انعكاسات

حجم الخط
0

كنت أحملق كالمعتوه في وجهي المنعكس على المرآة وأنا أحلق لحيتي وفجأة رأيت ورائي وجها نسائيّا يمرّ بسرعة ويختفي في الغرفة المجاورة ..
تراه من يكون فلا أحد غيري هذا الصباح في البيت زوجتي وأبنائي كلهم في الخارج وأنا أستعدّ بدوري للخروج.. اعتقدت أنّ خيالات الحلم سارت منعكسة على المرآة .. ترنّمْتُ، حين اطمأْنَنْت إلى أنّي واهمٌ، بجزء من أغنية قديمة وأعجبني فيها موّال فأعدته وكررته واجتررته وأنا مُنْتَشٍ بصوتي ..وجدتُني وأنا أرَى التّرنيمات تخرج من حلقي في المرآة كالمُتيَّم بوجهه المنعكِسِ على صفحة الماء .. ابتسمت ساخرا منه: كيف عاش يعشق صورته إلى أن مات ولم يعشق صوته !
فجأة سمعت كالصّوت من خلفي يقول: الأغبياء وحدهم يعشقون صورَهُم.. فقلت: أجل، أجل ولكنّه صوتي الذي يُتيّمني .. توهمت أني أردّ على أحدهم فقلت ما قلت بصوت مَنْبُور عَالٍ.. والتفتّ خلفي لأرى محدّثي .. كانَ ذلك الوجه الذي رأيته منذ حين كاللمحة في المرآة .. ابتسمت له واستحييت أن أقول له من أنت؟ وكيف جئت؟ وجهها الذي أراه الآن منعكسا على عدسة عيني أجمل ممّا رأيته منذ حين في المرآة.. قلت لها: بصوت مرتعش.. مرحبًا .. هل أخدمك بشيء؟ قالت: وجدتُ الباب مفتوحا فدخلت.. .. قلت: مرحى مرحى .. ووجدتني أعيد كالأحمق جملتي الأولى: هل أخدمك بشيء؟ كنت أحدثها وشفرة الحلاقة في يدي ورغوة الصابون موزّعة في مناطق من وجهي كثيرة .. كنت بثياب النوم .. وشعري منفوش وووجهي منتفخ .. صَدَقَتْ زوجتي لمّا كانت تقول لي في سنوات زواجنا الأولى: حين تُصْبحُ أراكَ كَمَنْ كان ينام بين مُتلاكميْن أهْوَجَيْن .. اقتربت منها والشفرة في يدي ولكنّها ما ابتعدت بل ابتسمت لي وقالت: هلاّ أعنتني على أن حقن زوجي الهائج هذا اليوم.. قلت: بكل تأكيد.. لحظة ريثما ألبس وأعود .. قالت: لا بل تعالَ معي كما أنت فالحقنة ستفسد إن لم نسارع بها إليه.. أو أنّ مزاجه سيفسد أكثر .. أسرعت معها وأنا بوجه ي ستحق الصفع وهيأة كهيأة المُوَسْوَسين المَمْسُوسِين.. صعدت خلفها وأنا ألهث من الإعياء …دخلتْ البيت قبلي وهرولتُ أدخل بعدها .. فقدت أثرها .. كان الصمت مطبقا ناديت: هل مِنْ أحد؟ .. أجاب صوتٌ كالصدى: ..لا أحد.. اتجهت صوب الصوت كان هناك رجل يحلق لحيته ويترنّم بأغنية أعرف كلماتها .. توقف عن الغناء حين رآى صورتي منعكسة .. دلفتُ إلى الغرفة المجاورة .. حين تأكّد أنّه واهم عاد إلى أهزوجته الجميلة .. اختفيت وراء الستائر ..
كانت القاعة فسيحة بها ستائر على طبقات وأرائك ذات أشكال بديعة متنوّعة .. من بين الستائر الشفافة بدت لي صور في أطر مذهّبة .. استوقفتني صورة منها انطلق صوتي من حنجرتي: هي .. هي .. وضغطتُ بيدي على فمي.. وحين نزعتها أتمَّ الكلامُ المبتورُ نفْسَه: لم أكن أتوهّم .. إنّهَا هي .. لكن أين ذهبت؟ ولمَ كذبت عليّ ليس زوجها على الحال التي وصفت.. بحثت بين الصور عن وجه زوجها الذي رأيت بالكاد ملامحه .. لم أجد من شبه له في صور الرجال المعلّقة على الحائط.. انتبهت وأنا في حيرتي إلى صوت نسائيّ يكلّم الرجل ؛ لم أتبيّن شيئا ممّا كان يدور بينهما غير أنّ صوتا رجاليا قال: هل من خدمة ؟ أدركت أنّ الرجل سيقع بدوره في كمين .. قررت أن أخرج إليه لأنبّهه لكنّي جَبُنْتُ وحين ذهب الجبن عنّي وخرجت كان الرجل قد ترك المكان .. هرولت وراءه وسمعت خطوات تصعد في السّلم لحقت بها دخلت الشقة كانت هناك امرأة تتزين أمام مرآتها لمحتني فتوقفت عن الغناء .. والتفتت لتتأكّد من وجودي أسرعت إلى الغرفة المجاورة وحين أردت أن أختفي وراء الستائر وجدت أكثر من مختبئ .. همست في إذن أقرب شخص منّي: هل نحن في ورطة ؟ قال لي: ومن تكون أنت ؟ قلت: استغاثت بي وأوقعتني في ورطة ؟ قال: هل تعرف ملامحها .. قلت: إنّها التي في الصورة الثانية إلى الشمال .. قال لي: ولكن التي جاءت بي إلى هنا غيرها قلت: أتراها في الصور قال: إنها في الصورة الثالثة .. حوّلت وجهي إلى الصورة فصعقت: قلت: إنها أمّي .. قال لي ومن تكون أنت .. ردّدت: ولكن من الذي جاء بصورة أمّي ههنا ؟ خرجت من وراء الستائر واتجهت إلى المرآة؛ لم يكن هنالك من أحد سوى وجهي برغوة الصابون، حملقت جيّدا في عيوني وجدتها غائرة أكثر فأكثر وبأناملي حرّكت أرنبة أنفي كانت أقلّ انكسارا ومررت كفّي على خدّي وتابعت عيني ذلك كله على المرآة صرت أكثر شحوبا ممّا كنت عليه قبل حين.. تذكّرت أنّ لي أغنية كنتُ أردّدها من قبلُ وأنا أحلق ذقني .. نسيت الكلمات ولكني ما نسيت اللّحن.. بدا صوتي قبيحا جدّا وأنا أدندن لذلك كتمته ..
أردت أن أعرف أين أنا ؛ عدت أدراجي خلف الستائر فلم أجد أحدا .. بحثت في الغرف المجاورة عن أثر امرأة فلم أجد لأية امرأة أثرا ولا رَجُلٍ .. عدت إلى لحيتي أحلقها .. لكنّي وجدتها قد طالت واكتثّتْ .. بدا لي أنّ الهزال استبدّ بوجهي حتى صار للهزال وجْهٌ كوجْهِي .. رأيت وأنا أنظر في المرآة، ذلك الوجه النسائي الأوّل يقف خلفي يقول لي أين صوتك الأوّل؟ التفتّ .. كانتْ أمّي تربّت على كتفي وتقول لي: أما آن أن تحلق هذه اللحية .. أما آن لك أن تعود إلى غنائك الأوّل .. مضتْ سنتان اليوم وأنت في جلباب الحزن .. لم يكن الذنب ذنبك حين استنجدتُ بك لتحقن والدَكَ .. الحُقنة ليست هي التي قتلته مثلما أكّد الطبيب الشرعي ذلك .. فلماذا تعذّب نفسك يا كبِدي؟ .. قالت ذلك وغابت في الغرفة المجاورة لحقت بها لأسمع منها أكثر .. لكن كان في الغرفة المجاورة امرأة أخرى .. احتضنتها وظللت أبكي .. قالت لي: ابكِ يا حبيبي قدْرَ مَا تستطيع .. نعم ابْك لأنّك يا زوجي الطفل حينما تبكي تنجاب عنك السحب الكدِرة .. التفتّ إليها كانت امرأة أخرى غير التي رأيت صورتها في الجدران المعلّق.. قلت لها: أعذريني لم أكن أتصوّر أن أغيب عنكم كل هذا الوقت خلف السّتائر.. نظرت حولي لم يعد هناك أية ستائر سألت عن المرآة: حملتني من يدي وسارت بي إليها .. نظرت إلى وجهي وإلى يدٍ لطيفة تمرّر الرغوة بكل لطف على خدي وذقني أمسكت الشفرة بيد فيها شيء من الارتعاش، لكنّي تمكّنت من أزيل أوّل كتلة شعر من على مستوى حنجرتي ..ارتعشت يدي أكثر حين مرّت الشّفرة على تفاحة آدم .. كانت حواء خلفي هنالك تساعدني على أنْ أترك التفاحة في منبتها وأمرّ .. تركت التفاحة في الحنجرة وشعرت ولأوّل مرّة أنّي لن أغادر الجنة من جديد ..

كاتب من تونس*

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية