لولا غرائب نظام الاقتراع التونسي لكانت الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية التي تعقد الأحد مقتصرة على ستة مرشحين أو سبعة على أقصى تقدير، ولأمكن تنظيم مناظرة تلفزية، أو أكثر، تطرح فيها الأسئلة ذاتها على جميع المرشحين، بحيث يتسنى للمشاهدين تقييم جواب كل مرشح مقارنة بأجوبة منافسيه. إذ على هذا النحو تجري المناظرات التلفزية في موطنها الأمريكي منذ عقود: سؤال واحد، فأجوبة متعددة بعدد المتناظرين، ثم سؤال آخر، الخ. بل إن وحدة السؤال أو الموضوع تقع في الأساس من تعريف المناظرة عند العرب واليونان منذ القديم. ولكن بما أن الزحام الرئاسي التونسي اتسع لما لا يقل عن 26 مرشحا، فقد لاذ المنظمون بالقرعة آلية محايدة لتوزيع الأسئلة، وبما أن معظم الأسئلة اختلفت من مرشح إلى آخر، فقد انتفت الغاية البديهية من المناظرة. إذ ما معنى أن تسأل مرشحا عن البطالة أو عن ليبيا، ثم تقفز لتسأل مرشحا آخر عن النقاب في الأماكن العامة أو العلاقة مع أوروبا؟!
وما كنا لنتناول هذه المسألة، التي تبدو تقنية أو تفصيلية، لو لا أنها فتحت ثغرات لارتكاب تجاوزات كشفت عن عودة حليمة إلى عادتها القديمة. ولا شك أن من أشنع هذه التجاوزات ما نقله الشاب أسامة العريبي الذي تفاعل معه فيسبوكيون كثر، بينهم معلق إذاعي مشهور، بعد إذ نقل فحوى تسجيل صوتي مثير تم تسريبه من قاعة التحكم في مؤسسة التلفزة العمومية. ويظهر التسجيل أن القرعة شاءت أن يكون السؤال عن الموقف من التطبيع مع إسرائيل من نصيب المرشح يوسف الشاهد، ولكن الإعلاميين القائمين على القرعة تجادلوا ثم اتّبعوا قول من قال إنه لا يجوز إحراج رئيس الحكومة بسؤال «متاع يساريين» وإن من الأسلم طرحه على حمّة الهمامي ممثل اليسار في المناظرة «حتى تمضي الأمور على خير». أي أن بعض الإعلاميين أجاز لنفسه التدخل لـ«تصحيح خطأ» ارتكبته قرعة شاردة يبدو أنها لا تراعي المقامات ولا تعرف أن «جميع المرشحين متساوون ولكن بعضهم متساو أكثر من بعض» – قرعة لا تشاطر هذا النوع من الإعلاميين ذهنيتهم الخانعة التي تعلي «الحاكم»، أيا كان، فوق أسئلة الإحراج والإزعاج.
لا أحد في تونس يصدق الزعم الرسمي بأن اعتقال مدير قناة «نسمة» التلفزية، قبيل بدء الحملة الانتخابية بالضبط، قد تم لأسباب قضائية تتعلق بالتهرب الضريبي
الشاب الذي نقل تفاصيل واقعة «الأسئلة الموجهة بالوجوه»، حسب تعبيره، سرعان ما استدرك، بأسلوب هزلي، بأن أصدقاء عقلاء اتصلوا به ليقولوا إن التسجيل لم يكن لإعلاميين من القائمين على القرعة، وإنما هو مجرد محادثة بين موظفين في مؤسسة التلفزة كانا يعلقان ويمزحان تفاعلا مع مجريات المناظرة! ولكن بما أنه أوضح منذ البداية أن تصحيحات الأصدقاء هذه قد أتت «في إطار الحياد وكذا، وفي إطار سياسة النعامة النمساوية»، فإنه لم يدع مجالا للشك في أن ما كتبه ليس استدراكا، وإنما هو تأكيد لصحة واقعة التزوير. كما قال إن أنصار الشاهد أمطروه بوابل من الشتائم الفيسبوكية، ثم كتب بعد ذلك بيومين يشاكس الشاهد نفسه من مطار فرانكفورت، موحيا بذلك بأنه ربما سافر درءا لمكروه محتمل.
على أن واقعة التزوير هذه ليست عارضة، بل إنها تأتي ضمن سياق قرائن متعددة على شدة التفاوت بين الشاهد وبقية المرشحين. فقد تعددت شكاوى المواطنين من تسخير أجهزة الدولة لخدمة حملته الانتخابية، كما تكاثرت المظاهر الفلكلورية التي كانت مألوفة في عهد الدكتاتور، مثل حشد الجموع والرقص الشعبي في الشوارع ورفع بيارق الأولياء الصالحين. وقد بلغ مشهد الملصقات الانتخابية في مختلف المدن التونسية حد الفجاجة في انحيازه لمرشح «الحاكم» ضد بقية المرشحين، حيث أن صورته تعلو جميع الصور، كما أنها تتجاوز بضخامة حجمها صور دزينة كاملة من المنافسين!
أما القرينة الأقوى على أن هنالك تلاعبا لفائدة رئيس الحكومة، فهو أن لا أحد في تونس يصدق الزعم الرسمي بأن اعتقال مدير قناة «نسمة» التلفزية، قبيل بدء الحملة الانتخابية بالضبط، قد تم لأسباب قضائية تتعلق بالتهرب الضريبي. فالجميع يعلم أن هذا الملف كان مهملا في الأدراج مع ملفات فساد أخرى، وأن التحريك انتقائي وأن سرّه في التوقيت، أي أن الجميع موقن أن سبب اعتقال الرجل هو حظوته لدى الفئات المعوزة وأهالي الأرياف بشعبية واسعة كفيلة بأن تضمن له وفرة فرص الفوز الانتخابي.
كاتب تونسي
كان الاسلم طرح أسئلة تهم حياة التونسيين و حريات التونسيين و مستقبل التونسيين…..أما السؤال عن التطبيع لا يهم سكان الجبال الذين يعانون من الإرهاب و الارهابيين و المجرمين القتلة و تحسين وضعهم المعيشى …..
لقد قلنا إن المناظرات كانت فلكلورية ومصطنعة ومقلدة عن الدول الديموقراطية بطريقة رديئة. وعندما يتبين اليوم أن الأسئلة كانت موجهة ومفصلة على مقاس بعض المرشحين، فمعنى هذا أن الذين كانوا يطبلون ويزمرون لتلك المناظرات ( غير المسبوقة)، إنما كانوا ينفخون في قربة مثقوبة.