انتخابات تونس: قرون استشعار سعيّد

حجم الخط
2

في آخر تحكيم انتخابي شهدته تونس وحظي بدرجة مقبولة من المصداقية والتنافس، أي الانتخابات الرئاسية في خريف 2019، لم يتجاوز مجموع ما حصلت عليه أحزاب اليسار نسبة 3%، ولم يفلح أيّ من المرشحين الثلاثة (حمة الهمامي، منجي الرحوي، وعبيد البريكي) في كسر حاجز الـ1%. للأمر بُعد آخر، يحمل دلالة خاصة سياسية وسوسيولوجية، تتصل بدعم غير معلَن، وإنْ بدا مباشراً في مناطق محددة، من جانب «الاتحاد العام التونسي للشغل»، المؤسسة النقابية الأعرق في البلاد وصاحبة النفوذ الواسع.
على الجانب الآخر من تلك الانتخابات، كانت ترقية المرشحَين قيس سعيّد ونبيل القروي إلى مصافّ المنافسة على بلوغ قصر قرطاج بمثابة إعلان ولادة، أكثر مما هو إحياء وانتعاش، لنهج محافظ وعصامي حالم لدى الأوّل، ومالي واستثماري وإعلامي لدى الثاني؛ على خلفية أولى هي نزوع الشارع الشعبي إلى إنزال العقاب ببرلمان عالي الصخب وعقيم الفعل، وأحزاب متقادمة أو مستحدثة هيمنت على المشهد بعد إسقاط نظام زين العابدين بن علي فتصارعت حول القشور وليس على أيّ جوهر ينفع الشعب؛ وخلفية ثانية تجسدت في مشاغل الناس اليومية إزاء الغلاء والبطالة وانحطاط الخدمات.
وكي يبقى المرء في سياق استئناس دروس تلك التجربة الانتخابية اليتيمة، ثمة ما يستوجب التوقف أيضاً عند سلسلة خيارات طبعت سلوك «حركة النهضة» بعد انتخاب سعيّد، وخلال حملات الانتخابات التشريعية، تشرين الأول (أكتوبر) 2019؛ مثل تلهّف الحركة على توظيف الشعبية الملحوظة التي تمتّع بها سعيّد خلال الرئاسيات، من باب تضخيم ميوله الإسلامية التي تجعله (حتى من باب الإيحاء، أوّلاً) قريباً من «النهضة»، أو حتى مرشحاً لها مقنّعاً أو غير مسمى. المكاسب المرتجاة كانت قصيرة النظر، تكتيكية وآنية، ثمّ انتهازية استطراداً، لأنها طمعت في جذب ناخبي سعيّد إلى الحركة على حساب «قلب تونس».
شريحة دروس ثالثة يصحّ التماسها لدى «الاتحاد العام التونسي للشغل»، الذي أحجم (كما ينبغي له أن يفعل رسمياً، ضمن مدوّنة الانضباط النقابي) عن إعلان التأييد لهذا أو ذاك من المرشحين، خلال الرئاسيات والتشريعيات على حدّ سواء؛ لكنّ التوجيه الفعلي، الداخلي المبطّن، توجّب أن يتماشى مع الخطّ السياسي والعقائدي التاريخي للاتحاد، من جانب أوّل؛ وأن يُجبر، من جانب ثانٍ، على انتهاج الانحياز تارة إلى سعيّد وأخرى إلى القروي، بالنظر إلى أنّ حلفاء «الاتحاد» في صفوف اليسار كانوا أشدّ هزالاً من أن يكوّنوا كتلة جديرة بالمساندة.
وإذْ دفع اليسار و»النهضة» جملة أثمان باهظة جراء إجراءات سعيّد الانقلابية في تموز (يوليو) 2021، وما أعقبها من تدابير تسلطية واستبدادية وتنكيلية طالت القضاء والإعلام والدستور ذاته الذي استخدمه الرئيس التونسي لتسويغ انقلابه؛ فإنّ مواقف «الاتحاد» تذبذبت وتقلّبت وتنقّلت بين تأييد سعيّد مرّة، أو العتب عليه مرّة أخرى، أو إنذاره باللجوء إلى الإضرابات وتحريك الشارع، وصولاً إلى الامتناع عن وضع الانتخابات التشريعية الأخيرة تحت تصنيف المهزلة واللجوء بدل ذلك إلى اعتبارها بلا طعم أو لون!
وخلف جشع طافح إلى السلطة والانفراد بها، واستهزاء حتى بالمسوخ التي يخلقها بنفسه، واستهتار بالنصوص ذاتها التي يفرض صياغاتها بما في ذلك الدستور/ الأضحوكة، وأبعد من فصاحة مقعرة معوجّة لا تنقل من إفادة سوى التلاعب على مدلولات المعنى… لا يفتقر سعيّد إلى حسّ تكتيكي ذرائعي تماماً، وقرون استشعار متنبهة قنّاصة، حول ما يتبقى في نفوس أبناء تونس من مقادير سخط تكدّست وتشعّبت وتفاقمت على مدى 12 سنة، ضدّ أحزاب وبرلمان وقوى لم تفعل ما يفوق تصعيد النموذج الانقلابي الراهن.
وما خلا انفجارات الشارع الشعبي الوشيكة، يتنعّم سعيّد بعناية أمثال جو بايدن وإيمانويل ماكرون وعبد الفتاح السيسي ومحمد بن زايد و… منجوي الرحوي!

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سعيد فرنسا:

    داخليا فهمناها، العسكر وراء قيس سعيد و يضمنون بقاءه في الحكم. لكن خارجيا، من يدعمه ؟

  2. يقول أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا:

    شكرًا أخي صبحي حديدي. الوضع في تونس أصبح واضح تمامًا السؤال المطروح وماذا بعد، ماذا عسى قيس سعيد الذي تلقى صفعة أشبه بالضربة القاضية أن يفعل! هل سيتصرف كرئيس بحس المسؤولية أم سيستمر بخطاب طويل يبرر فيه عبثًا متابعة الطريق الذي فشل فشلًا ذريعًا. وبماذا عساه يتمسك؟ الشعب رفض انتخاباته ورفض سلوكه وهو الآن بطة عرجاء بل بطة كسيحة! لقد حان الوقت لمواجهة الواقع وعدم الهروب إلى الأمام كما في السابق!

إشترك في قائمتنا البريدية