التحدّي الأبرز أمام الحكومة والمجلس في بناء علاقة تعاون بينهما تفتح الطريق أمام «كويت المستقبل» لمواجهة التحديات الاقتصادية والتنموية الداخلية وتلك الخارجية في إقليم يُرتِّب أوضاعه على وقع تحوُّلات كبرى.
لا ضمانات مُطلقة بأن مشهد التأزم السياسي لن يتكرر في الكويت. صحيح أن انتخابات مجلس الأمة التي جرت في السادس من حزيران/يونيو جاءت نتيجة حلَّ ولي العهد مشعل الأحمد الجابر الصباح لمجلس 2020 برئاسة مرزوق الغانم بعدما أعادته المحكمة الدستورية التي قضت ببطلان مجلس 2022 برئاسة أحمد السعدون، إلاّ أن الصحيح أيضاً أن علاقة التعاون بين السلطتين التنفيذية والتشريعية لم تدم سوى لأشهر قليلة، وما لبثت أن تأزمت على خلفية مشاريع قوانين شعبوية رفضتها الحكومة، وفي مقدمها مشروع قانون إسقاط قروض الكويتيين المتعثرة.
جاء «مجلس أمة 2023» ليُعيد 76 في المئة من نواب مجلس 2022 المُبطل. اقتصر التغيير على 24 في المئة. عشرة وجوه جديدة ونائبان سابقان أبرزهم رئيس مجلس الأمة المُنحل مرزوق الغانم الذي لم يترشح في انتخابات أيلول/سبتمبر الماضي، معتبراً يومذاك أن قرار عدم ترشّحه هو قرار مرحليّ وستعقبه عودة ذات تأثير أقوى. حلَّ المرزوق في المرتبة الأولى في دائرته (الثانية)، وهو لم يكشف بعد ما إذا كان سيترشح لرئاسة المجلس في وجه أحمد السعدون الذي أعلن ترشيحه ويحظى بأصوات غالبية النواب الذين محضوه الثقة لرئاسة مجلس 2022. وسيبقى بمقدور المرزوق – في حال عدم ترشحه – تشكيل كتلة مُعارضة قادرة على التأثير في توازنات المعادلة الجديدة.
مراقبون كويتيون يستبعدون أن تبقى الحكومة، والتي يُشكِّل وزراؤها أعضاء حكميين في البرلمان، على «نهج الحياد» الذي سبق أن اعتمدته في مجلس 2022 انطلاقاً من خطاب الأمير نواف الأحمد الجابر الصباح في 22 حزيران/يونيو 2022، والذي ألقاه نيابة عنه ولي العهد مشعل الجابر الصباح، داعياً يومها «الشعب لأن يقوم بنفسه ليقول كلمة الفصل في عملية تصحيح مسار المشهد السياسي» متعهداً بـ«عدم التدخّل في اختيارات الشعب لممثليه، وفي اختيارات مجلس الأمة لرئيسه أو لجانه المختلفة والوقوف من الجميع على مسافة واحدة» تاركاً اللعبة بشكل كليّ بيد نواب المجلس المنتخبين.
سيتضح حتى العشرين من الشهر الجاري، موعد انعقاد الجلسة الافتتاحية لمجلس الأمّة الجديد، المسار الذي ستسير عليه البلاد، ولا سيما مع تركيبة الحكومة الجديدة والاتجاهات التي ستتحكم في انتخابات هيئة مكتب المجلس واللجان البرلمانية، وما إذا كانت ستنحو باتجاه التهدئة بين السلطتين أم ستُفضي إلى تأزم جديد في المشهد السياسي والعودة إلى المربع الأول. حظوظ السعدون هي الأقوى بالعودة إلى رئاسة مجلس الأمة الذي حملت انتخاباته جملة دلالات ورسائل من الناخب الكويتي إلى ممثليه. نسبة التصويت التي صدرت رسمياً بلغت 51.39 في المئة، وقرأها المحللون على أنها نسبة جيدة، وأنه تمّت الاستجابة للدعوات بالمشاركة في مواجهة دعوات للمقاطعة. وبالرغم من أن نسبة التغيير اقتصرت على 24 في المئة من المجلس، فإن محللين على إطلاع وثيق بالشأن الكويتي توقفوا عند دلالات الأرقام التي حصل عليه المرشحون، واعتبروا أن ثمّة تبدلاً في مزاج الناخب الكويتي الذي لم تعد تستهويه الطروحات الشعبوية. ولعل المثال الأبرز يتمثل في وضعية النائب السابق شعيب المويزري حامل لواء «إسقاط الديون عن الكويتيين». المنطق الشعبوي يقول إن المويزري يُفترض أن يتصدّر اللائحة في دائرته (الرابعة) ذلك أن شريحة المقترضين ضخمة، لكنه حلَّ في المركز الأخير وكاد يرسب بفارق أقل من مئة صوت بينه وبين منافسه عبيد الوسمي، الذي حلَّ في المرتبة الحادية عشرة، وخرج من الندوة البرلمانية، فيما تقدَّمت أرقام عبد الوهاب عارف العيسى، المُعارض لإسقاط القروض والذي جرى اتهامه بالوقوف في صف الحكومة وضد مصالح الناس، حيث حل في المرتبة السادسة في دائرته الثانية بـ3031 صوتاً بعدما كان في المرتبة التاسعة في انتخابات 2022 بمجموع 2056 صوتاً.
ويتوقف مراقبون عند الميزة التي تطبع الديموقراطية الكويتية، والتي أجازت لناشطَين اثنين سبق أن سُجنا بأن يشاركا في صنع القرار من داخل المؤسسات بدلاً من الشارع. الأول، هو سعود عبد العزيز العصفور (الهاجري)، الذي فاز عن الدائرة الخامسة في «مجلس أمة 2022» المُبطَل، وكان صدر بحقه حكم إدانة في القضية التي تُعرف بـ«غروب الفنطاس» على تطبيق «الواتس آب»، وهي عبارة عن ضبط محادثات بين مجموعة تمَّ تصنيفها بأنها تُسيء لرأس الدولة. أما الثاني، فهو حمد العليان (الدائرة الثالثة) الذي سبق له أن دخل السجن لمشاركته في تظاهرات ما يُسمى بـ«فترة الحراك الشعبي» قبل أكثر من عشر سنوات. ويستعيد هؤلاء المراقبون سيرة أستاذ الفلسفة الإسلامية الدكتور أحمد الربعي الذي شارك في «ثورة ظفار» واتهم يومها بالتخطيط لعمليات اغتيال وتخريب داخل الكويت، ثم صار أحد أبرز الوجوه النيابية في مجلس الأمة والوجوه الوزارية في الحكومة الكويتية.
إشارة إلى أن سعود العصفور حصد نسبة التصويت الأعلى ليس في دائرته فقط بل في الدوائر الخمس، محققاً رقماً قياسياً (12784 صوتاً) في تاريخ انتخابات الكويت على أساس الصوت الواحد، مطيحاً بالرقم الذي سبق أن حققه أحمد السعدون في الدورة الماضية (12269 صوتاً)، لكنه تراجع هذه الدورة بشكل لافت إلى (6325 صوتاً) ليحل في المرتبة الثانية في دائرته (الثالثة).
«مجلس أمة 2023» شهد تقدّماً للكتلة الإسلامية من الإخوان المسلمين، والسلف، والمحافظين، والقبليين. المخاطر المتأتية من تعزيز تلك الكتلة لحضورها في البرلمان هي أن رموزها سبق أن وقّعوا قبل انتخابات 2022 «وثيقة القيم». وأعلن بعضهم أن الكتلة ستسعى لأمرين، الأول: متابعة تطبيق ما جاء في الوثيقة التي تتضمن اثني عشر بنداً أبرزها منع الاختلاط، وإقفال المسابح المشتركة بين الجنسين، وفرض إجراءات رقابية على السلوكيات والهندام في الأماكن العامة، ومنع المهرجانات وحفلات الرقص… وغيرها. والثاني: تعديل المادة 79 من الدستور بحيث تصبح الشريعة هي المعيار لنفاذ أي قانون. وهي «الوثيقة» التي أثارت جدلاً واسعاً بين الكويتيين، ودفعت بالمعارضين إلى وصفها بـ«وثيقة قندهار» محذرين من «أفغنة» الكويت. ما يتخوَّف منه المراقبون أن مشروع الإسلاميين الذين يُقارب عددهم نصف أعضاء المجلس الحالي سوف يصطدم بمعارضة الحكومة، وهو ما قد يكون أحد عوامل تأزم المشهد السياسي، ولا سيما أن مشاريع التنمية التي تطمح القيادة السياسية إلى تنفيذها للالتحاق بركب جيرانها في الخليج العربي تحتاج إلى أجواء من الانفتاح والاستقرار.
وفيما كان هناك تأثير ملحوظ للقبائل في هذه الانتخابات، كما سابقاتها، نظراً إلى قدراتها في تجيير أصواتها لمرشحيها، فإن «مجلس 2023» شهد تراجعاً في مقاعد الشيعة من تسعة مقاعد إلى سبعة، والأهم أنه شهد تراجعاً في التموضع السياسي المذهبي (التآلف الإسلامي والشيرازيين) إذ إن خمسة من سبعة نواب هم من المستقلين (حسن جوهر، وجنان بو شهري، وأسامة الزيد، وشعيب شعبان، وداوود معرفي)، وقد نجح بعضهم بأصوات السُّنة، فيما وصل نائبان (أحمد لاري وهاني شمس) عن التآلف الإسلامي الذي يُؤمِن بخط الإمام القريب من إيران و«حزب الله»، وسقط الخط الشيرازي (صالح عاشور، وخليل صالح)
على أن الضعف الأساسي الذي أظهرته الانتخابات تجلّى في الترشح الخجول للمرأة الكويتية (15 من أصل 207) وانخفاض التمثيل النسائي من مقعدين إلى مقعد واحد بخسارة النائبة في «أمة 2022» عالية الخالد، وتمكّن جنان بوشهري من العودة إلى الندوة البرلمانية، ما يُظهر حاجة المرأة الكويتية، أُسوة بكثير من المجتمعات العربية، للعمل على كسب الثقة سواء في أوساط النساء أو الرجال.
يبقى التحدّي الأبرز أمام الحكومة والمجلس في بناء علاقة تعاون بينهما تفتح الطريق أمام «كويت المستقبل» لمواجهة التحديات الاقتصادية والتنموية الداخلية وتلك الخارجية في إقليم يُرتِّب أوضاعه على وقع تحوُّلات كبرى.