غلب المزاج الحربيّ على توقعات الصحافة والمحللين التلفزيونيين بشأن التداعيات التي قد تترتب على الزيارة المثيرة الجدل، التي قامت بها هذا الأسبوع نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النوّاب الأمريكي إلى تايبيه عاصمة جزيرة تايوان.
لم يتردد بعضهم عن التحذير من إمكان اندلاع جبهة حرب جديدة في ذلك الجزء من العالم، في موازاة الحرب الدائرة على الجانب الآخر في أوكرانيا، مرددين تساؤلات، مثل هل ستنجح هذه العجوز في إشعال حرب بين قوى نووية متوترة أصلاً، وهل ستكون زيارتها الوجيزة بداية حرب عالميّة بين حلفاء «الخير» الغربيين ومحور «شرّ» جديد ممتد من بكين إلى موسكو، مروراً بطهران؟
بضاعة الديمقراطيّة الفاسدة مجدداً
زيارة بيلوسي (من الحزب الديمقراطي) إلى تايوان، التي حظيت بدعم غير عادي من المعارضة في الحزب الجمهوري، وتعد تنصلاً رسمياً من جهة إدارة الرئيس جو بايدن، وإدانة شديدة اللهجة من بكين، كانت قصيرة للغاية، وتضمنت بشكل رئيس اجتماعاً رمزياً مع تساي إنغ وين، رئيسة الجزيرة – التي لا تعترف الصين باستقلالها وتريد ضمّها إلى الأرض الأم – وأخبرتها أن «تصميم أمريكا الحفاظ على الديمقراطية هنا في تايوان وحول المعمورة لا يزال صارما في وقت يواجه العالم خياراً بين الديمقراطية والاستبداد».
وما لبثت أن غادرت رئيسة مجلس النواب، دون أن تشعل الحرب المزعومة، وبالكاد كان عندها وقت كاف لمناقشة الأجندة الرسميّة التي أعلنت للصحافيين وشملت قضايا معقدة، مثل وباء كوفيد 19 وتغير المناخ وحقوق الإنسان والحكم الديمقراطي وتعزيز النمو الاقتصادي والتجارة المتبادلة.
لكن بالطبع فإن أحداً، سوى المغفلين، لم يقتنع بتلك الشكليات ولا بصور بيلوسي مع مضيفتها، ولا حتى بتنصل الإدارة الأمريكيّة من علاقتها بالزيارة العتيدة. فمن الجليّ أن العجوز شخصياً تمثّل أدق رسالة ممكنة يمكن إرسالها للقيادة الصينية لكبح شهيتها، التي قد تكون انفتحت لاستعادة الجزيرة، لا سيّما بعد نجاح الطرف الروسيّ في استعادة معظم إقليم «دونباس» المتنازع عليه شرقي أوكرانيا.
أقل من نانسي كانت الرسالة ستكون بلا قيمة فعلية لانخفاض مستوى التمثيل، فيما إرسال شخصية رسميّة رفيعة من الإدارة الأمريكيّة الحالية سيكون بمثابة إعلان حرب. وليس من شك أن الصينيين الذين صبروا لعقود طوال دون أن يُقدموا على عمل عسكري لاستعادة الجزيرة بالقوّة لا يحبذون التورط في حرب شاملة مع الغرب، وأن الأمريكيين، رغم نزعتهم المعروفة للعسكرة ليسوا في وارد فتح جبهة أخرى مع أكبر قوّة اقتصادية وعسكريّة في العالم بعد الولايات المتحدة.
لماذا الرّسالة البيلوسيّة الآن تحديداً؟
ربما يكون أهم ما في رحلة بيلوسي متعلق أساساً بصناعة الرقائق الإليكترونية. ومن المعروف أن تايوان تمثل في إطار تقسيم العمل العالمي بين القوى الرأسماليّة أكبر منتج للرقائق (أشباه الموصلات) التي تدخل كمُكون رئيس في العديد من الصناعات المتقدمة في الإلكترونيات والأجهزة الكهربائيّة الحديثة والطائرات، والأسلحة، والسيارات، وغيرها. واستقصدت الولايات المتحدة دائماً تركيز تلك الصناعة في تايوان ومنعها عن الصين، رغم أن الأخيرة تحولت خلال العقود الماضية إلى أرض مصنع للولايات المتحدة والغرب.
ويبدو أن محاولة روسيا التمرد على النظام الاقتصادي العالمي، قد أثارت قلقاً لدى دوائر صنع القرار في واشنطن من أن الصين – الاقتصاد الأهم في العالم – والتي رفضت الانخراط في الحرب الاقتصادية الغربيّة على روسيا، قد تجد أنها مضطرة للاستحواذ على تكنولوجيا صناعة الرقائق التايوانيّة بالقوّة وإلا المغامرة بفقدان مكوّن رئيسي قد يكون غيابه كارثياً على الصناعة الصينية برمتها.
الذي لم نشاهده على شاشات التلفزيون في همروجة الزيارة كانت محادثات بيلوسي مع مارك ليو، رئيس مجلس إدارة شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات، أكبر منتج لصناعة الرقائق في العالم، ويقال إن بيلوسي وليو – الذي شرعت شركته مؤخراً في بناء مصنع لها في أريزونا في الولايات المتحدة – ناقشا تفاصيل قانون الرقائق والعلوم المتقدمة، الذي تم تمريره مؤخرا في الكونغرس الأمريكي، ويقدم إعانات مالية وتسهيلات ضريبيّة وإجرائيّة هائلة للشركات التي تفتح مصانع رقائق أمريكية. ومن الجليّ أن الولايات المتحدة ستسعى خلال السنوات القليلة المقبلة إلى إعادة تنظيم تقاسم العمل في السوق الدولي، بحيث تستعاد بعض الصناعات الاستراتيجيّة إلى الداخل الأمريكيّ، ويتم التقليل من هيمنة الصين المتزايدة على أجزاء مختلفة من سلاسل التوريد العالميّة الرئيسيّة.
وهناك توجه صريح لاحتكار صناعة أشباه الموصلات المتقدمة تحديداً بعيداً عن يد الصين، فيما سمحت واشنطن لكوريا الجنوبية واليابان والاتحاد الأوروبي بتبني خطط جادة لاستقطاب تلك الصناعة من تايوان – أو لمنع انتقالها إلى الصين – بعدما تبيّن صعوبة الدّفاع عنها، في ما لو قررت بكين اتخاذ مسار الحرب – دون النووية على النسق الروسيّ في أوكرانيا – وفرض سلطتها على الجزيرة المتمردة.
بين تايبيه وبكين: الحياة صعبة من دون رقائق
بالطبع فإن القيادة في تايوان تقرأ الأجواء وتدرك أن النيات الأمريكيّة بشأن الميزة الحرجة لصناعة أشباه الموصلات لدى الجزيرة وإمكان نقلها نحو البر الأمريكي ودول الحلفاء الأخرى تعني بشكل أو آخر أن واشنطن تتقبل نظرياً فكرة خسارة تايوان لمصلحة الصين الأم في ظل صراع مقبل دون نووي، ولذلك كانت زيارة بيلوسي ضرورية لطمأنة تايبيه وجيرانها علناً من أنّ إعادة تقسيم العمل العالمي حول الرقائق لا يعني بالضرورة تراجعاً أمريكياً عن حماية رأس الجسر، الذي تحتفظ به قبالة السواحل الصينية، ومنعاً لشعور التايوانيين باليأس ومن ثم قبولهم بالخضوع لبكين.
في المقابل فإن بكين قرأت الرسالة البيلوسيّة دون شك وفهمت محتوياتها جيداً. ورغم أن ردّ الفعل الأولي اقتصر على احتجاجات دبلوماسيّة واستعراضات إعلاميّة ومناورات عسكريّة للبحرية الصينية بالجوار التايواني، إضافة إلى حظر استيراد الأسماك والفواكه من الجزيرة، فإن المؤشرات تتراكم على أن الصين وقريباً ستجد نفسها شيئاً فشيئاً طرفاً في حرب اقتصادية مع شريكها التجاريّ الأكبر – الولايات المتحدة -.
وقد نقلت التلفزيونات بالفعل قرار شركة «كاتل» الصينية، أكبر منتج لبطاريّات السيارات الكهربائيّة في العالم تعليق مشروعها المرتبط بافتتاح مصانع لها في الولايات المتحدة بسبب (تعقيدات) تسببت فيها زيارة بيلوسي وتهدد بتعطيل المشهد الجيوسياسي والاقتصاد العالمي كله.
انطلق القطار من أوكرانيا وسيصل حتماً إلى عالم جديد
ما زال القانون الأمريكي بشأن الرقائق وأشباه الموصلات والعلوم المتقدمة غير مكتمل، وفق النقاد المحليين وغير كافٍ لحسم منع نقل التكنولوجيات المتقدمة إلى معسكر العدو (الصين أساساً، والآخرين لا سيّما روسيا) وهو بتركيزه على الرقائق المتقدمة وحدها قد لا يكون فاعلا لوقف محاولات الصين من الاستحواذ على المستوى التقليدي من أشباه الموصلات المستخدمة في الصناعات المدنية أساساً كالسيارات والمنتجات الاستهلاكيّة، ويضع الشركات عبر العالم تحت ضغط الاختيار الحاسم بين العمل مع الولايات المتحدة أو مع الصين مما قد يشلّ الاقتصاد العالمي برمته، ويترك آثار ركود عميق على مجمل المشروع الرأسمالي، بما فيه مركزه الأهم الولايات المتحدة.
ومع ذلك، فلا شكّ أن قطار إعادة تشكيل العلاقات الدوليّة قد انطلق بالفعل من محطته الأولى في أوكرانيا، وبيلوسي، التي شاهدناها على الشاشات التلفزيونية من تايبيه كانت قادته بنفسها ليمر من المحطة التالية: تايوان.
إعلامية وكاتبة لبنانية – لندن
جميل…
قراءة خارج الصندوق.
لندرة هذه الرقائق أصبحت رقائق الموبايلات القديمة جداً تنتزع وتباع في الولايات المتحدة رفي الانترنت بأسعار خيالية.
تحليل منطقى و ذكي بدات افهم كيف يتم التخطيط للحروب
طبعا مقال رائع يفوت الفرصة على جوقة المصفقين للعم سام والملوحين بأعلامه مصدقيه الموهمين البسطاء ب”تأمين الأنظمة الديمقراطية” و”المعتدلة” والخيرية وحمايتها من الشيوعيين والاشتراكيين والدكتاتوريين، وما هي إلا كيانات صناعية إنتاجية لاحتياجات امريكا التقنية بتكلفة متدنية (تايوان، كوريا الجنوبية وهونغ كونغ) وثرواتية نفطية زراعية (الشرق الاوسط وأمريكا الجنوبية) واستراتيجية حدودية (كامب ديفد واخواتها) ودفاعية (أقليات سوريا والعراق)
حسب المفهوم الأمريكي للديمقراطية : لكي تكون ديمقراطيا يجب أن تكون معاديا للشيوعية