انعكاسات عودة اليسار إلى البرازيل

فاز زعيم اليسار البرازيلي دولا دا سيلفا برئاسة البرازيل الأحد الماضي، بعد انتخابات رئاسية مشوقة في مواجهة اليميني القومي بولسونارو، ويأتي فوزه في ظرف يشهده فيه العالم حرب نفوذ تتجاوز الحرب الباردة، وهي قريبة من الحرب العالمية الثانية بسبب الحرب الروسية ضد أوكرانيا.
وعكس التوقعات التي سادت عند بدء الحملة الانتخابية، ثم نتائج الجولة الأولى، لم يكن فوز دا سيلفا سهلا للغاية، فبالكاد فاز بأقل من نقطتين في الجولة الثانية في مواجهة بولسونارو الذي يمثل تطرف اليمين ليس في البرازيل وحدها، بل في أمريكا اللاتينية، وبهذا يكون حزب العمال قد عاد للرئاسة وبـ13 مليون صوت أكثر من انتخابات 2018.

سيكون فوز دا سيلفا عاملا مسرعا للتغييرات الحاصلة في الخريطة العالمية التي لا تصب بالضرورة في مصلحة الغرب

وتختلف الزوايا التي يمكن من خلالها رؤية أو معالجة نتائج هذه الانتخابات الرئاسية، ولعل أبرزها التركيز على شخصية الرئيس سيلفا دا لولا الذي ينهض سياسيا من الرماد من جديد، في عملية تكاد تكون معجزة. فقد أراد «أعداءه» دفنه حيا بمجرد مغادرته الرئاسة منذ أكثر من عقد، ونجحوا في إدخاله إلى السجن في ملف فساد يشبه ملفات الفساد التي تلفقها دول ديكتاتورية ضد السياسيين والإعلاميين والحقوقيين، وهذا يدل على غياب نضج جزء من تيارات توجد وسط دول أمريكا اللاتينية، لاسيما المرتبطة باليمين، التي تعتبر رئاسة الدول في المنطقة حقا مقتص
را على المحافظين دون اليسار. وعموما، يمكن رؤية هذه الانتخابات من زاويتين رئيسيتين، الأولى زاوية وطنية أو محلية محضة مرتبطة بالانعكاسات في البرازيل، بينما الثانية من زاوية جيوسياسية تتعلق بانعكاسات فوز لولا دا سيلفا على أمريكا اللاتينية والعلاقات مع القوى الكبرى، خاصة في السياق العالمي الحالي المرتبط بالحرب الروسية ضد أوكرانيا. وعلاقة بالزاوية الوطنية، أصبحت هذه الانتخابات الرئاسية في البرازيل بمثابة نسخة لاتينية للانتخابات التي جرت في الولايات المتحدة سنة 2020 بين مرشح اليمين دونالد ترامب ومرشح الديمقراطيين جو بايدن، وذلك عندما انقسم هذا البلد إلى قسمين في انشطار سياسي لا سابقة له أدخل المجتمع في مواجهة شبه مفتوحة، خاصة بعدما روج ترامب أن الانتخابات قد تمت سرقتها منه، ويعد الهجوم على الكونغرس الأمريكي عنوانا بارزا لهذا الانشطار. إن أرقام الجولة الثانية ناطقة في البرازيل حول الانشطار السياسي، فقد فاز لولا بـ59.9% وحصل بولسونارو على 49.1%. والحديث عن الانشطار السياسي هو انقسام عميق وسط مجتمع غير متصالح، يعكس أجواء حرب أهلية انتخابية وسياسية. وعندما تصل الأوضاع إلى هذا المستوى، لاسيما في الدول التي لا تتمتع بديمقراطية عريقة، يمنح الفرصة للمؤسسة العسكرية للتدخل. وإبان رئاسة بولسونارو وارتكابه الأخطاء الفادحة خلال جائحة فيروس كورونا، وكيف تسبب هذا في انقسام وسط المجتمع، جرى الحديث عن احتمال كبير لوقوع انقلاب عسكري تحت يافطة «تصحيح الأوضاع». وعليه، سيكون الرئيس اليساري المقبل حريصا على عدم إغضاب النصف الآخر من الشعب، وحريصا على عدم تكرار فضائح الفساد التي نخرت ولايته الرئاسية الثانية ما بين 2006 إلى 2011 حتى يتفادى الاحتقان الاجتماعي والسياسي الذي قد يؤدي إلى تدخل الجيش. وعلاقة بالزاوية الجيوسياسية، خاصة أن الوضع العالمي يتميز بتغيير سريع في الخريطة العالمية نتيجة الحرب الروسية ضد أوكرانيا وما تفرزه من مواجهة بين قطبي موسكو-بكين ضد الغرب. سيصبح اليسار يحكم في الدول الست الكبرى في أمريكا اللاتينية وهي المكسيك وفنزويلا والأرجنتين وكولومبيا وتشيلي وأخيرا البرازيل. ويحدث هذا لأول مرة، لاسيما بعدما نجح اليسار في دولتين لم يحكمهما من قبل وهي المكسيك ثم كولومبيا. وتضاف إلى الدول الست الكبرى دول متوسطة يسيرها اليسار مثل بوليفيا والبيرو. ولم يسبق لمنطقة أمريكا اللاتينية أن كانت يسارية مثلما هي عليه الآن. وإذا أخذنا بعين الاعتبار عداء اليسار للولايات المتحدة، ستتضح وجهة السياسة العامة في المنطقة.
وإبان ولايته الرئاسية الأولى والثانية (2001-2011)، منحت البرازيل تحت قيادة لولا دا سيلفا مكانة خاصة لأمريكا اللاتينية وسط الخريطة العالمية. فهي الدولة الإقليمية ذات الوزن القادر على قيادة المنطقة أكثر بكثير من المكسيك، التي تعاني من ارتباط اقتصادها بالاقتصاد الأمريكي، وبالتالي تعاني من ضعف حرية المبادرة السياسية إقليميا، على الرغم من مواقف الرئيس الحالي البعيدة نسبيا عن البيت الأبيض، وعدم التزامه بالعقوبات ضد روسيا بسبب الحرب في أوكرانيا.
سيقود لولا دا سيلفا أمريكا اللاتينية نحو التموقع الناضج في الخريطة العالمية، وهذا لا يعني الطلاق مع الولايات المتحدة والانخراط في سياسة محور موسكو-بكين بقدر ما سيعزز من سياسته السابقة الرامية إلى الحد من هيمنة النفوذ الأمريكي في أمريكا اللاتينية، خاصة أن الأجواء مناسبة بحكم وجود يسار في حكومات مختلف دول المنطقة، وذلك عبر إعادة إحياء مؤسسات إقليمية فقدت دورها مع عودة اليمين إلى الحكم في عدد من الدول، وعلى رأسها البرازيل، إبان حقبة بولسونارو. من دون شك، سيحاول الرئيس الجديد تعزيز دور البرازيل في مجموعة دول البريكس، الذي كان من بين مؤسسيها، وحاول بولسونارو التخفيض من دور البرازيل وسطها. وسيسعى دا سيلفا إلى ذلك في وقت بدأت دول مثل الجزائر والسعودية وتركيا تتطلع إلى الانضمام إلى هذا المنتدى الاقتصادي بنفس جيوسياسي واضح للحد من الهيمنة الغربية. وهكذا، يكون فوز دا سيلفا عاملا مسرعا للتغييرات الحاصلة في الخريطة العالمية التي لا تصب بالضرورة في مصلحة الغرب.

كاتب مغربي من أسرة «القدس العربي»

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول S.S.Abdullah:

    أرجو أن يتجاوز خطأه السابق، في طريقة إختياره (ولي العهد)، والتي أدت إلى سجنه، بحكم قضاء، (كيدي) أم لا، الله أعلم،

    هو أول ردة فعل على عنوان (انعكاسات عودة اليسار إلى البرازيل)، نشره الأكاديمي/الملكي المغربي (د حسين مجدوبي) أي ليس جمهوري، ونشرته له جريدة القدس العربي، البريطانية، بالذات، والأهم هو لماذا، وما دليلي على ذلك؟!

    عند خلق أي إقتصاد ناجح، في أي دولة، جمهورية أو ملكية، الذكاء كيف تضمن استمراره، أي هناك أهمية قصوى إلى تكوين (ولي عهد) ناجح،

    كما حصل في (روسيا) مع الثنائي (بوتين-مدفيدف)، أو في (الصين) منذ استلام (تينغ شاو بينغ) بعد (ماو تسي تونغ) وحتى الآن،

    وفي دول مجلس التعاون في الخليج العربي خير أمثلة ونماذج، في كيفية تأسيس صندوق استثمار (سيادي)،

    لضمان استمرارية النمو والازدهار، من الثروات والمصادر الطبيعية، بعد مقاطعة حرب 1973، للإستفادة من مصادر الطاقة (إقتصاد البترودولار)،

    الكثير يلوم دول مجلس التعاون، على موضوع الهالوين، وبقية خزعبلات شياطين المال،

  2. يقول S.S.Abdullah:

    ولكن يا د زياد لنتكلم بصراحة، صاحبك (مصطفى العقاد)، هو أكثر من استثمر في صناعة الهالوين،

    في أمريكا الستينات والسبعينات و و، أليس كذلك؟!

    وهو نفسه من صنع فيلم (الرسالة)، وفيلم (عمر المختار) بعدة لغات، في السبعينات، لإثبات نجاح مهنية الإنسان والأسرة والشركة المنتجة للمنتجات الإنسانية في دولنا، أليس كذلك؟!

    وسبحان الله، قتل في تفجير، مقر اجتماع مع قادة مخابرات الكيان الصهيوني، أثناء إقامته في نفس الفندق، في عمان الأردن،

    فنلومه على ماذا، ونمدحه على ماذا، من عمله/مهنته، وما كوّنه من ثروة مالية، يا د زياد؟!

    قصدي أن (الإنسان) و (الأسرة) و(الشراكة) مع أهل ما بين دجلة والنيل، يجمع المتناقضات الإنسانية، الأسوء والأحسن، في نفس الوقت، أي ليس هناك ملاك أو شياطين (بيننا)، نحن من نخلقهم/نتقمصهم بأيدينا وأموالنا.??
    ??????

إشترك في قائمتنا البريدية