تواجه الديمقراطيات الناشئة، مأزقا حقيقيا فيما يتعلق بالتداول السلمي الحقيقي للسلطة، بسبب التداخل التام وصولا في كثير من الحالات إلى التماهي التام، بين الحزب والدولة.
وهذه الحالة نجدها قائمة في إقليم كردستان العراق؛ حيث إن طبيعة العلاقة بين الحزبين الحاكمين في أربيل والسليمانية والمؤسسات العاملة في الإقليم وعلى رأسها قوات البيشمركه (القوات العسكرية التي تشكلت في سياق نضال الحركة الكردية)، لا يمكن أن تتيح تغيير الخارطة السياسية في الإقليم بأي حال وفقا لنتائج الانتخابات، ففي النهاية لن يكون هناك بديل عن تحالفهما لتشكيل أغلبية في البرلمان، ومن ثم تشكيل الحكومة من أجل الحفاظ على الشكل الديمقراطي الذي أطلقنا عليه “ديمقراطية البيشمركه”.
الملاحظة الجوهرية في هذا السياق أن هذه أول انتخابات تجري في الإقليم تفرض بغداد شروطها عليها. فمنذ أول انتخابات “شكلية” جرت في الإقليم عام 1992، وحتى آخر انتخابات جرت عام 2018، كانت الانتخابات تجري بإشراف كامل من الهيئة العليا لانتخابات كردستان، ثم المفوضية العليا للانتخابات والاستفتاء في الإقليم، دون أن يكون لبغداد دور فيها.
لكن في سياق المواجهة المفتوحة بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والفاعلين السياسيين الشيعة من جهة، والتحالف المعلن بين الاتحاد الوطني الكردستاني وهؤلاء الفاعلين من جهة أخرى، تمكنت بغداد هذه المرة، من التأثير المباشر على الانتخابات، وإعادة رسم علاقات القوة داخل الإقليم.
بدأ الأمر بقرار من المحكمة الاتحادية في شباط/ فبراير 2019 بعدم دستورية المفوضية العليا للانتخابات والاستفتاء في إقليم كردستان، وبولاية المفوضية العليا المستقلة للانتخابات في بغداد على أي انتخابات في الإقليم. ثم تبعه قرار مسيس آخر من المحكمة نفسها صدر في شباط/ فبراير 2021 قضى بإلغاء مقاعد الكوتا الـ 11 في برلمان إقليم كردستان (6 للمسيحيين و 5 للتركمان) دون مسوغ دستوري أو قانوني أو منطقي بهدف حرمان الحزب الديمقراطي من المقاعد التي تحسب عادة عليه بسبب تواجد الأقليات، بشكل رئيسي، في مناطق نفوذه في أربيل ودهوك!
تبعه قرار مسيس ثالث من الهيئة القضائية المختصة بقضايا الانتخابات في أيار/ مايو 2024، بتخصيص 5 مقاعد بشكل اعتباطي لكوتا الأقليات في برلمان الإقليم بواقع مقعد واحد في دهوك، ومقعدين لكل من أربيل والسليمانية. ولم تشرح الهيئة التمييزية كيف أعطت لنفسها صفة المشرع، أو المعيار الذي حكم تحديد هذه المقاعد الخمسة، أو المعيار الذي اعتمد في توزيع المقاعد بهذا الشكل، والأهم كيف لها أن تطيح بقرار المحكمة الاتحادية العليا الذي نص على أن الكوتا غير دستورية من الأصل؟
تبعه قرار مسيس رابع أصدرته المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، من خلال “نظام توزيع المقاعد واستبدال الأعضاء لإقليم كردستان رقم 9 لسنة 2024″، الذي قرر بشكل اعتباطي توزيع هذه المقاعد على المكونات بواقع 2 مقعد مسيحي وتركماني لأربيل، و2 مقعد مسيحي وتركماني للسليمانية، ومقعد مسيحي لدهوك. وهذا توزيع لا علاقة له بتوزيع الأقليات في إقليم كردستان من الأصل!
وكان الغرض من هذه القرارات المسيسة والاعتباطية، حرمان الحزب الديمقراطي من 8 مقاعد كوتا كانت محسوبة عليه، وفي الوقت نفسه مُنح الاتحاد الوطني مقعدا كوتا كهدية!
ظلت الخريطة السياسية في إقليم كردستان تقوم على تقاسم السلطة الشكلي في الإقليم، والواقعي على الأرض من خلال هيمنة الحزب الديمقراطي على أربيل ودهوك، وهيمنة الاتحاد الوطني على السليمانية تحت إدارتين منفصلتين عمليا. وإذا كان الحزبان قد تمكنا من تقاسم مقاعد مجلس برلمان كردستان في عام 1992، وحافظا على هذه الهيمنة في الانتخابات التالية التي تأخرت إلى العام 2005 حين حصل الحزبان اللذان دخلا الانتخابات تحت اسم “القائمة الوطنية الديمقراطية” على 104 مقاعد، فإن هذه الهيمنة بدأت بالانحسار تدريجيا على مدى السنوات اللاحقة؛ ففي انتخابات عام 2009 تراجعت مقاعد الحزبين إلى 59 مقعدا فقط حيث دخل الحزبان تحت اسم القائمة الكردستانية. لكنهما دخلا منفردين في انتخابات2013، وحصل الحزب الديمقراطي على 38 مقعدا، في حين لم يحصل الاتحاد الوطني سوى على 18 مقعدا. كما دخلا منفردين في انتخابات عام 2018، وحصل الحزب الديمقراطي على 45 مقعدا، في حين لم يحصل الاتحاد الوطني سوى على 21 مقعدا.
ظلت الخريطة السياسية في إقليم كردستان تقوم على تقاسم السلطة الشكلي في الإقليم والواقعي على الأرض من خلال هيمنة الحزب الديمقراطي على أربيل ودهوك، وهيمنة الاتحاد الوطني على السليمانية
ورغم زيادة عدد الأصوات التي حصل عليها الحزبان في انتخابات العام 2024، إلا أن الديمقراطي لم يتمكن من الحصول سوى على 39 مقعدا مع خسارته 8 مقاعد كوتاـ وحصل حلفاؤه على 3 مقاعد كوتا فقط (مقعدان مسيحيان ومقعد تركماني).
أما الاتحاد الوطني، فقد استطاع أن يحصل على 23 مقعدا وتمكن أيضا من ضمان مقعدين إضافيين من مقاعد الكوتا!
في المقابل فشلت الأحزاب والحركات الكردية الأخرى في الاستقرار والثبات، باستثناء حزب الجيل الجديد؛ فحركة التغيير/ كوران التي استطاعت عام 2009 أن تحصل على 25 مقعدا، ثم عادت عام 2013 لتتفوق على الاتحاد الوطني وتحقق 24 مقعدا، فقدت نصف مقاعدها وأصواتها في انتخابات عام 2018، ولم تحصل سوى على12 مقعدا. لتضمحل الحركة تماما في الانتخابات التي جرت يوم الأحد الماضي حيث لم تتمكن من الحصول سوى على مقعد وحيد، في مقابل حصول حركة “الموقف” التي انشقت عنها على 4 مقاعد.
أما حزب جبهة الشعب الذي يتزعمه لاهور شيخ جنكي، والذي انشق عن الاتحاد الوطني، فلم يتمكن من الحصول سوى على مقعدين فقط، في نتيجة غير متوقعة.
وتراجعت الأحزاب والحركات الإسلامية بشكل واضح؛ فبعد أن استطاعت الحصول على 15 مقعدا في انتخابات عام 2009، وتمكنت عام 2013 من التقدم بشكل ثابت للحصول على 17 مقعدا، وصارت تشكل تحديا حقيقيا للحزبين، تراجعت مقاعدها عام 2018 إلى 12 مقعدا فقط، واستمرت خسائرهم في انتخابات عام 2024، ولم يتمكنوا من الحصول سوى على 10 مقاعد.
واذا كانت حركة الجيل الجديد قد شكلت مفاجأة بحصولها في انتخابات العام 2018 على 8 مقاعد، فانها تمكنت في الانتخابات الأخيرة من مضاعفة مقاعدها لتحصل على 16 مقعدا، والأهم أنها رفعت أصواتها إلى ما يزيد عن الضعف. لكن الحقيقة أنه لا ضمانة أن هذه الحركة لن تتعرض الى ما تعرضت له حركة التغيير/ كوران، وربما هذا ما يفسر محاولة الحركة إرضاء الفاعلين السياسيين الشيعة في بغداد علها تتجنب هذا المصير!
في النهاية كشفت نتائج الانتخابات في إقليم كردستان العراق، عن استعادة الحزبين الكرديين الديمقراطي والاتحاد الوطني (القابضين على السلاح والسلطة والمال في الإقليم) هيمنتهما على برلمان الإقليم (67 مقعدا)، في مقابل فشل كل المحاولات على مدى السنوات الماضية، لإعادة رسم خارطة سياسية جديدة في الإقليم. وهي هيمنة لا تعكس طبيعة الديناميكيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية فيه، الأمر الذي لا يمكن أن يستمر دون تحديات حقيقية!
*كاتب عراقي