الصورة التي أعيد تداولها في ذكرى التاسع عشر من تموز/يوليو، التي تجمع رئيس الوزراء السوداني السابق عبد الله حمدوك بمجموعة من النساء الشيوعيات من الممثلات لما سموه «أسر شهداء الحركة التصحيحية»، كانت تحمل أكثر من مغزى، فمن ناحية كانت تذكّر بالحضور الطاغي لكل ما ارتبط بالحزب الشيوعي في الفترة الانتقالية، خاصة في نسختها الأولى إبان وزارة حمدوك، ومن ناحية أخرى كانت توضح حجم التناقض في التعامل مع الانقلاب العسكري، كوسيلة للوصول إلى السلطة، أخذاً في الاعتبار أن اللقاء كان، يطالب برد الاعتبار للمشاركين في انقلاب 1971.
الحقيقة هي أن رئيس الوزراء، وعلى الرغم مما كان يظهر عليه من تواضع، لم تكن مقابلته سهلة، ولم يكن جميع السودانيين يحظون بفرصة الجلوس إليه وإيصال أفكارهم وشواغلهم، ربما كان ذلك يعود لبطانته السياسية، التي كانت تحاول عزله عن الجماهير، والتي أثرت كثيراً في تفاعله مع قضايا كبرى وأزمات كانت تستوجب ظهوره ومخاطبته للناس.
كانت هذه المجموعة اليسارية التي نجحت في الإحاطة برئيس الوزراء، مبتكرة مصطلحات إقصائية من قبيل «قوى الثورة» و»حاضنة الحكومة الانتقالية» تسعى لجعل رئاسة الوزراء حكراً على بعض السودانيين الذين تتوافق مع آرائهم، خير مثال لهذا هو المسيرة التي اشترك فيها عدد محدود من اليساريات والنسويات، اللاتي قدمن فيها مذكرة لوزير العدل تحكي عن الظلم الذي يواجه النساء بسبب اعتماد السودان على الشريعة الإسلامية، التي يرون أنها ذكورية، ولا تساوي بين الجنسين. هذه المسيرة تم استقبالها بحفاوة، كما تم التعامل معها باعتبار أنها تمثل صوت نساء السودان. ليس ذلك فقط، بل إنه سرعان ما شكلت لجنة لإعادة صياغة قوانين الأحوال الشخصية للمسلمين، بحيث تكون أكثر إرضاء للمعترضين، تلك اللجنة بدت لعموم المحافظين السودانيين شديدة الاستفزاز، خاصة حين علموا أن تلك المهمة أسندت لشخصية كانت معروفة في وسائل التواصل الاجتماعي بالسخرية من النبي واستخدام الألفاظ النابية. في الوقت ذاته، لم تتمكن مجموعة أخرى من النساء من أن تسلم رئاسة الوزراء، أو وزير العدل ورقة أخرى كانت تحمل وجهة نظر مختلفة تتمحور حول التمسك بالثوابت الإسلامية، ورفض تغيير مفهوم القوامة، أو تحقيق المساواة بين الجنسين على طريقة «الفيمنست». كان الأولى أن يتم استلام هذه الورقة، خاصة أنها كانت تعبر عن قطاع أوسع من النساء، وأن يطرح أمر التشاور في تعديل القوانين للاستفتاء أو للانتخابات المقبلة، لكن ما حدث كان تجاهل وجهة النظر غير المرغوب فيها، واعتبار أن أي صوت معارض، مهما علا أو كان خلفه من أنصار، هو مجرد صوت تابع للنظام الإسلامي البائد. هذا الاقصاء شمل أيضاً ناشطين وثوارأ، تم تجاهل مطالبهم حول قضايا أخرى مهمة كالتحقيق في ملابسات قتلى التظاهرات، أو طلب علاج الجرحى والمصابين، أو تصحيح مسار الحكومة، حيث تمت مواجهة كل ذلك بطرق سلبية تنوعت ما بين رفض الاستقبال والقمع وإغلاق الطرق، بالإضافة إلى ما أظهرته الصورة من ثقل للمجموعات الشيوعية، التي تلونت وأطلقت على نفسها الكثير من المسميات خلال فترة الانتقال، كان المنهج الذي حاولت الحكومة ترسيخه عبر التعامل مع انقلاب هاشم العطا في 1971 كعمل بطولي يتناقض مع روح التغيير القائم، الذي كان من أهدافه أن يضع حداً للسلسلة الطويلة من الانقلابات التي طغت على التاريخ السوداني. كانت تلك القطيعة المرجوة مع التاريخ هي الهدف وراء محاكمة رموز انقلاب البشير، فعلى الرغم من مرور أكثر من ثلاثين عاما، إلا أن حكومة الوقت رأت أنه لا بد من معاقبة تلك المجموعة الانقلابية وترسيخ مفهوم الانقلاب كجريمة.
في السودان، لا يحب أحد تسمية انقلابه انقلاباً، فالشيوعيون الذين كانوا داعمين لوصول جعفر نميري إلى السلطة، كانت هذه المحاولة هي مجرد «تصحيح مسار»
ربما يكون هذا المنطق مقبولاً، لكن المشكلة هي في أنه يتناقض مع الاحتفاء بالمحاولات الانقلابية السابقة، خاصة انقلاب الشيوعيين أعلاه، فذلك الانقلاب لم يكن مجرد محاولة للتغيير، ولكنه ارتبط بإهراق الكثير من الدماء التي لم يكن هنالك مبرر لسفكها، وإذا كان البعض يتعاطف مع الانقلابيين بسبب أنهم واجهوا أحكاماً قاسية استوى فيها العسكريون والمدنيون، فإن من باب أولى، أن تذكرنا تلك الأحداث بضحايا مجزرة بيت الضيافة، من الضباط الذين أخذوا بغدر لمجرد وجودهم في المكان.. أنبأت تلك المجزرة بأن هذا الانقلاب، الذي لم يستمر طويلاً، كان سيدشن لحقبة دموية حقيقية في تاريخ السودان.
في السودان، كما في دول أخرى، لا يحب أحد تسمية انقلابه انقلاباً، فبالنسبة للشيوعيين الذين كانوا على رأس الداعمين لوصول الرئيس جعفر نميري إلى السلطة، كانت هذه المحاولة هي مجرد «تصحيح مسار»، وفيما كان المراقبون يرون أنها تكرّس «لمركسة» الدولة، كانوا هم يتحدثون عن خطوة مفضية لحكم أكثر ديمقراطية. يشبه هذا لحد كبير ما حدث في انقلاب عمر البشير في 1989. الفارق الوحيد كان أن الانقلاب الأول لم يكمل ثلاثة أيام، بينما نجح البشير في إكمال ثلاثين عامًا في السلطة. وجه الشبه هو أنه كان للبشير ومجموعته تبريراتهم للقيام بما قاموا به، حتى أنهم كانوا يطلقون على ذلك لوقت طويل اسم «الثورة»، قبل أن يسموه بالانقلاب الذي كان لا بد منه لإنقاذ البلد وقطع الطريق على محاولات مشابهة لآخرين، كثيراً ما كان يتم الحديث هنا عن تحضير البعثيين لانقلاب موازٍ في التوقيت ذاته. على ذكر البعثيين، فإن من الانقلابات التي سعى ناشطون كثر وقيادات سياسية بارزة لتمجيدها ورد الاعتبار لأصحابها خلال سنوات الانتقال ما يعرف بحركة28 رمضان، التي كانت تحركاً قام به ضباط محسوبون على حزب البعث العربي في بداية حكم البشير، بالنسبة للمتعاطفين، فإن هذه الحركة كانت بطولية وكانت تهدف لاستعادة السلطة من «الإسلاميين» المتجبرين، أما الطرف الآخر فكان يرى أن تلك المجموعة من الضباط واجهت المصير الطبيعي لأي حركة انقلاب فاشلة، كما رأى أن محاولات التبرير بدافع السعي للحصول على الديمقراطية غير مقنعة، أخذا في الاعتبار أن بعثيي السودان كانوا يرون في الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين وطريقته في الحكم مثالاً.
تكتسب كل هذه القصص أهمية مضاعفة اليوم، حيث يتفق جمهور من اليساريين على أن قرارات رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان في الخامس والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول الماضي كانت انقلاباً. لا شك في أن كلمة «انقلاب» تخلق كثيراً من التعاطف الذي يطغى في كثير من الأحيان على التساؤل البديهي: انقلاب على من؟ وما هي السلطة السابقة التي تم الانقلاب عليها، ومدى تمثيلها للشعب للسوداني؟ من جهة أخرى، وعلى افتراض الاتفاق على تسمية ما حدث بالانقلاب، فكيف يطلب سياسيون من الشعب أن يدينه، إذا كان السياسيون ذاتهم يتحدثون عن انقلابات مجيدة في تاريخ السودان؟ حتى إن كانت السلطة المنقلب عليها سلطة شعبية ومنتخبة، وهذا ليس واقعاً، ما الذي يمنع استمرار المنطق الذي يمجد الانقلابات التي تهدف لتصحيح المسار، ألم يسمي الشيوعيون انقلابهم «حركة تصحيحية»؟ التناقض الكبير الآخر هو في دعوة بعض السياسيين الشعب إلى التظاهر ضد الانقلاب بتسيير تظاهرة حتى أبواب قيادة الجيش بهدف الحصول على دعم أحد الجنرالات وتنفيذ انقلاب مضاد، ذلك الانقلاب المشتهى لن يكون محل إدانة، بل محل تمجيد.
كاتب سوداني