كان الشعر ولا يزال يتطور من بنية إلى أخرى، ابتداءً من (البيت ـ الجملة ـ السطر – الكتلة)، حتى دخل لحظة التعدد والتشظي والتفتت، وهي لحظة منتجة لما يسميه كمال أبو ديب بـ «البنية اللامبنية»، وتوقع أبو ديب أن تكون اللحظة العربية « لحظة نفي المعنى «في مستقبل ثقافتنا العربية» (جماليات التجاور).
وإن كان التشظي هو واحد من تجليات انهيار جماليات الوحدة ونتيجة من نتائجه»، فقد بدأ التشظيـ كما تنبه إلى ذلك محمد بنيس من قصيدتي «نهر الرماد» لخليل حاوي في الخمسينيات و»البعث والرماد» لأدونيس، وقد اتخذت شعرية التشظي في هاتين القصيدتين صيغ المتواليات، أو المقاطع أو البنيات المتعددة. وقبل ذلك، تنبأت نازك الملائكة في مقدمة ديوانها «شظايا ورماد» الصادر بطبعته الأولى عام 1945، بما سوف تؤول إليه قواعد تفكك وتشظي الشعر العربي، وقد تحققت نبوءتها، حيث «لن يبقى من الأوزان القديمة شيء» فالأوزان والقوافي والأساليب والمذاهب ستزعزع قواعدها جميعا». وإزاء انتقال الشعر العربي من بنية إلى أخرى أو من مرحلة إلى أخرى: فهل هذا الانتقال هو: تغير وتطور أم إزاحة وإبدال؟ يرى محمد بنيس في كتابه «الشعر العربي الحديث»: «إن انتقال الشعر العربي الحديث، وكذلك القديم من بنية إلى أخرى، لا يتضمن تطورا ولا تغيرا ولا تجاوزا، وانما يحقق «الإبدال» والإبدال عنده «نفي لقيمة» أي «تعويض بنية بأخرى»، وبذا ينفي محمد بنيــــس فعل التغــــيير وفاعلية التطور الناتجة عن العوامل المحركة والدافعة لها، بل يعزلهما عن حركية الذات والنص والعالم، وكأن ما جرى من تغيرات وتطورات في بنية الشعر العربي – معزولة عن حركية الكائن وكينونته الإنسانية.
ولكن محمد بنيس يقصد بالشعر من حيث بنياته وإبدالاتها: «إبدال الشعر العربي القديم، بالانتقال من الكلام إلى الكتابة، ومن التشبيه إلى الاستعارة»، بل يتمسك بفكرة الإبدال، بوصفها مركز مدار جماليات انتقال الشعر العربي، ليجعل من «تصدع الذات» هو «رحم الإبدال النصي» (محمد بنيس، الشعر العربي الحديث ـ بنياته وإبدالاتها، 4 – مساءلة الحداثة). ولكن لماذا أحل محمد بنيس (الإبدال) محل فرضيات (التطور والتغير والتجاوز) من حيث (لا يكون الانتقال قطيعة مع الماضي ولا إقامة شقية فيه)؟ وبما أننا لسنا في سياق تفكيك فكرة الإبدال عند محمد بنيس، إلا أننا نرى خلاف ذلك، فالإبدال عندنا يرتبط بالإزاحة كبنية متممة لها. لهذا نرى أن انتقال الشعر العربي من بنية إلى أخرى، هو نتاج تبدلات المجتمع وثقافته المتغيرة، التي تجلب التطور إليه بقوة التوجه نحو الاختلاف مع السائد أولا، والتجاوز المستمر له ثانيا، حتى يتحقق التجديد بالإزاحة والإبدال. وإن كل تجديد هو خروج على سلطة النموذج القائم بنموذج آخر، لإزاحته وإبداله، وهو نتاج صراع بين الشعر وجدل الأشكال الشعرية، وبين الذات وفواعل التغيير، فالشعر نتاج ذات ترتبط بحيوات متجددة من القيم والأفكار، فـ»الشعر الخالص غير خالص، لأنه في حاجة إلى أفكار وإلى قيم، مع العلم أن هذه الأشياء ليست في ملكيته الخاصة» (تزفتان تودوروف، كيف أصبح الأدب مهددا).
لقد انتقل الشعر إلى الكتابة، بعد أن ضاق مصطلح القصيدة بدافع الإزاحة والإبدال، فالقصيدة لم تعد جنسا خالصا بذاتها، وإنما أخذت تحاور الشعر وأجناسه، وبذا نعد تداخل الشعر مع النثر؛ مرحلة انتقالية في البحث عن لحظة شعرية جديدة، خاصة بعد أن مهدت لها بيانات ودعوات للخروج عن نموذج القصيدة ورمزيته المرجعية، وفي مقدمتها:
بيان الحداثة ـ أدونيس
بيان الكتابة ـ محمد بنيس
موت الكورس ـ أمين صالح وقاسم حداد
قصيدة الكتلة ـ فاضل العزاوي (عباس عبد جاسم، الخروج على سلطة النموذج).
وعلى الرغم من التحول الذي جلب التطور إلى القصيدة، لتصبح كتابة، فإن حركة الشعر العربي اتجهت باتجاه أفق أوسع من ذلك، ولعل أول تحول جديد في بنية الشعر كتابة هو تجربة أدونيس في «الكتاب أمس المكان الآن» (أدونيس، الكتاب أمس المكان الآن، دار الساقي، 2014)، ورغم أنها مخطوطة تنسب إلى المتنبي يحققها وينشرها أدونيس، فهي مخطوطة افتراضية ليست بحاجة إلى التحقق منها، وإنما بحاجة إلى نقد ما تحقق منها.
وإزاء (كتاب/ أدونيس) آثرنا أن نتجاوز النقد المكرور له، فـ «الكتاب» يقوم على تحوير شكل القصيدة إلى أشكال بصرية وهندسية، قائمة على توزيع الكتابة في فضاء طباعي، إذ في كل صفحة من الكتاب «هناك ثلاثة نصوص:
الأول – يمين الصفحة، نص ـ وثيقة، يسرد من الوقائع التاريخية أهمها في ما يتعلق بالصلة بين المحكوم والحاكم، ويمثل المحكوم في هذه الوقائع أشخاصا مُعارضين، كلا في ميدانه السياسي أو الفكري أو الشعري.
والثاني- في النصف الأعلى من الصفحة؛ نص ـ استيحاء، يقوم على حياة المتنبي (دليل الشاعر في رحلته داخل تاريخه وثقافته) في تواترها وآلامها وأفراحها وتطلعاتها وعلاقاتها.
والثالث – في النصف الأسفل من الصفحة؛ نص استشراق، وبين هذه النصوص تداخل خفي.
كما سنتجاوز الاستعارة التي اتخذ فيها أدونيس من المتنبي قناعا شعريا، وقد سبق لأدونيس أن اتخذ من مهيار الدمشقي في ديوانه «أغاني مهيار الدمشقي» قناعا أيضا. وما يعنينا من (الكتاب- تقنية الكتاب) أكثر من (تقنية القناع)، فتقنية الكتاب قائمة على تداخل الأجناس الأدبية: حيث يتداخل فيه الشعر والنثر والسرد والتاريخ وأدب السيرة، مما تتفاعل فيه النصوص، لدرجة التداخل اللساني بين لسان المتنبي ولسان أدونيس، وبذا تسود «الكتاب» بنية غنائية درامية متعددة الأصوات.
كما أن تقنية الكتاب بنية مركبة من الصوفية والسيريالية لشعرنة التاريخ المسكوت عنه، والانحياز بحياد إيجابي إلى الهامش متنا أو مركزا عبر مدار شعرية الكتاب.
يقول أدونيس عن الكتاب: «انه نص مركب متعدد الأشكال، كل شكل فيه مستقل، غير انه في الوقت نفسه متداخل أو متواشج، لعين القارئ ظاهريا إنها قصائد متفرقة» (حوار مع أدونيس، حاورته أمل الجبوري وستيفان فايرنر، موقع معابر). وإن كان أدونيس ـ المتنبي قد حقق الخروج من الذات نحو الآخر المختلف، فإن الخروج من بنية إلى أخرى هو إزاحة وإبدال ناتج عن تغير وتطور بالأساس.
٭ ناقد وكاتب من العراق
مقال عميق يجعلنا نقف أمام كينونة الشعر العربي المعاصر. و ان اعتبرنا القصيدة العربية كتلة فيزيائية فان المادة الفيزيائية تتغير في الشكل بطول الزمن أو يقع ابدالها سواء لغاية نفعية أو غاية جمالية . ولكن لماذا نتمسك بالشكل في حين ان الابدال النصي يتطلب تكسير البنية القديمة و اعادة البناء على الانقاض .ولكن هذا الطرح لا يدعو الى القطيعة مع الماضي في سيرورة الشعر بل هو تواصل خلاق فالتشظي يمكن من تفكيك البنية و اعادة تأسيس المعنى على أسس بديلة و ربما تعمل من خلال “البنية الامبنية” كما ذهب الى ذلك كمال أبو ديب الى تأسيس أشكال جمالية مغايرة ليس بالضرورة أن تتصادم مع البنى القديمة و لكنها امتداد لها نتيجة لحتمية التطور في التجارب الانسانية .