مجاز المرأة، حيلها الأنثوية الصغيرة الماكرة، للدفاع عن فقدان مكانتها في قلب رجلها، أمام غزو من نوع آخر، غزو لم تعد تملك ما تجابهه، أضاعته وهي تقدم فروض الطاعة والولاء، والزمن يمرّ، والرجل صياد ماكر، تواق لتذوق الطعم الأشهى. امرأة جديدة، صبية وشهية، يوشيها بالذهب، وتوشي كهولته بالدفء والإثارة.
كيف هو هذا الرجل؟
اشتعل خيالي الروائي، تمخض عن مشهد مثير، رجل ستيني، ملتهب الحواس، ذكوري الإحساس، يعود متعبا في آخر النهار، فتنزوي المرأة الخمسينية بعيداً، بعد أن أنهت واجباتها وقدمت الطاعة والعشاء، ويخلو الرجل إلى صبيته. الجو مؤات للغرام، ياسمين فواح، وروائح مسكرة، وألوان متمازجة، وكركرة النافورة، ترقص له الصبية وتتمايل تحت ضوء القمر، ويتمايل هو منتشياً بتخيلات محمومة، يجأر بصوت أجش يطالب بالأكثر، فتكشف له عن صدر عار موشى بالذهب، وتسلب لبه غمازة الخد الأسيل، ورنة الخلخال في الساق الطرية.
لكن ماذا عنها هي؟
ذلك الإذعان الجميل يقتلها، الأفق يضيق أمامها، يشبه سداً، والحنين صعب الاحتمال، والمغامرة بعيدة وصعبة على الجانب الآخر، لكن القلب يهفو إلى ذاك الوسيم، وإذا كانت قد رضخت للعنة الفراق، كما أُريد لها، لكن هذا لا يعني أن سيطرة نداء الحلم قد انزاحت، ففي لحظات اليأس الأكثر قتامة، تكتسب أحلام اليقظة، أهمية متزايدة، ذاك الرجل المتأجج بنشوة لا تشاركه إياها، إلا إذا استحضرت الآخر، عليه أن يختفي، كيف؟ ليس مهما، المهم أن يرحل، يموت؟ لِمَ لا؟ قد يحدث هذا في ليلة قمراء كهذه الليلة، يذهب متأججاً سعيداً بتلك النشوة التي تمنحه إياها، وتلك المرأة الكئيبة، التي تخيفها نظرة الغدر والغيرة في عينيها المكحلتين، عليها أن تذهب معه أيضاً.
المرأة الخمسينية في غرفتها، ترى وتسمع، تشرب نخب امرأة وحيدة، يناديها الفراغ، وترهقها رغبة في السقوط، في عالم متقطع، متداخل، مرتبك بتخيلات فاقعة بكآبة يومية، وتنبثق من غور الوعي العميق، فوضى صور وخيالات مبهمة، تنهكها تخيلات آثمة. يستيقظ وحشها الغاضب من سكونه الذي طال، تتأتى لها كل الخسائر والإحباطات والعذابات التي مرّت عليها، هي المجردة من القوة، تواجه أنواء الصقيع وتبتسم، لا، لن يسحبني ثانية إلى ذاك القبو المظلم، يستنزف قوتي، ويمص عظمي، لا بد أن ذلك الشعور كان نذيرا لها، لتستعيد قوتها المنسية، ستتحرر، كيف؟ سأقتله، أو سأقتلها تلك الصبية الغازية، أو كلاهما معاً، لم لا؟
آه.. يا لتلك الحكاية
أنهيت فنجان القهوة، والمرأتان ترقبانني بدهشة وفضول متوتر. المشهد الروائي طال، ولا بد أن أفكاري ارتسمت على وجهي، وأنا أرقب المرأتين الضرتين، هل كانت أفكاراً مجنونة؟ أم كانت تجسيدا مطلقا لرفض قوانين القوة والضعف؟ أثارتني تلك الفلة الحمراء في شعر المرأة، رمز الغواية والتواطؤ الذليل، أو ربما استفزني هذا الخلخال المغنج رمز الأسر الذي يلبس لبوس الإثارة المفتعلة، لرجل تعيش معه، وفي خيالها آخر، أو ربما هذا البيت المستكين تحت دفء مزعوم، أردت أن ابتدع له حكاية، تنفض عنه هذه الاستكانة، أردت أن أشهر ثورتي ورفضي لثالوث اللعبة الأشهر والأقدم، المرأة المستكينة والرجل الصياد والجريمة.
انتهت زيارتي للبيت الدمشقي، مهزومة بطيف المرأتين الضرتين، لكنها كانت هزيمة بكبرياء، هذه مفارقة ربما، لكن ربما تكون هي انتصاري الجميل، فقد امتد أمامي فضاء رحب، وعد بمغامرة، مغامرة لن أهرب منها، مغامرة البدء، أن أمسك القلم، وأشهد ولادة الكلمة الأولى من الرواية التي أرهقني البحث عنها.
هل عليّ أن أعترف أن في هذا، بعض المكر؟ لكنه مكر جميل ومباح أيضا.
قاصة سورية