أدلى البريطانيوّن يوم أمس بأصواتهم في انتخابات عامّة مبكرة حاسمة، سيكون لها مترتبات كثيرة سواء لناحية السياسات الاقتصادية والاجتماعيّة داخلياً، أو العلاقات مع المحيط الإقليميّ والدّولي خارجيا، وشهدت تنافساً حاداً بين معسكر اليمين الذي يقوده بوريس جونسون – رئيس حكومة تصريف الأعمال وزعيم حزب المحافظين – ومعسكر اليسار الذي يقوده جيريمي كوربن – زعيم حزب العمال المعارض.
وبغضّ النظر عن النتيجة، التي ستعلن أي وقت صباح اليوم الجمعة، فإن طرفاً أساساً في لعبة السياسة والحكم كان سقط بالفعل حتى قبل بدء الاقتراع وعلى الهواء مباشرة أمام الجمهور. إنّه الإعلام البريطانيّ – عاماً كان أم خاصاً – سواء على أثير قنواته التلفزيونيّة المرئيّة، أو صحافته المطبوعة، أو حتى عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
انحياز بلا خجل، وكذب وخداع: أي ديمقراطيّة هذه؟
معروفٌ أن الصحافة البريطانيّة المطبوعة مملوكة بالكليّة لعدد قليل من مفرطي الثراء – أمثال الملياردير روبرت مردوخ – الذين لا يخفون انحيازهم السافر لمعسكر المحافظين، وتناقضهم الوجودي مع سياسات العمّال، وشخص كوربن بالتحديد. وبالطبع فإن تلك الصحف حفلت بتغطيّات ومقالات تفتقد لأبسط مقومات النّزاهة الصحافيّة، أو أيّ احترام لعقل قرائها، وبذلت غاية جهدها لتصوير كوربن كما لو كان نسخة بريطانيّة عن ستالين ذاهبٌ لتحويل المملكة إلى اتحاد سوفييتيّ جديد، يأتمر بأمر موسكو، وعدوّاً لليهود وإسرائيل، وصديقاً «للإرهابيين» الفلسطينيين والفنزويليين. وبالطبع تلك كلها تلفيقات بائسة لا أساس لها من الصحّة، وتستمد مادتها من بروباغاندا الحرب الباردة التي لم تعد ذات صلة في وقتنا الرّاهن. لكن يبدو أن الجمهور البريطانيّ قد يئس تماماً من صحافته، فانصرف عنها غير آسف إلى مصادر معلومات أخرى، لدرجة أن صحيفة عريقة مثل «ذي غارديان»، التي كانت تبيع يومياً أكثر من مليون نسخة ، بالكاد تتمكن من تصريف 100 ألف هذه الأيّام، بينما لا تجد النخبة حرجاً من التبجح ببريطانيا أماً للديمقراطيّة، وإعلامها المكتوب برمته في يد حفنة منحازة ضد الأكثريّة.
وإذا كانت قصّة الصّحافة المكتوبة معروفة، ومتوقعة، ولا أمل منها، فإن السّقوط المدوّي في هذه الانتخابات كان بالفعل من نصيب القنوات التلفزيونيّة وعلى رأسها بالطّبع تلفزيون هيئة الإذاعة البريطانيّة «بي بي سي» التي هي من المفترض مؤسسة وطنيّة، ممولة بالكامل من ضرائب المواطنين ومع ذلك اختارت تقديم تغطيّة سافرة الانحياز للمحافظين ومعادية لكوربن.
أفخاخ إعلاميّة وشرائط مزورة وفضاء مفتوح لطرف دون الآخرين: هنا لندن!
تقول دراسة علميّة أصدرتها إحدى الجامعات (Loughborough University) بأن التلفزيونات البريطانيّة ساعدت بوريس جونسون في استراتيجيّة فريقه الإعلامي لصرف أنظار الناخبين عن القضايا الحرجة التي تواجههم كمواطنين وتحويل الصّراع الانتخابي برمّته إلى استفتاء حول مسألة العلاقة بالاتحاد الأوروبي – البريكست – أساساً. فجونسون الذي يمتلك أجندة يمينيّة تدعم مصالح المال والأعمال، وتخفف عنهم الضرائب على حساب الأكثريّة الأجيرة والفقراء، ويريد بيع قطاع خدمة الصحّة العامة بأكمله للشركات الأمريكيّة، ليس من مصلحته فتح مناقشات علنيّة حول هذه الأمور، ولذا تمّ مركزة النقاشات حول بريكست العتيد. بل إن تلفزيون سكاي – الذي باعه روبرت مردوخ ذاته ملك الصحافة لشركة أمريكيّة في صفقة ستنفذ قريباً – عنون تغطيته الانتخابيّة كلها وبنى ديكورات استديوهاته حول «انتخابات بريكستيّة». وتقول الدّراسة ذاتها إن كميّة الوقت المخصص لتغطيّة مواقف ومقابلات المحافظين كانت ثلاثة أضعاف تغطية الآخرين، على الرّغم من أن دستور العمل في «بي بي سي» مثلاً ينصّ على تقديم تغطية متوازنة للأحزاب الكبرى، ناهيك عن أن صيغة تناول مواقف العمّال كانت تخصص غالباً للهجوم عليها والسخريّة منها.
تلفزيون «بي بي سي» الذي تلقى سيلاً من آلاف الرسائل المعترضة على منهجية التغطيّة (أكثر من 10 آلاف رسالة خلال أسبوعين)، لم يلق بالاً لغضب الجمهور واعتبره طبيعياً في وقت حساس سياسياً وقبل موعد الانتخابات بأيّام معدودات. لكنه اضطر للاعتراف بحدوث خطأ – غير مقصود – في وضع شريط قديم لجونسون وهو يضع إكليلاً من الزهور على نصب قتلى الحرب العالميّة لإخفاء الموقف المحرج له هذا العام عندما وضع الإكليل بالمقلوب.
ولم يقتصر الأمر على ذلك، إذ أن إدارة «بي بي سي» اتفقت مع قيادة حزب العمال باستضافة جيريمي كوربن في برنامجها السياسي الرئيس الذي يديره صحافي يميني معروف (أندرو نيل) رغم عدائه لكوربن وفق اتفاق أدبيّ على أن نيل اللاذع سيلتقي أيضاً بوريس جونسون. وبينما خاض كوربن المواجهة العلنيّة القاسية مع نيل فإن «بي بي سي» لم تفِ بتعهدها، ولم تُعرّض جونسون للمقابلة نفسها، وهو ما اعتبره حزب العمّال بمثابة كمين نفذته «بي بي سي» لمصلحة جونسون المعروف بكونه أخرق في المقابلات التلفزيونيّة، ولا يمتلك حتى برنامجاً يستحقّ المناقشة أصلاً، لدرجة أنه قُبِض عليه آخر أيام الحملة الانتخابية مختبئا في براد لتجنب الإجابة على أسئلة الصحافيين.
هجمة شرسة على فيسبوك وأخواتها: الغلبة للمال!
ولم تكتف النّخبة بهيمنتها التامة على الصحافة والتلفزيون، بل نقلت حربها ضد العمّال إلى مواقع التواصل الاجتماعي، إذ أنفق المحافظون رقماً غير محدد – بملايين الجنيهات – من أموال داعميهم الأثرياء لعرض مجموعة أشرطة دعائيّة مصوّرة على فيسبوك، وغوغل، ومواقع التواصل الاجتماعي الأخرى تروّج للمحافظين وتهدد من خطورة الوصول إلى حالة تعادل انتخابي تؤدي إلى برلمان معلّق. والمؤكد حسب مراقبين للشبكة السيبيريّة فإن فريق المحافظين يطلق أكثر من 2600 إعلان انتخابي يومياً على فيسبوك وحده – خلال الأيّام العشرة الأخيرة قبل موعد التصويت – موجهة نحو جمهور مختار بعناية ضمن استراتيجية يقودها اثنان من موظفي الموقع الأزرق استعارهما جونسون لإدارة الجزء الإليكتروني من حملته الانتخابيّة. ويبدو أن سيناريو استفتاء بريكست 2016 الذي وظّف فيه فيسبوك بفعاليّة لاستهداف جمهور متردد لم يكن قد حسم قراراته الانتخابيّة بعد بدعاية موجهة يتكرر مرّة أخرى هذا العام أيضاً.
الدّيمقراطيّة الغربيّة الخاوية: مسرح عبث يموله الأثرياء
لا يحدث هذا الخداع العلنيّ في دولة أفريقيّة يحكمها نظام فاسد، أو على أراضي جمهوريّة موز من أمريكا اللاتينيّة يقودها عسكر، بل هذا هو المشهد اليوميّ في الدولة أم البرلمانات، مُبتدعة الديمقراطيّة الحديثة بريطانيا التي يمتلك قادتها شجاعة النّفاق وصلف محترفي الكذب لتقريع الأنظمة الدكتاتوريّة عبر المعمورة عن تغييبهم للحريّات. ما نراه هنا اليوم مُذاعاً على شاشات القنوات التلفزيونيّة، ومطبوعاً على صفحات الصحف، ومنتشراً على مواقع التواصل الاجتماعي يبدو أقرب إلى مسرح عبث وتكاذب علني، أو مهرجان دعاية مسمومة ومغسلة أدمغة تهون معها كل اتهامات لروسيا ستالين أو كوريا كيم أو ألمانيا هتلر ببث بروباغاندا مؤدلجة، يتولى الإنفاق عليها – ببذخ غير معتاد – دهاقنة المال وأثرياء المجتمع بدون خشية من أي ملاحقات قانونيّة أو مساءلة أخلاقيّة.
ديمقراطيّة الغرب الخاوية أصبحت مجرد مزحة سمجة لا يصدّقها أحد ولا حتى المغفّل. مجرّد غلاف ورقيّ ملّون لحكم صريح من قبل أوليغاريشيّة ذات ارتباطات معولمة. ومع ذلك، ما زال هناك أناس يذهبون بأرجلهم إلى صناديق الاقتراع ويدلون بأصواتهم. ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.
إعلامية وكاتبة لبنانية
قلم صادق شجاع. شاهدت BBC فكان 10 دقيقه ضد كوربن ومعاداته للساميه
مقابل 4 دقيقه فقط حول موقف جونسون من المسلمين.
الكاتبة تريد ديوقراطية على الطريقة العربية
نفاق ما بعده نفاق اظهره الإعلام البريطاني في بلد يدعي الديمقراطية، كوربن دفع ثمن مواقفه الشجاعة. وانا اعيش هنا ببريطانيا، تعجبت كيف ان هذا الشعب يصوت على حزب بسببه تدهورت أحوالهم..
ديمقراطيتهم هاته صنم صنعوه من الحلوى فإذا جاعوا أكلوه.
في المثل الخليجي يقال السنور(القط) يحب خانقه…
يبدو ان هناك مشتركات بين الشعوب وهي انها تحب من يدوسها ان صح التعبير
أحسنت. مقال جدي لكاتبة محترفة و ملمّة بما يحدث في “امّ البرلمانات”
هناك مقولة فرنسية تقول
Election piege à con
بمعنى الانتخابات مصيدة للمغفلين
هذه هي الديمقراطية الغربية
صباحكم خير وبركة
وضرب لنا مثلا ونسي اهل بيته ومنطقته “لا يحدث هذا الخداع العلنيّ في دولة أفريقيّة يحكمها نظام فاسد، أو على أراضي جمهوريّة موز من أمريكا اللاتينيّة يقودها عسكر”
لا ادري لماذا غابت عن الكاتبة الانظمة العربية والشرق اوسطية والتي يجب ان تهمها اكثر وذهبت بعيدا الي افريقيا وبل امريكا الجنوبية.
لربما للتقدم الهائل نحو الحكم المؤسسي في هذه الدول مقارنة بالشرق الاوسط، الذي يكاد ان يخرج من التاريخ.
او لربما الخوف او اسوء من ذلك العنصرية التي انتشرت كالنار في الهشيم في المجتمع اللبناني.
اهل البيت اولي بالمعروف
وسلام
يسلم تمك. أحسنت النقد….هذه صورة طبق الاصل عن أستراليا ايضاً
بورس جونسن إستعمل أسلوب سكوت موريسن في أستراليا، ولا أستبعد ان يكون مستشارين من حزب الأحرار الأسترالي قد شاركوا في حملة حونسن، أما الاعلام فعندنا نسخة طبق ألأصل ولنفس المالكين واستعمل نفس الأسلوب في انتخابات أيار الماضي
Very well written article and touches the raw nerve of the existential predicaments facing what’s left of representative democracy. The emperor is naked and the worst is yet to come.
!Thanks Nada; you hit the nail on the head