امكانية تعايش المطالب القانونية مع الخيار التمردي للمعارضة المصرية
9 - يوليو - 2013
حجم الخط
0
في ظل حالة اللايقين التي تطبع المشهد المصري، لا يملك المرء في ظل ضبابية أجوائها السياسية المشحونة إلا أن يبحث عن نقطة ثبات يقف عليها، ليسترد ما بقي له من أنفاس وشعور وذاكرة. بدت حماسة الثورة المستمرة تفقدها مساراتها وتعبث بجغرافيتها، فبدونها بدا التاريخ القريب بالنسبة إلى أي مصري مسلسلا لا ينتهي من الانقطاعات والطفرات، صوب تصويب ثورة لا يعرف منها إلا بدايتها وبعض من دماء وتضحيات أبنائها، فيما المستقبل الموعود لم يعد عنده أكثر من مجرد حلم اختلط بكابوس لحظات ثورة متحولة لا تنتهي سيناريوهاتها الدامية. قد يكون من الصعب إيجاد نقطة ثباث في خضم المشهد السياسي الحالي، بل المشهد السياسي المصري منذ ثورة 25 من يناير، فأبناء الحرية بالأمس الذين صنعوا تاريخهم الديمقراطي بوحدتهم وتماسك عقيدته التحررية بدوا اليوم متصارعين وفي حالة استقطاب جذرية بما فرقتهم انتماءاتهم وولاءاتهم الإيديولوجية الضيقة. وكل منهم بدا في سعي إلى إقصاء نظيره وفي جهوزية للخوض في سبيل خسارته، أكثر من ربحه هو في لعبة صفرية غير مأمول من ورائها إلا الفناء المتبادل لكل الأحلام التي خطتها تجربة التحرر والتغيير الديمقراطية التي عرفتها البلاد. لكن أمام هذه الأوراق التاريخية والسياسية، كما الأمنية المتخالطة في المشهد المصري، التي زادها تبعثرا إعلان المجلس العسكري في مصر حل سلطات رئيس منتخب باستحقاقات ديمقراطية، وفق توقعات لا يمكن أن يحكم على مدى واقعيتها إلا بما ستؤول إليه حالة البلاد أمنيا، فقد بدا لازما إيجاد نقطة أكثر ثباتا وأكثر معقولية من غيرها، يمكن من خلالها تقديم قراءة أقرب إلى الواقع وأبعد بقدر الإمكان عن التقديرات الغائية. إن أكثر النقاط ثباتا في المشهد المصري، التي قد لا يتفق عليها كثيرون، هي لحظة الإعلان الدستوري الصادر في تشرين الثاني/نوفمبر من العام 2012 الذي نسخه استحقاق الاستفتاء على الدستور، الذي شهد الجميع على نزاهته، وما أنتجته من تفاعلات واستجابات متباينة، بين متهم للسلطة، بما حمله الإعلان من صلاحيات، بمحاولة تكريس ديكتاتورية في لبوس ديمقراطي، وناصر للإعلان الرئاسي ابتغاء ما يعده من أهداف مسطرة، تبقى أهمها إنصاف ضحايا ثورة يناير وتحقيق العدالة الانتقالية في البلاد. ففي ما أتى به من صلاحيات تجعل من سلطة الرئيس واسعة موجهة لما سماه المناصرون، حماية المؤسسات المنتخبة من فساد أجهزة ومؤسسات وطنية لم تعرف الثورة رجالها ولم تقس مدى خدمتهم لأهدافها، والكثير من رجالها يؤدون مسؤوليات تمتد الى حقبة النظام السابق، وعلى رأس تلك المؤسسات مؤسسة النائب العام. ووجدت المعارضة فرصة أخرى، قَوّتها حصيلة الانتخابات الرئاسية المتقاربة، لتتمركز في لامركزية مكونها ـ الثوريين غير الإسلاميين، والليبراليين وأنصار النظام السابق، ومن هم على اختلاف مع حكم الإخوان- لتحشد ضد ما سمته بالانقلاب على مكتسبات الثورة، داعية السلطة الرئاسية إلى التخلي عن هذا المسار اللاديمقراطي الهدام لتوقع المصريين. وقد قدمت المعارضة في سبيل إسقاط الإعلان الدستوري ما سمته خيارات أكثر ديمقراطية تراعي حكم القانون وسيادته، وغرض تطهير مؤسسة القضاء وسيادة النزاهة فيها، من خلال وضع قوانين تنظيمية جديدة تؤطر عمل السلطة القضائية بالبلاد. إن هذا الاختلاف الذي عبرت عنه مواقف الفرقاء السياسيين وأطرته بالأساس لغة تُجادل في الثابت من الثورة ومسعى دسترتها، ألا وهي لغة القانون والسعي إلى ابتغاء الأسباب الموجبة لسيادته، كانت مسارا مؤسسا لبداية الصوابية في المشهد السياسي المصري، خصوصا أن جوهر أزمة البلاد لم تكن في غياب الحكمة السياسية أو العوامل الظرفية المواتية للمضي قدما بالأوضاع إلى بر الاستقرار، فكل هذه العوامل يمكن أن تنضج شرط أن تجد أرضية صلبة تؤسّس عليها، إنما المشكلة في غياب هذه الأرضية التي تمثلها سيادة القانون حين تكرس في ممارسات سياسية ومطالب تحفظ قدرا معقولا من أصول المعاملة الديمقراطية. وبدل ان تتعزز تلك المطالب القانونية للمعارضة، لتسرف في نقد بناء للعوامل الهدامة لحالة اليقين ولجسر الثقة بين مؤسسة القانون والمخاطبين بها، بعد أن تآكلت في ظل حالة الاحتقان السياسي بالبلد، تحولت المطالبات القانونية بإلغاء الإعلان الدستوري وما تمخض عنه من صلاحيات وممارسات إلى مغالطة ديمقراطية، أحدث فيها التحول السياسي الذي أشرف عليه الفريق الأول عبد الفتاح السيسي ندوبا في المشهد السياسي المصري أعمق من تلك التي أحدثتها إعلانات أو خيارات رئاسية غير صائبة، سقط الإخوان ضحيتها قبل غيرهم. لقد كان من الممكن، مع خصوصية الشأن المصري، أن تتعايش المطالب القانونية مع الخيار التمردي للمعارضة، كان معقولا جدا ومن المريح لوضعها السياسي أن يكون مخرج الأزمة المصرية كما مدخلها: قانونيا ديمقراطيا، وفي إطار توقع كل الأطراف السياسية بكل كياسة وحنكة، بدل أن تنتهي الأوضاع بهذا الشكل التراجيدي، خصوصا بعد مجزرة فجر الثامن من يوليو 2013، التي ذهب ضحيتها أبرياء، على النحو التي انهارت معها نظرية ‘أخف الضررين’، واهتز معها حكم القانون وهيبة المؤسسات الأمنية للدولة، التي أضحى مستقبلها الوطني على المحك. إن في غياب أرضية القانون والاحتكام إلى سيادته واستحقاقاته الديمقراطية، وتبخيسه على النحو الذي جرى في إعلان الثالث من يوليو 2013، خسارة للمأمول من الدولة المصرية التي بدت تتآكل هيبتها لتصبح على شاكلة الدول التي يكتب على بابها ‘تنبيه: قد يكون هذا البلد خطرا على صحتك’! فمن دونها أضحت مصر القوية التاريخية في عصرها الثوري دولة فاشلة رمادية متخبطة في مسارها التحولي ومفتقرة إلى الدرجات المعقولة من اليقين السياسي الذي معه تتعزز قدرة البلد الاقتصادية والتنموية وتنتعش في حالتها قطاعات ناهضة بأوضاعها السوسيواقتصادية. وتبدو المشكلة بأي حال، في حال مصر، ليس فقط في أن يلغي ‘العسكر’ تجربة ديمقراطية مشهود لها، وهو مطلب كان حاضرا مرجحا من شخصيات سياسية معارضة كالدكتور البرادعي منذ أزمة الإعلان الدستوري، حين عبر عن تطلعه بما سماه لعب الجيش لـ’دوره الوطني’ حين تخرج الأوضاع عن السيطرة، بل على نحو أكثر رمزية، أن تكرِّس له الممارسة المستحدثة بعد ثورة تطلب التغيير والقطع مع الممارسات السابقة التعسفية، سلطة رمزية في البلاد موازية، بل ومهيمنة على إرادة شعبية مقررة في أرقى تكريس لها، مع أن ما جرى قد أثبت افتقار المؤسسة العسكرية للحنكة السياسية وتميّز القيادة الجديدة بالإرتجالية الاستراتيجية في قراءة الأوضاع، حين سقطت في فخ الانحياز لطرف دون آخر بتقدير غير دقيق لما سمته إرادة شعبية لم تتحقق، رغم أهميتها، إلا في مشهد إعلامي اضطلعت في تغطيته سياسة دعائية متحيزة لا يخف الكثيرون مدى الدور الذي لعبته في تضخيم مشهدها، تذكرنا بذات السياسة التي انتهجت بنجاح أيام مصدق 1953 وعلى نحو انعكاسي مع حكم شافيز 2002. إن الفكر الديمقراطي الأصيل الذي تحدث عنه الفريق الأول عبد الفتاح السيسي وكرسه في ممارسة لا يمكن اسقاط مفهوم الانقلاب عنها، قد قوبل بردود أفعال ناقدة لعقيدته، حين بدت معها سيادة القانون بالوطن خارج التقدير. فقد عبرت الأمم المتحدة صراحة عن قلقها من التحول الذي عرفه المشهد المصري بعد تعليق القوات المسلحة العمل بالدستور، وما تلا ذلك من ممارسات تضييقية على الحريات الشخصية والعامة بالبلد، محذرة من عواقب اتخاذ السلطات الأمنية، في غياب سلطة القانون، إجراءات انتقامية لا ديمقراطية في حق أي فصيل سياسي قد يكون لها تداعيات مجتمعية مدمرة. فيما علق مجلس الأمن والسلم بالاتحاد الافريقي عضوية مصر بالمنظمة إلى حين عودة العمل بالنظام الدستوري، وهو قرار يندرج في ما درجت المنظمة على اتخاذه تجاه الدول الافريقية الفاشلة بعد تعطل العمل بالدستور في بلادها. هذا في ظل اتخاذ الاتحاد الأوروبي موقفا غامضا مما يجري في مصر يشي بالكثير، خاصة لو قسناه بموقف الاتحاد الصريح الذي عبر عنه، حين أيد في تجربة شبه مماثلة إعلان الجيش الجزائري في سنة 1992 الانقلاب على المسار الديمقراطي الذي بدا ينتخب الإسلاميين إلى سدة الحكم. إنه لمن المستحيل أن يتم الحديث عن بديل للمشهد السياسي المصري بدون أن يكون حجره الأساس تعزيز سلطة القانون وسيادته بين المجتمع. فلا يمكن للثورة أن تستمر وتحفظ مكاسبها إلا بدسترتها واستثمارها في الثابت من المجريات المتحولة فيها، والثابت المراهن عليه هنا، الذي افتقدته الثورة المصرية، تكريس ثقافة احترام القانون والجنوح إليه في تسوية الخلافات بين فرقاء، أو كما يسمى تحويل النضال السياسي إلى مطالب قانونية. ويبدو من دون ذلك المستفيد والرابح الأكبر هو المؤسسة الأمنية المصرية التي كان من الموعود أن يتم إعادة هيكلتها بعد تجربة ثورة 25 من يوليو، وهو ما لم يتم في ظل الصراع السياسي الذي خاضه الفرقاء من جهة وسعيهم كل مرة إلى استقواء بهذه المؤسسة أو الأخرى على حساب متطلب صناعة الأمن الوطني وتجديد عقيدته الأمنية كما كان مأمولا. لما كان القانون هو علم جبر الأمن، كان حريا به أن يكون الرقم المفقود في معادلة اللايقين السياسية التي تشهدها مصر في لحظتنا، والمطلوب لإعادة التوازن إلى وضعها الأمني، ومن دون اتخاذ سبل للرجوع إلى حكم القانون كأولوية في ظل الظروف الأمنية والاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها مصر لتصحيح المسارات والخيارات السياسية، فلا ينتظر من الثورة في استمرارها في غياب نقطة ثباب توازن مسيرها، إلا أن تفقد مكاسبها إن لم تتحول مع كل طفرة أو انقطاع سياسيين إلى تلوين آخر، وفصل آخر من فصول عبث جارح بتاريخها الحضاري والثوري.