يخطف كل كتاب يطرح في المكتبات أنظار القراء، ويكسب رواجه بينهم من أحد أمرين اثنين. فإنما أن يكون مضمونه قد استقدم جديدا نافعا لم يسبقه إليه كتاب آخر، وإما أن يكون قد جاء بين دفتيه بإضافات ومستدركات لموضوع سبق تناوله تضيء فيه بعض ما خفي من جوانبه، أو غمُض من معلوماته، وظل مستبهما أمام القراء والباحثين. واعتقد أن كتاب: ‘العلامة عبد السلام بن عبد الرحمن السلطاني’ هو من الصنف الأول؛ لأن كاتبه تطرّف فيه إلى شخصية دينية وإصلاحية وعلمية أطبق الزمان أجفانه على ذكرها، وأغمضهما حتى يبقيها في دهاليز النسيان مطموسة المعالم ومجحودة الذكر، ومحرومة من اقتباس كرم الاعتراف من الآخرين. وفي ما أعلم، لم يجر التلميح إلى الشيخ عبد السلام بن عبد الرحمن السلطاني ذكرا أو مدحا، إلا في ما قل وندر، وفي إشارات خاطفة لا تستلفت الأنظار.
أفرد مؤلف الكتاب صفحات للحديث عن أقرباء الشيخ عبد السلام السلطاني، كالشيخ القاضي المجاهد لخضر بن علي العوفي السلطاني والشيخ عبد الرحمن بن محمد العوفي السلطاني والد المترجم له. وتطرق إلى مواقفه الوطنية المشرفة، كرفضه تبني لقب ‘ابن علجية’ الذي أرادته الإدارة الفرنسية لعائلته في حياته. ولكن، بعد وفاته أجبرت العائلة بإرفاق هذا اللقب بأسماء أبنائها. وجمعه للتبرعات لفائدة المجاهدين الليبيين بعد احتلال إيطاليا للشقيقة ليبيا سنة 1911م، ومشاركته في ثورة عين التوتة التي دارت رحاها في سنة 1916م، ووقوفه ممانعا مصادرة غابات المنطقة كرد فعل انتقامي وتضييقي من الاستعمار رميا منه إلى إحراج السكان الأصليين. وأبرز صداقته مع عدد من رجال حركة الإصلاح الوطني كالشيخ الرائد عبد الحميد بن باديس والشيخ حمدان لونيسي والشيخ الطاهر مسعودان الحركاتي والشيخ أحمد بن عثمان…وتعرض الكتاب، كذلك، إلى وفاته وإلى الأجواء التي جرت فيها مراسيم جنازته التي جلبت إليها المشيعين من كل ربوع الأوراس وإلى تعدد مؤبنيه.
وخصص جل الكتاب للحديث عن الشيخ عبد السلام بن عبد الرحمن السلطاني وعن إنتاجاته الفكرية الفريدة. وترجم له ترجمة أزالت كثيرا من الغموض الذي أحاط بسيرته. ويشير الكتاب إلى أن الشيخ عبد السلام السلطاني قد ولد سنة 1896م في دشرة ‘البئر’ التي تتبع بلدية ‘أولاد عوف’، حاليا، بضاحية مدينة ‘عين التوتة’ في الأوراس، وبها ترعرع ودرج. وقصد زاوية الشيخ علي بن عمر بطولقة التي أقام فيها لمدة ثلاث سنوات بمجرد أن أتم حفظ القرآن الكريم على يد والده والشيخ محمد بن مرابط في مسقط رأسه. وبعدئذ، ارتحل إلى رحاب حلقات الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي كانت تربطه بوالده علاقة صداقة متميزة، وارتشف من رحيق دروسها. ولما أكمل دورته التكوينية الباديسية، شد الرجال إلى جامع الزيتونة بتونس الخضراء بوصية من شيخه ابن باديس الذي وقف على نبوغه وتحسس شغفه بالعلم.
أحرز الشيخ عبد السلام السلطاني شهادة التطويع La ma’trise، أي تطويع العلم والتحكم في ناصيته، من الرتبة الأولى بتقدير بلغ تسعا وتسعين بالمائة من العلامات بتاريخ الثامن تموز/ يوليو 1924م. واحتل في لائحة الناجحين المرتبة الثانية بعد الشيخ مبارك الميلي زميله في الدراسة. وأمضى شهادة تزكيته الشيوخ: أحمد بيرم ومحمد الطاهر بن عاشور ومحمد رضوان ومحمد الصادق النيفر. وخلف الشيخ عبد السلام السلطاني أوراقا ضمنها سريان الاختبارات الختامية وأسئلة المواد التي امتحن فيها وأجوبته عنها حملها الكتاب. وكان من زملائه في الدفعة الشيوخ محمد السعيد الزاهري ومحمود بن قاسم ساكيس (وأظنه من إخواننا الأباضيين) وعبد الكريم بن محمد سعيد…
عاد الشيخ عبد الحميد بن باديس ووفد من العلماء الأجلاء تلميذه النجيب عبد السلام السلطاني مهنئا بعد أن بلغه نجاحه، ونزل ضيفا على سكان دشرة ‘البئر’ الذين أكرموا وفادته بما يليق بمكانته لمدة يومين. ويروى أن الشيخ عبد الحميد بن باديس، وبعد وقوفه على معالم المعارك التي قادها أحمد باي في تلك النواحي، وسماعه بعض تفاصيل ثورة 1916م، نظر إلى الجبال المحيطة بدشرة ‘البئر’، وقال: (إن هذه الجبال هي معاقل المجاهدين، ومنها يأتي النصر، إن شاء الله).
بعد نيله لشهادة التطويع، أقفل الشيخ عبد السلام السلطاني عائدا إلى أرض الوطن. وبدعوة من شيخها، قصد زاوية ‘ابن رحال’ ناحية قرية ‘توفانة’ للتدريس بها. وبمجرد أن انطلق مباشرا عمله، استدعاه حاكم بلدية ‘المعذر’ ومنعه من مواصلة رسالته التعليمية لتثبيت استمرار المخطط التجهيلي للشعب الجزائري حتى يظل تائها في غيبوبته.
قضى الشيخ عبد السلام السلطاني بقية أيامه في أرض الوطن قلقا ومتنقلا بين مدينتي ‘باتنة’ و’نقاوس’، ومترددا على شيوخهما. ثم ذهب عائدا إلى تونس لما رأى فيها من فسحة حرية أوسع نسبيا للنشاط والعمل. وهناك، توظف مدرسا في مدارس مدن وقرى ‘السرس’ و’أبة القصور’ و’الدهماني’ وعين الدراهم التي تقع في الجنوب التونسي. وفي الطور الثاني من إقامته في تونس، لم يقبض يده على مساعدة الطلبة الجزائريين الزيتونيين. وخلال سنوات الثورة التي عاشها، كانت له علاقات متينة مع كثير من المجاهدين السياسيين والعسكريين، ومنهم العقيد محمدي السعيد. ولم يجحد مناصرته للثورة، أو يبخل باشتراكاته الشهرية دعما لها.
ألم بالشيخ عبد السلام السلطاني مرض مفاجئ قلل من حركته، وأقعده الفراش. وقام بعلاجه الطبيب التيجاني هدّام. وكتب له أن يختم أنفاسه في شهر أكتوبر من سنة 1958م، ووري تربة قرية ‘الدهماني’ التونسية.
تقتنص من مسيرة حياة الشيخ عبد السلام السلطاني معلومات وفوائد غزيرة، فهي وإن تزينت بمآثر الاستقامة والتدين والاجتهاد في طلب العلم والمواظبة عليه، فإنها زادت عن ذلك شأنا بفضل المكانة العلمية التي اعتلاها بين أبناء جيله وبشهادة شيوخه. فهو فقيه ولغوي ومحقق مدقق وناقد بالمعنى التقليدي للكلمة وشاعر وإن كان مقلا وغير مكثر. ونلمس في بعض أشعاره المتأخرة ملكة شعرية راقية تتصف بقوة وجزالة العبارات والصدق في المعاني. ويحس القارئ الحاذق بفجوة الفرق ودرجة التطور بين القصيدة التي قالها مأبنا جده لما كان عمره سبع عشرة سنة، ومرثية شيخه العلامة محمد النخلي أو القصيدة التي ودع بها شيخه عبد الحميد بن باديس بعد أن أنهى زيارته لتونس سنة 1923م، والتي يقول في بعض منها:
وإني قد بلوت بني زمانـي فلم أر بالفضيلة من أحاطا
عـدا عبد الحميد فذاك فرد وحيد بالفضيلة قد أحـــاطا
خبير قد رأى أن السنـــايا من الأسفار تلتقط التقــاطا
ولعل المنجز الفكري الذي رفع من قيمة الشيخ عبد السلام السلطاني هو مؤلفه الذي وسمه بـ: ‘فتح المالك في شرح شواهد منهج السالكين’، وهو المؤلف الذي اشتهر باسم: ‘شرح شواهد الأشموني’. وكان يكفيه هذا الكتاب فخرا لو اقتصر على كتابته دون غيره. ولا شك، أن هذا الكتاب قد التهم نصيبا وافرا من وقته وجهده إذا استحضر حجم المؤلف الأصلي الذي يقع في أربع مجلدات، وقلة توفر المراجع المسخرة في الاحتكام والرد. وقد نال هذا المؤلف المتين مديح المعترفين من أمثال الشيخ علي مغربي الذي قال مثنيا عن المدرسة الباديسية: (…وينبغ بها الأستاذ عبد السلام السلطاني الذي سدّ ثلمة في علم العربية لم يسبقه إلى سدها سابق، ولم يلحقه في هذا الشأن لاحق). كما قال عنه المؤرخ الدكتور أبو القاسم سعد الله في مؤلفه الفاخر الذي يحمل عنوان: ‘تاريخ الجزائر الثقافي’، قال عنه: (عبد السلام بن عبد الرحمن السلطاني، وقد ألف أشهر وأكمل عمل في النحو بين الحربين، وهو شرح شواهد الأشموني. وكان الشيخ من أولاد سلطان بناحية عين التوتة بإقليم الأوراس, وقد طبع كتابه في تونس، وأجازه له علماء الزيتونة، وأصبح من المؤلفات المعتمدة في التدريس بالزيتونة. ورغم كثرة العارفين بقواعد النحو منذ الحرب العالمية الأولى، فإننا لا نعلم أن آخر قد أقدم على مثل هذا العمل الشاق). ولا يجوز، في هذا السياق، أن ينسى الاقتباس من تقريظ الشيخ عبد الحميد بن باديس للاستدلال على رقي مكانة الشيخ عبد السلام السلطاني العلمية في ميدان التأليف، إذ يقول عنه: (… قد استوفى المقصود من شرح الشواهد، وجمع من اللغة والنحو والصرف والأدب شتى الأصول وجمّ الفوائد. يجمع قارئه من لغة العرب بين العلم والتطبيق، ويسلك بذلك لتحصيل الملكة اللسانية والقلمية أقوم طريق. فجزى الله تعالى هذا الأخ المؤلف أحسن الجزاء على خدمته لغة القرآن، وتسهيله هذا الطريق السوي من طرق التعلم والتعليم بمنّه وكرمه، آمين). وأما قصة بداية الشيخ عبد السلام السلطاني مع كتابه: ‘شواهد الأشموني’ ودوافعه التي حملته على اقتحام ميدانه، فيقول عنها بنفسه: ( كنت أيام قراءتي ـ يقصد دراستي ـ لهذا الشرح ـ شرح الأشموني على الألفية ـ كثير التطلب لفهم تلك الأمثال والشواهد، ومعرفة ما لها من الأسباب والموارد. فمهما عثرت على فائدة من ذلك في بطن دفتر إلا ونقلتها. وما نثر أحد مشيختي درة تحقيق في مجلسه إلا التقطتها حتى جمعت من ذلك فرائد ونظمت منها قلائد. وظلت نتيجتها حينا من الدهر قاصرة على عوائدها منفعتها لا تعود إلا لي. وكان والدي كثيرا ما يوعز إلي بتنسيقها ونشرها، قائلا: لأن ذا من الأعمال التي لا انقطاع لأجرها، ولأن الفائدة به أشمل فالثواب عليه أجزل. فأحجم عن ذلك استصغارا لمنزلتي عن مقام التأليف والتقييد، واستقصارا لشوطي عن ذلك المدى البعيد، إلى أن جمعني الله تعالى بحاضرة تونس ببعض أهل العلم، فذكر لي أن الحاجة بالناس لشرح هذه الشواهد ماسة، ولا أحد نراه أعار لذلك حاسة. فظاهر بقوله ذلك الإيعاز، وتبين حقيقة أن ليس لي عنه محيد ولا مجاز. فحينئذ استخرت الله في الشروع، وشمرت على ساعة الجد مطرحا الراحة والهجوع).
أما منهج الشيخ عبد السلطاني الذي نهجه في مؤلفه: ‘شرح شواهد الأشموني’ الذي طبع لأول مرة في سنة 1347 هـ، فيوضحه بقوله: (… جاعلا خطتي في ذلك إطراح التقليد، إلا لأئمة شافهوا العرب أو كادوا كالأصمعي وأبي سعيد، والزمخشري وأبي عبيد، والجاحظ وابن دريد. أما غير أهل هذه الطبقة، فسأشاركهم في الأفكار وأضرب معهم بسهم في الأنظار، إذ مرجعنا جميعا إلى الإطلاع على كتب الأقدمين ودواوين العرب).
ومن تواتيه سانحة الإطلاع على فقرات من كتاب: ‘شرح شواهد الأشموني’ للشيخ عبد السلام السلطاني يبهره أسلوبه في الكتابة الذي ابتعد فيه عن التقليد والالتزام بالسجع الممل على عادة معاصريه من أهل المحبرة والقلم، وتعقبه فيه أساليب اللغويين القدامى كابن جني، وغيره. ويعجب بسعة إطلاعه وإلمامه بأقوال كبار النحويين وطريقته في الموازنة بينها، وتغليبه للأسلم والأصوب عن غيره، وطرحه لآرائه طرحا حجاجيا يدل على التمكن والإطلاع. ومما يؤكد أن الشيخ عبد السلام السلطاني قد سبق الكثير من علماء عصره بفضل نظراته وفكره المتنور والمنفتح على وزن مستجدات عصره بميزان العقل ما كتبه في ما يخص الاكتشافات العلمية التي عاصرها، حيث يقول: (… الذي يهم المسلم هنا من حيث دينه هو ألا يعتقد أن هذا شيء مخالف للقرآن، فيرى أن الكلام فيه إلحاد، فيكون غبيا مستحمقا غمرا. وأن لا يظن أن ما توصل إليه الباحثون في هذا أمر قصرت عنه نصوص الشرع، وأنه شيء جديد، فيطرح نصوص القرآن من أجله، فيصبح كافرا ممسوخ القلب مظلم البصيرة).
تجدر الإشارة إلى أن ‘ابن مالك’ الذي يعد من أئمة علم النحو هو محمد بن عبد الله بن مالك الطائي الجَيَّاني (600 هـ ـ 672 هـ)، وتعود أصوله إلى قبيلة طيء العربية، وينسب إلى جيَّان (بفتح حرف الجيم وحرف الياء المشددة) بالأندلس. وأما مؤلفه المذكور، أي ألفية ابن مالك، فهو متن ضمنه قواعد النحو والصرف في منظومة شعرية محكمة بلغ عدد أبياتها ألفا وبيتين. ونظرا لسهولة ألفاظها، وخلوها من الشارد والغريب، اهتم طلبة العلم بحفظها والتباري فيها. وكانت تحفظ في الكتاتيب والزوايا والمعاهد في بلاد المغرب العربي. وقد شرحت عدة مرّات من طرف المهتمين بها، ومن ذلك شرح أبو الحسن علي نورالدين بن محمد بن عيسى المعروف بـ ‘الأشموني’ نسبة إلى قرية ‘أشمون’ في مصر، والمتوفي سنة 1522م. ويعتبر هذا الكتاب من بين أكثر الكتب مدارسة وتداولا لغزارة مواده، وتمكنه من الإحاطة الشاملة بقواعد الألفية، وبسطه للحلول الملائمة لألغازه التعليمية، وتوسعه في شرحها، ومقابلته بين الأقوال والرؤى. وقد استقى شواهده من القرآن الكريم ومن الشعر العربي.
وللشيخ عبد السلام السلطاني كتاب قيم ثان سماه: ‘تحفة الخليل في حل مشكلة من مختصر خليل’. وإن لم أطلع على هذا الكتاب، إلا أنه يتراءى لي أنه يظهر عبقرية صاحبه في علم الحساب وقدرته على تبسيط المعرفة لتأخذ سبيلها إلى الأذهان من دون كبير عناء قد يسبب تنفيرا أو انقطاعا. وامتدح الشيخ عبد الحميد بن باديس مؤلف تلميذه هذا الذي وفق في حل مسألة طالما استعصت على كثير من الأفهام، كما قال في تقريظه المدحي له.
لم يكن من نصيب الشيخ عبد السلام السلطاني العنوانان المذكوران دون غيرهما، وإنما كانت له أعمال أخرى ضاعت أوراقها، ومنها كتاب: ‘الإرشاد إلى تاريخ تيمقاد’ الذي وضعه لما اشتغل في زاوية ‘ابن رحال’ في قرية ‘توفانة’. وكتاب: ‘تاريخ الكاهنة’ الذي ألم به نفس المصير الذي شمل سابقه في الذكر.
يتضمن كتاب: ‘العلامة عبد السلام بن عبد الرحمان السلطاني’ الجديد الذي تأخرت رؤيته كثيرا، مما سيزيد في الإقبال عليه اقتناءً ومطالعة. ولكن، اعتقد أن مضامينه تحتاج في بعض جوانبها إلى تعديلات وإعادة تنظيم وتدقيق وتوسيع ومراجعة تبويبه وإحالاته، إن أمكن، حتى يكون له مكان في مصاف الكتب المرجعية، وحتى تتضاعف عبارات الثناء والإعجاب المرسلة لمؤلفه.