نفد الكلام، وانتهى الرثاء، ولم نعد نمتلك سوى الشعور بالاشمئزاز.
الاشمئزاز ليس غضباً، فالغضب طاقة إيجابية، تجاوب على توقع لم يحصل أو على موقف دفاعي عن قيم مهددة، أما الاشمئزاز فلا.
والاشمئزاز ليس احتقاراً، إنه تحت الاحتقار، فالذي تشمئز منه لا يستحق حتى الاحتقار.
والاشمئزاز ليس رفضاً، فحين تشمئز تبتعد، يصيبك شعور بالغثيان، وتشيح بوجهك عن المصدر الذي سبب لك هذا الشعور.
الاشمئزاز رديف اليأس، لكنه لا يحمل السمات النبيلة التي ترتسم على وجوه اليائسات واليائسين.
إنه شعور غامض يقودك إلى كره الذات ويدفع بك إلى العزلة.
لبنان اليوم يشمئز من كل شيء، ويشمئز حتى من اسمه، ومن حاضره المتعفن وماضيه الذي يصوره الحنين جميلاً.
لعبة هذه المافيا الحاكمة في لبنان بأشكالها القديمة والمستجدة، دفعتنا إلى الاشمئزاز من طبقة تريد إنقاذ نفسها من الحساب.
تفتح التلفزيون، وحين تراهم تشعر في حاجة واحدة، هي أن تغمض عينيك وتسدّ أذنيك.
هراء بهراء.
هراء الكلام لا ينافسه سوى اهتراء الصورة.
وتسأل السيدات والسادة من وزراء وتكنوقراط هذا الزمن ألا يخجلون.
استحوا على الأقل، تضبضبوا، وانقلعوا.
من هم هؤلاء، من أين أتوا، من هو عبقري التفاهة الذي اخترعهم ورفعهم وجعلهم يصدّقون أنهم أصحاب معالي.
مستوى يقارب الحضيض، حيث لا ينافس وزراء الظل على هذه المرتبة سوى الذين حكموا طويلاً، ويجري الآن تلميعهم كي يعودوا إلى السلطة على صهوة الخراب.
أما أصحاب المصارف ومعهم كل المافيات، فلا يحملون معهم سوى الروائح الكريهة.
كل أفراد هذه العصابة من تكنوقراط ومهربين وأصحاب مصارف ولصوص يستمتعون اليوم، يهربون من خوفهم عبر إغراق لبنان في العتمة والجوع والمهانة والذلّ.
أذلاء يقومون بإذلالنا، وأغبياء يتذاكون علينا، ومجرمون يدعون أنهم قادرون على إنقاذنا.
طبقة تحكم بلا مبالاة، لا يلوون على شيء كما نقول، لكنهم يقومون بنحر وطن لم يستحقوه.
والأنكى من ذلك هو الغباء، وعدم الأهلية والسماجة.
وجوه سمجة وكلام سمج، وحقارة تحتقر أصحابها.
صلاح جاهين صرخ في مواجهة زمنه بكلمة «عجبي». أما نحن، حرّاس هذا الموت، فلا نملك حتى فضيلة التعجب.
لذلك، لا نملك كلمات ملائمة من أجل رثاء ابن الهرمل علي الهق، الذي وقف أمام «مسرح المدينة» وأطلق النار على نفسه. وكان انتحاره صيحته الأخيرة كي لا يكفر.
انتحر الرجل الستيني الفقير، كأنه يقوم بإخراج آخر عرض مسرحي تستطيع بيروت أن تقدمه هدية لنفسها.
وفي اليوم نفسه، شنق سامر حبلي نفسه في قرية جدرا التي نزح إليها من صيدا بعدما ضاقت به السبل.
كان ذلك يوم الجمعة 3 تموز- يوليو 2020
انتحاران يعلنان زمن الاشمئزاز.
حتى ردود أفعال الناس بعد حادثتي الانتحار كانت مختلفة هذه المرة.
لم نخرج إلى الشوارع مطالبين بإسقاط العصابة، ولم ينفجر غضبنا سوى على شكل حزن صامت.
وموجات الانتحار مستمرة، ففي يوم السبت 5 تموز ـ يوليو، أي في اليوم التالي، انتحر رجلان، خالد أديب يوسف في مدينة صور، الذي أطلق النار على نفسه، وتوفيق . ف. ح. الذي رمى بنفسه من شرفة منزله في بعبدات- المتن.
أربع انتحارات في يومين يا لبنان!
في شارع الحمرا وأمام جثمان علي المضرج بالدم والفقر والكرامة الإنسانية، شعرت أن حيطان بيروت لم تعد صالحة كي نسند سقوطنا إليها.
صارت بيروت مدينة عارية بلا حيطان، وصرنا شهوداً على موتنا، وعلى زمننا المغطّى بعار الانحطاط.
عفواً يا علي، لم نستطع أن نستعير صرخة «يا علي»، التي صنعها علي شعيب في يوم يبدو بعيداً وسحيقاً ومطموراً بالنسيان والخيانة.
عفواً يا أخي، لقد أطلقت أنت الصيحة الأخيرة وتركتنا للصمت.
عفواً لأننا لا نستطيع أن نرثيك، فنحن نشعر أننا لا نستحق شرف رثاء رجل من لبنان كتب برصاص مسدسه آخر اختلاجات الحياة فينا، واستلقى على أحد أرصفة شارع الحمرا معلناً أن بيروت صارت مقبرة.
لا نرثيك ولا نعدك بمجد يليق بالشهداء، نرى صورنا في مرايا موتك، ونصغي إلى همسات الموت الذي كتبه دمك.
أنت لست كافراً، لذلك اخترت ومضيت.
أما نحن يا علي، أما نحن يا سامر، أما نحن يا خالد ويا توفيق، فمن نحن؟
هل نحن أبناء ثورة مغدورة ابتلعها الوحش، أم نحن آباء ثورة لم تأتِ، وعليها أن تبدأ اليوم من جديد، قبل أن نكفر بأنفسنا وببلادنا وبالورود التي لم تتفتح بعد.
أنتم اخترتم أن تكونوا طليعة الموتى كي تلوحوا لحياة لم يبق منها سوى اسمها الذي انكسرت حروفه وتشظت.
أما نحن فعلينا أن نخرج من دوامة الاشمئزاز ونستعيد بريق الغضب، كي لا نصير ضحايا وطن صار هو الضحية.
نقول لا من أجل أن نقول لن.
نغرق في العتمة ولا نستغيث، فنحن آخر الشهود على موت العرب.
لو كان هناك قضاء عادل, لتمت محاسبة الفاسدين, واسترجاع أموال الدولة المنهوبة!
حتى القضاء بلبنان مقسم طائفياً!! ولا حول ولا قوة الا بالله
يخال كلّ عربيّ، يقرأ هذا المقال، أنّ المشهد في بلاده ! غطّى الخراب كلّ البلاد فسوّى
التّرابُ التّرابَ ! و ما عادت حتّى الصّورة تميّز الأوطان ! فرّقنا “السّرابُ و جمّعنا الخرابُ ! و الخراب خراب بكلّ البلدان ! خراب الدّيار خراب الجيوب خراب القلوب .قرفنا و تداركنا الإشمئزاز. الإشمئزاز من أسياد السّياسة و التّجارة” مافية” السّلب و الإبتزاز. و ما بقى لنا غير الأمل الذي بعثه الله في قلب “أبي الفضل” فترجمه لنا في قصيدته الشّهيرة : “إشتدّي يا أزمة تنفرجي….” و بإذنه ستنفرجُ، ما دام لنا قلب، بين الضلوع يختلجُ. شكرا يا من لا يرقاه يأسٌ. حفظك الله لنا قلبا و قلما و قالبا.
إلياس خوري… من أشرف الأقلام التي تكتب في هذه الجريدة بلا منازع… !!!
ولكن، وعلى الرغم من أن بيروت صارت مقبرة للأحياء قبل الأموات، نحن أبناءَ هذه الثورة المغدورة التي حاولت الوحوش ابتلاعها… نحن، في الآن ذاته،آباءُ ثورة لم تأتِ بعد، وعليها أن تبدأ اليوم من جديد، قبل أن نكفر بأنفسنا وببلادنا وبالورود التي لم تتفتح بعد… !!!
شكراً أخي الياس خوري.
تفتح التلفزيون، وحين تراهم تشعر في حاجة واحدة، هي أن تغمض عينيك وتسدّ أذنيك.
هذا ماحصل معي للتو عندما فتحت التلفاز وإذا بالسيد حسن نصر يكرر علينا خطابه. تركته ولكن ربما سأعود إلبه لأقرأ العناوين.
الله يرحم هؤلاء الضحايا, أجسماهم ماتت ورحهم بقيت بيننا. الغد أفضل إن شاء الله, لن نفقد الأمل مهما حاوات أنظمتنا قتل الروح فينا.