هل هناك مفارقة في خروج الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر عن التقليد المعروف لدى الرؤساء السابقين بعدم انتقاد الرئيس المقيم في البيت الأبيض وبين مزاح الرئيس دونالد ترامب في لقائه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعدم التدخل في الانتخابات الرئاسية؟ وهو عين ما قاله كارتر في حينه إن الرئيس الحالي “غير شرعي” لأن الروس هم الذين تدخلوا من أجل تنصيبه رئيسا للولايات المتحدة. وجاءت تصريحات كارتر في مؤتمر لمنظمة حقوق الإنسان في مركز كارتر حيث قال إن تحقيقا واسعا يِكشف أن ترامب “لم يفز بانتخابات عام 2016″ و”قد خسر الانتخابات ووضع في المكتب بسبب تدخل الروس نيابة عنه”.
وكان ترامب قد التقى الجمعة مع بوتين في قمة العشرين التي عقدت في مدينة أوساكا اليابانية. ويبدو أن الرئيس يجد متعة في السخرية من ناقدي علاقاته مع الروس من خلال تأكيدها. ففي كل مرة تسنح له الفرصة لأن يتخلص من الشكوك بشأن علاقاته مع الروس يفعل غير ذلك، كما ورد في تقرير بمجلة “بوليتكو” (28/6/2019)، فقد عاند مستشاريه الذين نصحوه بعدم تهنئة بوتين بانتخابه من جديد عندما تحدث معه في آذار (مارس) 2018 بل ذهب أبعد من هذا عندما قال إن شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا هي أرض روسية. وفي قمة هلنسكي بعد شهر من العام نفسه صدق على ما يبدو تأكيدات بوتين بأن بلاده لم تتدخل في الانتخابات الرئاسية رغم شهادة المخابرات الأمريكية التي أكدت حدوث هذا.
وعادة ما تعبر تصريحاته عن رغبة بالتخلص من سيطرة مستشاريه عليه ورفضه الاستماع لما يطلبون منه عمله. وفي العادة ما تخلق تصريحاته عاصفة في واشنطن بين الجمهوريين والديمقراطيين. لكنه يعتقد أن استراتيجيته هذه لا تضر به سياسيا بل على العكس تساعده على مهاجمة ناقديه ووصم تحقيقاتهم بأنها ملاحقة وتصيد من أعدائه الديمقراطيين والإعلام. وهو بهذه الطريقة يقوم بمخاطبة قاعدته الانتخابية التي تتعاطف معه في العادة. وفي مقابلة مع صحيفة “فايننشال تايمز” الأسبوع الماضي وصف بوتين الرئيس الأمريكي الذي يدعوه بدونالد بالسياسي الموهوب الذي يعرف جيدا توقعات الناخبين منه.
الضحية والمنتصر
وهذا ما يهم بالنسبة لترامب الذي بدأ حملته الانتخابية مبكرا رغم أنه على حد تعبير مجلة “إيكونوميست” (20/6/2019) لم يتوقف عن الحملات الانتخابية طوال العامين والنصف الماضيين. وقدم أوراق إعادة انتخابه قبل عامين وأقام عددا كبيرا من التجمعات الانتخابية الضخمة، ومن هنا فإعلانه الرسمي عن بدء الحملة الانتخابية في مركز أماوي بأورلاندو في 18 حزيران (يونيو) 2019 ، جاء كالعادة مصحوبا بالصراخ عن “الأخبار المزيفة” وارفق هذا بلعب دور الضحية والمنتصر وهو أسلوب يعبر عن حالته العقلية وطريقته السياسية. وزعم أنه أنجز ما لم ينجزه أي رئيس من قبله، بدون أن يقدم أدلة قوية ومعلومات حول ما أنجزه. وبالغ في حديثه عن الجدار الذي يقوم ببنائه على الحدود مع المكسيك لمنع المهاجرين من الوصول إلى أمريكا. وقدم صورة غير صحيحة عن النظام الضريبي الذي وقع عليه. وتحدث بطريقة غير دقيقة عن حجم الضريبة التي فرضها على البضائع الصينية. ثم عاد ولعب دور الضحية حيث اشتكى من الأعباء التي واجهها والملاحقة التي تعرض لها أكثر من أي رئيس أمريكي من قبله، في إشارة لتحقيقات المحقق الخاص روبرت موللر في التدخل الروسي. وتوصل المحقق الخاص للكثير من الادلة عن تجاوزات الرئيس لكنه لم يتعرض لأي قصاص أو عقاب. وتردد معارضوه الديمقراطيون بمحاكمته كما تفعل المعارضة عادة. ورغم ذلك لم يحصلوا من الرئيس على ثناء أو تقدير بسبب ضبط النفس بل هاجمهم وقال “معارضونا الديمقراطيين الراديكاليين تدفعهم الكراهية والغضب” و “يريدون تدميركم ويريدون تدمير بلدكم”.
ليست عن الاقتصاد
ربما أقنع ترامب أنصاره بأن سياساته الداخلية أنعشت النمو الاقتصادي بنسبة 3% إلا أن إعادة انتخابه لا تقوم على فكرة الاقتصاد بل على محاولة إقناع الجماهير المترددة التي يمكن أن يقنعها أي طرف، وهذه النسبة تتقلص منذ سنين وقبل دخول ترامب وسياساته الانقسامية. فنسبة 51% من الأمريكيين راضين عن سياساته الاقتصادية، وبالمقارنة فنسبة الدعم الشعبي له لم تتغير عن 46% وهي النسبة التي حصل عليها عام 2016 وربما انخفضت بعدة نقاط. وهو الرئيس الأمريكي الوحيد الذي لم تصل نسبة الرضى العام عن أدائه إلى 50%. ومن هنا فمن أجل الفوز مرة ثانية عليه الفوز بالولايات ذات الغالبية في نظام الحصص الانتخابية، مثل فلوريدا وأوهايو. ولكنه يواجه مشكلة، فكما أظهرت نتائج الانتخابات النصفية العام الماضي فالطبقة العاملة التي جندها بدأت تفقد الثقة به. ومناها قبل أربعة أعوام بالوعود التي جمعت ما بين الاقتصاد الأبوي والسياسة القائمة على الهوية. ولم يبق من أجندته سوى السياسة القائمة على الهوية. وبعد فشله في توفير النظام الصحي العام وإحياء صناعة الفحم الحجري أو إصلاح المدن الصناعية المهملة فإنه يحاول اليوم إقناعهم وتكرار الوعود نفسها. وربما وجد ترامب طريقة للتغلب على هذا الوضع لو وقع اتفاقية تجارية مع الصين أو من خلال العودة إلى السياسة القائمة على الهوية بما فيها من تركيز على السلاح والهجرة والجريمة، ولهذا السبب أعلن من أورلاندو عن عمليات طرد ملايين المقيمين غير الشرعيين. ومن المبكر التكهن بما ستؤول إليه الحملة الرئاسية التي يعتقد البعض أنها ستكون الأشرس في تاريخ الانتخابات الرئاسية، إلا أن من السهل تصور الطريقة التي سيدير بها ترامب حملته والتي قد تكون نسخة طبقة الأصل عن حملته لعام 2016.
الديمقراطيون
وفي النهاية فحظوظه تعتمد على الحزب الديمقراطي ومن يختار لمواجهته. وفي ضوء هذا بدأ الديمقراطيون حملاتهم الاولى ومناظراتهم التي عقدت على مدى يومي الأسبوع الماضي وشاركت فيها نساء وركز فيها المتناظرون على قضايا تهم الاقتصاد والصحة والعقد الأخضر ولم يذكر فيها ترامب إلا عددا من المرات، أي لم يكن مركز اهتمامات الديمقراطيين في المرحلة الحالية. ومن الواضح أن شعار ترامب سيركز على “أمريكا عظيمة” و”وعود أنجزت” والتحذير من الديمقراطيين باعتبارهم خطرا على أمريكا ودستورها وقيمها لأنهم في نظره حفنة من الاشتراكيين اليساريين. ومثلما نجح ترامب بالكذب والمبالغة ربما ينجح في الانتخابات المقبلة، وكل هذا يعتمد على من يختاره الديمقراطيون وانعكاسات سياسته الخارجية على الوضع المحلي، صحيح أن السياسة الخارجية لا تحصل على حصة كبيرة في اهتمامات الناخبين لكنها تصبح مركزية لو كانت أمريكا تنزف من حرب خارجية. فقد فاز باراك أوباما في انتخابات عام 2008 على ورقة سحب القوات الأمريكية من العراق وإنهاء المغامرة الكارثية التي ورط فيها جورج دبليو بوش أمريكا بغزو العراق والإطاحة بنظام صدام حسين. ولهذا السبب بدا واضحا من تصريحات ترامب بعد قرار وقف الضربة الأمريكية الانتقامية ضد طهران التي أسقطت طائرة أمريكية مسيرة أن الصقور يحاولون توريطه بحرب غير ضرورية في الشرق الأوسط. ونقلت صحيفة “وول ستريت جورنال”(23/6/2019) عن مسؤول أمريكي قوله إن ترامب وصف الحرب بالمقززة وعبر عن مخاوفه من تأثير الحرب مع إيران على قاعدته الانتخابية التي لن ترضى بالحرب. ويرى الكثير من المعلقين أن الطريقة التي يدير فيها ترامب الملف الإيراني القائم على استراتيجية أقصى الضغط والتهديدات بمحوها إن قتلت أمريكيين تحمل مخاطر اندلاع حرب لا يريدها كل طرف، ويعتقد ديفيد إغناطيوس في صحيفة “واشنطن بوست” (27/6/2019) أن الحروب الكارثية تبدأ عندما تسيء القوى العظمى تقدير رد فعل الأمم الضعيفة وهذا هو الدرس الواضح من الحرب في العراق وأفغانستان، حيث اعتقدت الولايات المتحدة أنها قادرة على تحقيق نصر حاسم ضد عدو ضعيف. ويرى إغناطيوس أن تصريحات ترامب لفوكس نيوز يوم الأربعاء عبرت عن غطرسة عامة بين القوى العظمى طوال التاريخ. وأكد فيها أن الحرب مع إيران “لن تستمر طويلا” وأن المعركة ستكون محدودة “فأنا لا أتحدث هنا عن جنود على الأرض”. ويقول إغناطيوس: “لو قرأ ترامب التاريخ لاكتشف ضعفا يتكرر في سياسته الخارجية، فالحروب الكارثية تبدأ عندما تتجاهل القوى العظمى حاجة الأمم الضعيفة الحفاظ على كرامتها. ويعتقد ترامب، على ما يبدو أنه يستطيع إهانة القادة الأجانب لدرجة ما ثم يخفف من حدة غضبهم بالتودد إليهم ودعوتهم للتفاوض”. ويرى الكاتب أن علامة سياسة ترامب في السياسة الخارجية التي تجمع بين الإهانة ثم التملق لم تنجح بشكل جيد، فلا يزال يواجه طريقا مسدودا مع أعداء مثل كوريا الشمالية وإيران والفلسطينيين وفنزويلا والصين. كما أساء بدون داع إلى الحلفاء مثل فرنسا وألمانيا واليابان. وكانت إهانته لليابان التي قال إنها تعتمد على النفقات الأمريكية هو هبوط جديد وللقاع. ويقول: “لم نكن بحاجة لأن نكون في هذا الوضع، ولم يكن ترامب حكيما عندما قرر الخروج من الاتفاقية النووية التي كانت ناجحة، ومضايقته الحلفاء الأوروبيين أن أمريكا بحاجة إلى احتواء سلوك إيران في المنطقة، ولم يحسب ترامب ومستشاروه حساب مقاومة خامنئي لاستراتيجية أقصى ضغط” وعلى ترامب “معرفة أنه يدخل في منطقة خطرة، سياسية وعسكرية أيضا، وربما فهم أن حربا غير ضرورية مع إيران هي
الطريق لهزيمته في انتخابات 2020″.
فرصة
ومثلما كان العراق فرصة أوباما للفوز فأجندة ترامب الخارجية قد تكون فرصة ذهبية للديمقراطيين للفوز في 2020. وحسب الباحثة دينا سميلتز، بمقال في “فورين أفيرز”(26/6/2019) تحدثت فيه عن السياسة الخارجية التي قد تصبح المحور الرئيسي في الانتخابات المقبلة، ويمكن للديمقراطيين استغلال نقاط الضعف فيها لصالح حملتهم. وترى الكاتبة أن ترامب كان وفيا لوعوده الانتخابية مثل الخروج من الاتفاقية النووية ومعاهدة باريس للمناخ ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس والضغط على الصين في مجال التجارة، وهي وعود نفذها سواء وافق عليها معظم الأمريكيين أم لا. ولكن سياسات ترامب هذه تظل غير شعبية حسبما أظهرت الاستطلاعات وهي على طرف النقيض من رؤية الديمقراطيين الداعمة للتعاون الدولي والتحالفات التقليدية. ويدعم الديمقراطيون بشكل طاغ الاتفاقية النووية مع إيران. وحسب استطلاع لمركز بيو، قالت نسبة 70% من الديمقراطيين أن تحسين علاقات أمريكا مع الحلفاء يجب أن يكون هدف السياسة الرئيسي. وتقول غالبية منهم أن علاقة أمريكا مع العالم تتدهور. ومقارنة مع الناخب العام يشير استطلاع أن نسبة 56% من الأمريكيين ترى أن علاقة بلادهم مع العالم تسوء فيما قالت نسبة 57% أن أمريكا تخسر حلفاءها. وتقول الكاتبة إن تأثير ترامب وظروف انتخابه يمكن ملاحظتها من الطريقة التي يتعامل فيها الديمقراطيون مع التهديدات الخارجية. فرغم اعتبار الرأي العام الإرهاب وكوريا الشمالية والهجمات الالكترونية من أكبر التهديدات، ترى غالبية الديمقراطيين أن التهديد الروسي هو الأهم. واستنادا إلى استطلاعات غالوب فهناك زيادة نسبية بين الديمقراطيين الذين يرون في القوة العسكرية الروسية تهديدا، 60% عام 2019 بزيادة عن 38% عام 2016. وفي الصين قالت نسبة 54% من الجمهوريين ان القوة الاقتصادية الصينية تهديد حرج مقابل 37% من الديمقراطيين وفي السياق نفسه في قضايا المناخ والهجرة حيث تتباين المواقف ولكن المواقف الديمقراطية من هذه القضايا تظل محكومة بدور أمريكا في العالم والتعاون في التحالفات والمنظمات. وهذا مهم لو استطاع المرشح الديمقراطي المقبل استغلالها وأعاد الاعتبار لصورة أمريكا التي شوهتها سياسات ترامب القائمة على إهانة الحلفاء ثم التملق لهم.