راهنتُ على أن قادة الأحزاب العربية الثلاثة: الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة وحزب التجمع الوطني الديمقراطي والحركة العربية للتغيير، سيتوصلون، مهما راوغوا وناوروا وضَلّلوا وضُلّلوا، إلى تفاهمات أساسية تفضي في نهايتها لإعادة بناء القائمة المشتركة وتُمكّنهم، مجتمعين، من العبور، هذه المرة أيضا، نهر السياسة الإسرائيلية المضطربة، وتنجّيهم من السقوط الكبير.
فشلت رهاناتي؛ فعند اقتراب ساعة الصفر وقبل إغلاق باب تقديم القوائم إلى لجنة الانتخابات الإسرائيلية بوقت قصير، سمعنا نبأ حدوث «الانفجار الكبير» الذي نجم عنه تقديم قائمتين منفصلتين، واحدة باسم التجمّع الديمقراطي، وأخرى تجمَع الجبهة الديمقراطية والحركة العربية للتغيير.
لن أتعاطى في هذا المقال مع سيل التبريرات والادعاءات التي دفع بها كل طرف لشرح مسببات قرار الانفصال، وتأثيم شركاء اللحظة قبل الأخيرة، بحدوث ما حدث. لن أفعل ذلك لأن المشهد برمته كان معيبا؛ وهو يشبه خناقة بدأت بين أطفال في شوارع قرية، ثم ما لبثت أن انتقلت إلى كبارهم ثم إلى اقتتال دام بين عائلتين كتب عليهما، بسبب تلك الخناقة، أن تمضيا العمر تحت ظلال الثأر والانتقام والضغينة الدفينة. ما حصل كان مؤسفا، ولعبة «إنت بديت..لأ، انت بديت» كانت طفولية إلى حد السذاجة، ومستفزة إلى حد الدهشة؛ لكنها في الواقع أثبتت أن الاقتتال لم يكن بسبب «رمّانة، بل من قلوب مليانة»، ومن يبحث يستطيع أن يجد كم مرة أشهرت بين الشركاء الخناجر المخبأة تحت العباءات وفي أنفاس الزمن. ليس من الصعب اليوم، بعد أن تكشّفت بعض الوثائق والتسجيلات، أن يتعرف مستطلع محايد إلى ماذا ومن كان وراء القرار الحاسم بالانسلاخ وفض تلك الشراكة؛ ولن أتطرق هنا إلى الدوافع التي رجّحت وحسمت سلوك كل طرف من الأطراف الثلاثة، خاصة قادة حزب التجمع، ولماذا اختاروا الطريق الذي اختاروه في النهاية؛ فالخوض في تلك التفاصيل اليوم لن يكون في مصلحة الحملات التي تطالب المواطنين العرب وتحثهم على التصويت والمشاركة في حسم المعركة الانتخابية، وهذا ما بدأ ينتبه له قادة وناشطو الأحزاب في اليومين الأخيرين. توجد ضرورة لطي تلك الصفحة والانتقال إلى الجوهر، كما صرّح مؤخرا معظم قادة الأحزاب العربية، وبضمنهم النائب سامي ابو شحادة، فالوضع الذي أوصلونا إليه خطير وبائس، ويتطلب بذل مجهودات استثنائية، من قبل جميع الأحزاب، لإقناع الناخبين بضرورة المشاركة في التصويت، ثم إقناعهم بالتصويت لأحزابهم بعد أن يستعرض كل حزب برنامجه السياسي وتصوره حول الوسائل الممكنة والمتاحة من موقعهم في الكنيست، لتحقيق تلك البرامج. على الرغم من أهمية هذه المسألة، وكي تكون مساعي طي الصفحة أنجع، من المفترض أن تُنقّى الفضاءات الاجتماعية و السياسية في قرانا ومدننا من رواسب الحملة الخطيرة، التي شنها قادة وناشطون في حزب التجمع، بعد فض الشراكة، ضد شركائهم في القائمة المشتركة، خاصة اتهامهم الصريح للنائبين أيمن عودة وأحمد الطيبي بالتآمر مع يئير لبيد رئيس الحكومة، على تفكيك القائمة المشتركة والقضاء على وجود حزب التجمع عن طريق عرقلة إمكانية تقديم قائمته الانتخابية للجنة الانتخابات؛ وهي فرية تعادل في عرف السياسة والقوانين الاجتماعية والأخلاقية تهمة «الخيانة». لم أتوقع أن يتبنى النائب سامي أبو شحادة مثل هذا الادعاء المختلق، الذي لا يستسيغه عاقل، وغير المسبوق بخطورته؛ ولا أن يردده بتصميم من على جميع المنصات لبضعة أيام، وهو الذي عرفناه دمثا رزينا متعقلا، يصون لسانه كما يصون كرامته، ويدافع عنها بصلابة وإصرار. لم أكن على معرفة شخصية مع النائب سامي أبو شحادة، إلى أن التقيته مؤخرا خلال وجودنا في عمان للمشاركة في حفل الفنان مرسيل خليفة، الذي أقامه «نادي الهلال المقدسي». كانت لقاءاتي به في عمان قليلة وقصيرة، لكنها كانت كافية كي ألمس طيبته وهدوءه واتزانه في علاقاته مع الآخرين. وقد لفت انتباهي دفء علاقته مع زميله النائب أحمد الطيبي، الذي وجد في عمان للسبب نفسه، والاحترام الظاهر المتبادل بينهما، في كل اللقاءات التي حضرتها أو شاهدتها أو عرفت عنها. أقول هذا ليس من باب الصدفة أو النميمة، بل كي أوكد أن ما حدث ليلة الخميس الماضي لم يكن متوقعا ولا مبررا؛ والأغرب من ذلك كان الهجوم الشرس على شخصي أيمن عودة والطيبي، بعد حصول الانفصال، بمشاركة النائب أبو شحادة غير المفهومة لديّ على الإطلاق والغريبة على أسلوبه السياسي العام الذي يبديه في الحديث حتى عن ومع الساسة اليمينيين العنصريين.
رغم الاختلافات السياسية في مواقف الأحزاب المشاركة في عملية الانتخابات وبينهم وبين من يقاطعونها، يجب أن تبقى جسور الاحترام والحذر ممدودة بين الجميع
جميعنا يعرف أننا على عتبة مرحلة سياسية مصيرية سنشعر بتبعاتها في الثاني من شهر تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، أي بعد ظهور نتائج الانتخابات. وعلى الرغم من الاختلافات السياسية في مواقف الأحزاب المشاركة في عملية الانتخابات وبينهم وبين من يقاطعونها، يجب أن تبقى جسور الاحترام والحذر ممدودة بين الجميع، لاسيما عندما نشاهد اليافطات العملاقة التي يعلّقها ناشطو اليمين الفاشي المحموم في شوارع المدن اليهودية، وعليها صور النائب أيمن عودة والنائب الطيبي وهما يتلفعان علم إسرائيل وشعار كبير بينهما يعلن بشكل تحريضي «هكذا ستكون صورة النصر»، والمقصود طبعا نصر يئير لبيد ومعسكره. لا يمكن أن نستبعد تأثير هذه الدعاية في بعض المأفونين ودفعهم إلى الاعتداء على النائبين، قد يصل إلى حد ارتكاب جريمة القتل. ألم يكن على قادة حزب التجمع، وكل من يستسهل إطلاق تهمة الخيانة ضد غريمه السياسي، أن يحذروا من إشاعة أجواء التنابز العنيف ومن عواقبها المحتملة، خاصة ونحن نعيش بين نارين: نار العنصرية الفاشية ودعايتها المحرضة على القتل، ونار العنف والجريمة التي قد تتمادى وتجيّر، في معطيات مختمرة، لبث الفتنة والفوضى السياسية داخل مجتمعاتنا. لقد صارت احتمالات الاغتيالات السياسية في مواقعنا أقرب مما يتخيّلها البعض، ولنا بما يحصل في المجالس البلدية والمحلية عبَرٌ واضحة.
لسنا في معرض سرد سلبيات وإيجابيات مسيرة القائمة المشتركة بتشكيلاتها المختلفة، فالبعض ينتقدها ويشدد على أنها أدت إلى غياب المنافسة الحزبية وإضعاف الأحزاب وهيئاتها، وبالتالي ساعدت على تغييب دور السياسة من حياة الناس، وساعدت على تنمية شخصية القائد النجم؛ لكننا لا نستطيع، في المقابل، حتى إن فعلا ساهمت في تأزيم تلك الحالة الموجودة أصلا، أن نغفل حقيقة كونها عاملا مهما في «ترويض» النفوس المتحزبة المتزمتة والمتمردة، والحد من تأثيرها في تقويض حالات السلم الأهلي السياسي داخل مجتمعاتنا، وفي تهذيب لغة الخطابة بين الشركاء، سيان على مستوى القيادات والكوادر؛ مع أننا كنا نسمع صليل سيوف هؤلاء المردة من حين لآخر. لم يدم هذا السلام والتفاهم بين الإخوان طويلا؛ فما أن انتشر نبأ انشطار القائمة المشتركة حتى صحت الجحافل من سباتها، وعادت أفواج المستقيلين والمقالين والزعلانين والمتمزعلين إلى أحضان قبائلهم، وطفقوا يطلقون سهامهم القشيبة، هذا إلى صدر ذاك، ورجعنا إلى حالة التفوير السياسية، حيث لا عقل يسود ولا قلم يفتي، وأبناء «مارك» يملأون الفضاءات «فكرا» ويبرع منتجو الأخبار بتلفيق أخبارهم وشائعاتهم. كنت على مسافة قريبة من مجريات الأحداث ولم أصدق كيف حدث هذا الانهيار بهذه السرعة.
أتمنى أن ينسى الناس تفاصيل ما جرى وأن يكونوا مستعدين لسماع ما لدى قادة الأحزاب، أن يقولوه وأن يقبلوا بعودتهم لممارسة دورهم الاجتماعي والسياسي في التأثير في مجريات الأمور في الدولة، مهما كان ذلك التأثير محدودا؛ أقول أتمنى وأشعر بأننا سوف نخسر «السياسة» بعد أن خسرنا «وحدتنا» وسوف نبقى، أو ربما لا، مع عالم النجوم، القدماء منهم والجدد، وأبرز الجدد هما الدكتور منصور عباس، نجم الحركة الإسلامية الموحدة، وعلى ضفة السماء الأخرى النجم سامي أبو شحادة قائد وزعيم حزب التجمع الديمقراطي. لقد أنهيت مقالي الأخير قبل أسبوعين، بالتمني أن ينجح قادة الأحزاب الثلاثة في استعادة بناء القائمة المشتركة؛ وأضفت أنني أشعر إذا مضى حزب التجمع في «طريقه الثالثة» فقد يشكل قراره خطوة مفصلية في تشكيل خريطة التيارات السياسية الفاعلة داخل مجتمعنا العربي؛ وقلت، كذلك، قد نكون بحاجة إلى هذه الخضة السياسية، كي تظهر الصورة على حقيقتها ونعرف بأي أدوات سياسية علينا مواجهة المشهد السياسي الذي سيتشكل في إسرائيل، بعد الانتخابات المقبلة. واليوم وقد اختاروا في التجمع أن يعودوا إلى طريقهم الأولى لم يبق لنا إلا أن ننتظر ونسمع ما سيقوله لنا كل حزب وكيف سيضمن لنا نجومه السلامة والأمن والكرامة والوطن بعد الانتخابات المقبلة.
يتبع..
كاتب فلسطيني
مقال جيد جدا
المطلوب الان بعد كل الذي حصل
التوجه للانتخابات وعلى كل عربي يحق له التصويت ان يصوت للقاءمة او المرشح الذي يعتقد انه خير لفلسطين واهلها.