تبدو الذاكرة كتابا مفتوحا يمتلئ بالسطور والصفحات منذ الولادة، ومع التقدم في العمر تهلّ على صاحبها بالحنين والألم. لا ينتبه ولا يستطيع أي إنسان أن يختار ما يود أن يتذكره يوما ما، وما لا يريد، ويساعده النسيان اللاإرادي على تأكيد خدعة أن لا شيء باقٍ بينما لا شيء ضاع .
كثيرا ما سُئلت عن الذاكرة والنسيان، وعلاقتها بي كأديب وقلت إن ذاكرتي هي النسيان، فأنا على يقين من أن كل ما رأيته وأحببته، أو لم أحبه كامن في اللاشعور ينتــظر الفرصة ليظهر. هذه الفرصة لي كأديب هي الحاجة إلى موضوعات قد تكون أجمل، أو حتى أقبح مما حولي الذي بلغ فيه القبح مداه، وصار أليفا، فأنا لا أكتب إلا وقد صار ما نسيته يملأ الفضاء أمامي، طالبا الوجود. وإيماني كبير بأنه لا يضيع من ذاكرتك شيء إلا ما ليس لك رغبة فيه.
الرغبات المكبوتة كما قال فرويد تقفز من اللاشعور إلى الفضاء، حين يراودك الحنين إليها، كما أنها هي ليست عدوا لتفاجئك بما لا تريد، فالعلاقة بين الشعور واللاشعور ليست علاقة عداوة، حتى الكوابيس هي إزاحة للخوف رغم أنها تخيف. أذكر وأنا طفل أن طلبت من أبي أن يشتري لي «بيجامة» ذات لون معين، ويومها أخذني في حضنه وقال لي أن انتظر حتى نهاية الشهر، حين يتقاضي راتبه. نمت وفي الحلم رأيت نفسي أركب الترام وأعطي للمحصل ثم التذكرة، وكانت التذكرة وقتها بثمانية مليمات، ويعيد إليك المحصل مليمين في صورة ورقة صغيرة تحتفظ بها، وكنا نسميها البواقي، وحين يصبح لديك أربع منها تدفعها للكمساري ثمنا لتذكرة جديدة. أذكر أنه في الحلم أعطاني المحصل البيجامة التي تمنيتها بدلا من ورقة البواقي. مرة ثانية وأنا أكبر قليلا وكنت أجتهد في معرفة اللغة الإنكليزية، أنني حلمت حلما جميلا، وهو أني أقف بين جماعة من الأجانب أحدثهم بالإنكليزية حديثا طويلا. لقد سبقني اللاشعور في تحقيق ما أريد. لم أكن قرأت كتاب «تفسير الأحلام» لفرويد، ولم أكن عرفت به. قرأته بعد ذلك وأنا طالب في الجامعة، وكنت أحيانا أضحك فكثير منه حدث معي. آمنت بأن النسيان ذاكرة تعيد إليك ما تحبه. لا تتذكر السيئ إلا إذا رأيت صاحبه أمامك، أو أتي أحد بسيرته معك، وهنا يكون الإدراك بالعقل أكثر مما هو بالشعور، فسرعان ما تبتعد عن مصدر الذكرى الأليمة، أو تطلب ممن ذكرك بها الانتقال إلى موضوع آخر.
ذاكرة المبدع تأتي من النسيان، يتوقف المبدع عن الإبداع ليس لقلة ما يجد من موضوعات أو بشر، لكن لشعوره أحيانا باللاجدوى، أو لتعرضه لمحن مثل السجن أو الاعتقال. غير ذلك فكله ذاكرة للنسيان. حتى قصص الحب الفاشلة، رغم ثمنها الروحي الباهظ للمبدع أو المبدعة، تعود لتتجسد في الإبداع. وكما قلت مرة إن الإبداع لا يعرف الانتقام، بل يعرف الغفران، فتجد المخطئ في الحياة صار في الرواية مجنيا عليه، بينما كان الكاتب أو الكاتبة هو المجني عليه في الحياة.
هكذا يقيم المبدع قصورا من الجمال المُفتقد في الحياة. أبشع ما يواجه الذاكرة هو العمل السياسي ورجاله، خصوصا إذا كانوا في الحكم، ولم يأتوا أبدا بشيء جميل، وجعلوا الحياة سوداء حول شعوبهم. هنا يكون النسيان دواء، وهنا لن يحتاج المبدع ليقظة اللاشعور. وإذا أعادهم فيكونون في الرواية، أو القصيدة أو اللوحة الفنية علامات على مثلهم في كل زمان ومكان، لكن إذا أدرك القارئ من يقصد الكاتب يكون قد انتقل من اللاإرادة إلى الإرادة، أي اليقظة والحديث المباشر، وهو غير محبوب في الإبداع. ربما بل المؤكد أن يبحث النقاد عن خلفية لما يرون من شخصيات، ويربطونها بالواقع، وهذا عمل يقلل من قيمة العمل الأدبي، فما أسهل الانتقام بالكتابة، التي هنا تخرج من الشعور إلى العقل فتقترب من المقال، وتبتعد عن الإبداع. لا أحب الروايات التي يمكن تفسير شخصياتها بشخصيات في الحياة، رغم التغير في ذائقة القارئ الآن، وحب القراء لهذا النوع من الكتابة.
نسيان السياسيين أمر صعب، لأنهم يحاصرونك بأعمالهم ويحتاج المرء إلى ما يساعده. وجدت الموسيقى الكلاسيكية مساعدا لي كل مساء بعد نهار مع الصحف ومع الأخبار السيئة، ومع الحوارات التي لا تنتهي، وترتفع فيها الأصوات بالإدانة أو بالدفاع عن السياسيين.
اعتبرها كتابة سهلة ومؤقتة وعابرة، مهما لقيت من حفاوة. أن يكون الديكتاتور، أو الخائن هو فلان لا أحبه، لكن أن يكون حالة من البشر يمكن أن تتواجد في أي مكان وزمان هو ما أحبه. حتى من قابلتهم في الحياة، وكانوا انطلاقة لبعض شخصيات رواياتي أضفت إليهم الكثير من الخيال، فلا يعرف القارئ من هم، إلا من كان قريبا بيننا، لكنه يعرف أيضا أن الأمر تجاوز المطابقة التامة إلى الخيال. كثيرا ما قلت عن مصدر بعض شخصياتي ممن حولي، لكنني دائما كنت أؤكد على كلمة مصدر، وليس هم الشخصيات بعينها. نسيان السياسيين أمر صعب، لأنهم يحاصرونك بأعمالهم ويحتاج المرء إلى ما يساعده. وجدت الموسيقى الكلاسيكية مساعدا لي كل مساء بعد نهار مع الصحف ومع الأخبار السيئة، ومع الحوارات التي لا تنتهي، وترتفع فيها الأصوات بالإدانة أو بالدفاع عن السياسيين. المؤامرات تتم في الليل ويحتاج الكاتب إلى مؤامرة بسيطة، أن يسمع الموسيقى قبل أن ينام فينسى.
مؤكد أن هذا لا يخص كل الكتّاب لكنه يخصني وارتحت إليه في حياتي، ولم أترك نفسي للخمور أو المخدرات التي رأيتها حلا مؤقتا، مهما بلغ من قدرتها على حمل صاحبها إلى جبال النسيان. لا يذكرني بأي طاغية غير الميديا الآن التي تمتلئ بالأحاديث والأحداث، لكنني أعرف ما اختاره منها للتعليق أو حتى القراءة، بحكم خبرة السنين، وبحكم الحماقة واسعة الأفق في الميديا، فلا أتوقف إلا عند ما أراه جديدا عليّ من معرفة أو خيال. ما معنى تكرار ما تريد أن تلقيه خلف ظهرك؟ تخيل أنك فجأة هاجمتك الذاكرة بكل شيء فهل سيصمد المخ أو الشعور. سيضيع الرأس أشلاء في الفضاء. ويخيل لي أن الطغاة يرتكبون كل الجرائم من أجل ذلك. أن تعيد قراءة ما تعرفه مؤامرة على الذات، وتكرارا لذكريات غير محبوبة فلماذا ؟ شيء واحد أعاني منه، ولا بد يعاني منه كل الكتّاب، أنه بعد الانتهاء من عمل أدبي ترى الدنيا حولك خواء. لم تعد هناك ذاكرة، ولا سبيل للاشعور أن يقفز بذاكرة النسيان، وتظن أو أظن أنه لم يعد هناك ما أكتبه، لكن لا يمر وقت طويل إلا وقد عاد إليك اللاشعور بما تحب، أو أحببت يوما أن تكتبه. وقد يكون السبب بسيطا جدا وهو رؤية شيء ذكرك بأشياء. هذا لا يحدث بسرعة أبدا، لأن الإبداع السابق أرهق الروح رغم أنه تبتل وصلاة. أجل هو رحلة صعبة وإن كانت جميلة مع الشخصيات التي ملأت المعبد حول الكاتب بالأحداث. تحتاج الروح إلى الراحة، ومهما طالت فلا خسارة للكاتب ولن تتوقف الدنيا، إذا مات ولم يكتب غير ما كتبه، فالكتّاب ملء الحياة. المهم أن تعرف الحياة حولهم بتجلياتها السياسية والاجتماعية قيمة ما يكتبون. للأسف في عالمنا العربي هذا غير موجود، لذلك أكتفي، وأظن أن الكثيرين يفعلون ذلك، بمتعة الإبداع التي تجعل كل ما حولي مضحكا ولا معنى له. سيموت من شوهوا الحياة وسيظل الإبداع علامة على حياة أفضل، وهذا هو انتصار المبدع الذي لا يهزمه فيه أحد.
٭ روائي من مصر
مصطلح الإبداع يبدو مصطلحا فضفاضا غير دقيق لأنه يرتبط برؤية الناس للأعمال الأدبية والفنية،وليس رؤية الكتاب والفنانين. فالكاتب والأديب أوالفنان بنشئ أعماله ويترك للناس الحكم عليها، ولكن ببدو أن الحظيرة الثقافية استباحت لنفسها أن تحتكر الأوصاف والمصطلحات التي تتعارض مع المنطق النقدي والتقويمي. اليوم قرأت مقالا لناقد حظائري كبير ، يصف فيه روائيا محدود القيمة بأنه شيخ الروائيين، بعد مجموعة من الروائيين من التيار ذاته الذي ينتمي إليه، وهو حكم مجانب للصواب لأن هناك كتابا من تيارات أخرى أكثر نضجا وأقوى تعبيرا وأفضل موهبة، ولكن اختلال المقاييس في مجال المصطلحات والتقديرا ت يسيء للأدب والفن جميعا.