(1) في نيسان/ أبريل من عام 1943، تفجرت انتفاضة مسلحة في معزلة (غيتو) وارسو التي أنشأها النازيون في تشرين الاول/أكتوبر من عام 1940 لتجميع يهود بولندا. وقد أوت هذه المعزلة في قمة ازدحامها قرابة أربعمائة ألف نسمة، وعانت طوال الفترة القصيرة التي عاشتها من الحصار والقمع والتجويع، والتهديد الدائم بترحيل سكانها إلى معسكرات الإبادة في تريبلينكا وغيرها. وفي التاسع عشر من نيسان/ أبريل عام 1943، دخلت قوة كبيرة من الشرطة وقوات النخبة النازية (إس. إس) إلى المعزلة لتجميع مجموعة من السكان لترحيلها إلى المعسكرات، فووجهت لاول مرة بمقاومة مسلحة شرسة.
(2)
كان عمليات للمقاومة بدأت منذ كانون الثاني/يناير من ذلك العام (بعد تحضير طويل) باستهداف وتصفية الجواسيس والقيادات اليهودية المتعاونة مع النازيين. وعندما دخل النازيون لبدء عمليات الترحيل بعد فترة هدوء استمرت عدة أشهر، كان المقاومون جاهزين للمواجهة، مستخدمين الأنفاق واسطح المنازل لنصب الكمائن للمهاجمين.
(3)
لم تطل المعركة كثيراً، لأن سكان المعزلة المحاصرين والمجوعين لم يكن لهم قبل بالقوات النازية المدججة بأحدث الأسلحة، خاصة مع وحشية النازيين الذين قاموا بحرق وتدمير البيوت على رؤوس ساكنيها بصورة منهجية. وخلال عشرة أيام، تم تدمير كل مباني المعزلة ما عدا ثمان مبانٍ من بينها المستشفى وثكنات الشرطة. وقد اختبأ كثير من المدنيين الناجين في أنفاق المجاري (كما استخدمها بعض من بقي من المقاتلين للهرب)، ولكن النازيين دمروا الأنفاق على من فيها أو ألقوا القنابل لإخراجهم.
(4)
في نهاية المعركة، بلغ عدد القتلى ثلاثة عشر ألفاً (منهم ستة آلاف أحرقوا أحياء) وانتحر أو فر من بقي من المقاتلين، كما تم تهجير من بقي حياً من المدنيين (حوالي خمسين ألفاً) إلى معسكرات الإبادة. وقد بقيت معزلة وارسو منذ ذلك الحين رمزاً للبطولة والصمود في وجه الظلم من جهة، ولشرور الإنسان وطغيانه من جهة أخرى. ولا ننسى الخيانة والتآمر والخسة أيضاً.
(5)
يسرف الإسرائيليون في استغلال رمزية معزلة وارسو لدعم شرعية الدولة العبرية، ويكثرون من الاحتفال ببطولة القلة المحاصرة التي وقفت في وجه آلة عسكرية مهولة دفاعاً عن الكرامة والوجود. ولكن هذا بدوره فرض المقارنة بين غزة القرن الواحد والعشرين ووارسو تحت الحكم النازي. وفي كانون الثاني/يناير عام 2009، في قمة هجمة إسرائيل على غزة، نشرت رويترز تقريراً من كيبوتز إسرائيلي عند حدود غزة نصب على تلة فيه تمثال لأحد أبطال انتفاضة معزلة وارسو. ونقل التقرير عن الأكاديمي الأمريكي-العربي جوزيف مسعد تشبيهه مقاومة غزة بانتفاضة وارسو، ولم يستطع التقرير تجنب عقد هذه المقارنة التي فرضت نفسها.
(6)
انتفاضة معزلة غزة التي صنعتها إسرائيل على نسق معزلة وارسو لحصار الفلسطينيين تذكر بتلك الحقبة، خاصة وهي ترفع مع إخوتها في حمص وحلب شعار: «الموت ولا المذلة». وبدورهم فإن النازيين الجدد في القدس فعلوا ما فعل أسلافهم في وارسو (وما فعل الأسد في حمص): دمروا المباني بصورة منهجية على رؤوس ساكنيها، ولم يوفروا الأحياء ولا الجمادات. وبقي في إسرائيل مع ذلك من ينادي: هل من مزيد؟ ولكن الفرق هو أن غزة صمدت وانتصرت وردت هملر إسرائيل على عقبيه.
(7)
هناك دروس وعبر كثيرة من وارسو القديمة لوارسو الجديدة في غزة. صحيح أن النازيين استخدموا آلتهم الوحشية للقضاء على ثوار وارسو، وإبادة من بقي من المدنيين. ولكنهم لم ينعموا بالنصر طويلاً. فقد أصدرت المقاومة البولندية حكم الإعدام في حق فرانز بيركل، وهو ضابط الغستابو وقائدة السجن الذي اشتهر بالسادية، وتطوع لملاحقة الهاربين من معزلة وارسو. وقد تم اغتياله من قبل المقاومة في ايلول/سبتمبر من عام 1943. في نفس الشهر، لحق به قائد شرطة وارسو المعزول فون سمرن ـ فرانكنيغ، قتيلاً على يد المقاومة اليوغسلافية في كرواتيا، بينما انتحر ثلاثة من كبار القادة النازيين المسؤولين عن فظائع معزلة وارسو مع نهاية الحرب عام 1945. أما قائد عمليات معزلة وارسو وخليفة سمرن ـ فرانكنيغ في رئاسة شرطة وارسو، يورغن ستروب، فقد تم اعتقاله ومحاكمته بعد الحرب، حيث أعدم في وارسو نفسها مع أحد مساعديه، فرانز كونراد، في عام 1952.
(8)
في عام 1975، تم اعتقال لودفيغ هان، أحد قادة عمليات معزلة وارسو، الذي ظل مختفياً منذ نهاية الحرب، ثم محاكمته وإدانته بارتكاب جرائم حرب. هذه بشريات طيبة لنتنياهو ووزير دفاعه ورئيس أركانه، وبقية المشاركين في جرائم حرب معزلة غزة. فهم سيواجهون عاجلاً ـ وأجلاً كذلك ـ سيف العدالة الذي لا يخطئ، دون عزاء النجاح في إخضاع وتدمير غزة بالكامل كما فعل أسلافهم في وارسو.
د. عبدالوهاب الأفندي
شكرا للمقالة التاريخية الرائعة يا دكتور عبدالوهاب
لكني لا أجد الحال الدولي نفسه فاسرائيل تدعمها الدول المنتصره
لذلك حاول يا دكتور أن تنسى موضوع المحاكمات
المعروف في المحاكمات الدولية موافقة مجلس الأمن عليها
اذا لا محاكمات والسلام
ولا حول ولا قوة الا بالله
شكرا للقلم المدافع عن الصابرين وعن عمالقة البطولة وايقونة الصبر والصمود وعن السواعد النبيلة التي حفرت الارض دفاعا عن المستضعفين وشقت عنان السماء بصوت الحق الحاسم في صواريخها ومدفعيتها ودعاءمجاهديها دكتور عبد الوهاب كفلسطينية مستضعفة ولا جئة وكناقمة على الطغاة الساديين الانانيين والمتوحشين اقرا مقالك بكل عنفوان وسرور وما ان اشاهد صورتك في القائمة عاكفا على جهاز الكمبيوتر حتى اتلذذ بمنظر مبدع معبر وهو ينتج من فكره وقلمه شيئا ببصمة خاصة ونكهة خاصة وانتظاري هذا يشبه انتظار طفل جائع لرغيف ساخن من يد خباز غاية في المهارة كل مرة يمتع هذا الطفل الغشيم بنكهة خبز جديدة ويتناولها ويلتهمها متلذذا ومبتهجا ومذهولا -بسبب غشامته وتفوق الخباز في صنع الرغيف الجديد كل مرة-ومبتهجا الى حد الصدمة شكرا ليديك المبدعتين وعقلك الوقاد وقلمك اللاذع الجالد للطغاة تلميحا وتصريحا وسخرية كفاس ايراهيم لما علقها ابو الانبياء على عنق كبيرهم وقال لهم هازئا ( بل فعله كبيرهم هذا فاسالوهم ان كانوا ينطقون )
وزارةالمستضعفين تشكرك وتنحني باحترام لعلمك وابداعك وتشكر القدس العربي على وجبات الفجر اللذيذة من الدكتور عبد الوهاب الافندي الى وائل عصام الى مثنى عبد الله الى بسام بدارين والكوكبة الجميلة
مقال ذكي و رشيق و رائع، باختصار .