انقلاب البرهان والدور الأممي الرخو

نيويورك-(الأمم المتحدة) ـ «القدس العربي»:  قبل شهر فقط من انتهاء الفترة الانتقالية في السودان والانتقال إلى حكم مدني بعد انتصار الحراك الجماهيري الذي أطاح بالرئيس عمر البشير عام 2019 انقلب المكون العسكري بقيادة اللواء عبد الفتاح البرهان على المكون المدني يوم 25 تشرين الأول/أكتوبر 2021 وأعلن بكل صراحة انتهاء «شرعية التراضي» بين الجانبين، وأخذ كافة الصلاحيات والسلطات في يديه ووضع قادة المكون المدني إما في السجن أو تحت الإقامة الجبرية.

كان من المقرر أن يتم تسليم السلطة في وقت ما في تشرين الثاني/نوفمبر 2021 لزعيم مدني جديد يتم اختياره من قبل تحالف من النقابات والأحزاب السياسية والحراكات الشبابية والنسائية وتجمع المهنيين وقادة المجتمع المدني، الذين أطلقوا وقادوا الانتفاضة التي أطاحت بالطاغية البشير بعد 30 سنة من الحكم الأغرب في تاريخ السودان والذي انتهى بانفصال ربع البلاد ومجازر دارفور وإدراج السودان على قوائم الإرهاب وإدانة البشير نفسه بارتكاب جرائم ضد الإنسانية حيث صدرت مذكرتان باعتقاله من محكمة الجنايات الدولية عامي 2009 و 2010.
عكف البرهان نحو 9 ساعات لصياغة بيانه الذي أطلق عليه البيان رقم 1 لتستغرق قراءته في الإذاعة والتلفزيون مدة 8 دقائق فقط. ونحن لا نشك أبدا أن البرهان قضى جزءا كبيرا من الساعات التسع في التشاور والمقايضة على الثمن مع مهندسي الانقلابات العربية وقادة الثورات المضادة في منطقة الخليج وخارجها لضمان حد أدنى من التأييد والتمويل والحماية.
كان رد الشارع السوداني استئناف المظاهرات الجماهيرية الحاشدة والمسيرات المتواصلة منذ الانقلاب ولغاية هذا الأسبوع، ودائما يكون رد العسكر بالطريقة التي يتقنونها دائما وهي الحديد والنار، حيث بلغ عدد الضحايا منذ الانقلاب ولغاية هذا الأسبوع أكثر من 119 شخصا كان آخرهم قد قتل دهسا بعربة عسكرية في المظاهرات الحاشدة في الذكرى الأولى للانقلاب يوم 25 تشرين الأول/أكتوبر الحالي.

الموقف الأممي

تراخى الموقف الأممي من إدانة الانقلاب وتسميته بانقلاب في البداية، حيث ركّز تحرك الأمم المتحدة عبر مبعوثها الخاص، فولكر بيرتس، باتجاه تأمين الحماية للمكون المدني في المجلس الانتقالي وخاصة رئيس الوزراء الانتقالي عبد الله حمدوك. لقد فشلت محاولة البرهان احتواء الرفض الشعبي والأفريقي والدولي للانقلاب عبر إعادة عبد الله حمدوك لمنصب رئيس الوزراء يوم 22 تشرين الثاني/نوفمبر الذي اكتشف بسرعة أن البرهان يريد أن يستخدمه لتخفيف الضغطين الداخلي والخارجي فانسحب من المشهد بسرعة مساء الأحد 2 كانون الثاني/يناير 2022 قائلا إنه حاول تجنيب البلاد «خطر الانزلاق نحو كارثة» مشيرا إلى أن البلاد تمر الآن في منعطف خطير يهدد بقاءها.
بعد مرور ثلاثة أشهر على الانقلاب أطلق بيرتس، بالتشاور مع الشركاء السودانيين والدوليين، مبادرة للبدء بمشاورات حول عملية سياسية بين الأطراف السودانية تتولى الأمم المتحدة تيسيرها، بشكل رسمي.
كما أنشأت الأمم المتحدة بالتعاون مع الاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية «الإيغاد» المكونة من دول القرن الأفريقي، ما سمي بـ«الآلية الثلاثية» للتواصل مع الأطراف السودانية للوصول إلى بر الأمان وإنهاء الانقلاب والانتقال للسلطة المدنية من دون تحقيق أي تقدم حقيقي على الأرض. كل ذلك عمل لصالح البرهان الذي ما زال يتصرف بطريقة لا تدل على اكتراثه بالموقف الدولي أو الانتقال السلمي لحكومة مدنية مستندا إلى دعم العسكر داخليا وممولي الانقلاب خارجيا بمن فيهم الكيان الصهيوني الذي فتح جسرا جويا مع البرهان وأتباعه.

مظاهرات محلية وعزلة دولية

قبل أيام من الذكرى الأولى للانقلاب، استمع مجلس الأمن الدولي في جلسة مفتوحة لتقييم الأوضاع في السودان لإحاطة قدمها الممثل الخاص للأمين العام ورئيس بعثة الأمم المتحدة المتكاملة للمساعدة الانتقالية في السودان «يونيتامس» بيرتس. وقال في مداخلته إن الوضع في السودان يزداد تدهورا في ظل غياب حل سياسي لاستعادة حكومة مدنية، ذات مصداقية، يمكنها من إعادة تأسيس سلطة الدولة في جميع أنحاء البلاد، وتهيئة الظروف لاستئناف الدعم المالي الدولي، بما في ذلك تخفيف عبء الديون. وحذر في إحاطته من أن مثل هذا الحل الذي يضمن الانتقال إلى سلطة مدنية غير مضمون «لكن لا تزال هناك فرصة للتوصل إلى اتفاق سياسي جديد من شأنه أن يفتتح فترة انتقالية جديدة ويضع البلاد على مسار انتقالي أكثر استدامة نحو حكم ديمقراطي بقيادة مدنية».
وقال بيرتس إن انسحاب الجيش من الحياة السياسية والمبادرات الأخيرة التي طرحتها القوى المدنية يوفران فرصة للقوى العسكرية والسياسية للتوصل إلى اتفاق حول كيفية المضي قدما. وشدد على أهمية الوقت، محذرا من أنه «كلما طالت فترة الشلل السياسي، زادت صعوبة العودة إلى الانتقال السياسي». كما حث جميع الجهات الفاعلة على اغتنام هذه الفرصة والتوصل إلى اتفاق ذي مصداقية بشأن حل يتمتع بالشرعية في نظر النساء والرجال السودانيين، مؤكدا موقف الأمم المتحدة والآلية الثلاثية الثابت في دعم جهود الانتقال السياسي. وأكد أن الجهود الرامية لتحقيق أهداف ثورة كانون الأول/ديسمبر2018 خاصة بين الشباب والنساء والنقابات والجمعيات المهنية ما زالت متواصلة وأن الآلية الثلاثية ستظل منخرطة في دراسة جميع المبادرات التي تدعو في جوهرها إلى الحاجة إلى رئيس دولة مدني ومجلس وزراء لا يتألف من قادة حزبيين، ولكن من خبراء أو تكنوقراط، بالإضافة إلى مجموعة محدودة من المهام لحكومة انتقالية جديدة. وقال بيرتس إن الفرصة سانحة لإنهاء هذه الأزمة السياسية، داعيا القوى العسكرية والمدنية إلى اغتنامها بشكل عاجل.
من جهة أخرى دعت 13 دولة والاتحاد الأوروبي والآلية الثلاثية، الإثنين الماضي بمناسبة الذكرى السنوية الأولى للانقلاب، إلى تشكيل حكومة انتقالية بقيادة مدنية في السودان، وإلغاء كافة الإجراءات الاستثنائية التي فرضها قائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان.
لجان المقاومة والقوى السياسية السودانية وجهت نداء للشعب السوداني دعت فيه إلى الاستمرار في الخروج في «مليونيات» للمطالبة بالحكم المدني الكامل وإبعاد العسكر عن السلطة. إلا أن رد البرهان كان عبارة عن مزيد من الإجراءات السلطوية ومنها حل مجلسي الوزراء والسيادة الانتقاليين وإقالة عدد من محافظي الولايات واعتقال مسؤولين وسياسيين وإعلان حالة الطوارئ، وهو ما اعتبره الرافضون للانقلاب «انقلابا عسكريا ثانيا».
وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلنكين، في الذكرى الأولى للانقلاب دعا إلى إنهاء الانقلاب قائلا: «تقريبا، قبل سنة من اليوم، انقلب الجيش السوداني على حكومة بقيادة مدنية قوض التطلعات الديمقراطية لشعبه. لقد آن الأوان لإنهاء الحكم العسكري».
المندوب الدائم لجمهورية السودان لدى الأمم المتحدة السفير، الحارث إدريس، وجه في جلسة مجلس الأمن المذكورة انتقادات حادة لبعثة الأمم المتحدة «يونيتامس» قائلا إن البعثة حصرت كل جهودها في تنفيذ الانتقال السياسي وأهملت تماما الأهداف الإستراتيجية الأخرى والتي تدخل ضمن ولايتها: «أين دور «يونيتامس» في إعداد الخطط على الأقل لدعم تنفيذ اتفاق سلام جوبا والبروتوكولات الملحقة به خاصة بروتوكولات الترتيبات الأمنية… قضايا النازحين واللاجئين، الأراضي والحواكير، تطوير قطاع الرحل والرعاة. فضلا عن ذلك، لم تقم البعثة بأي شيء في توفير دعم لوجستي ومادي لتنفيذ الخطة الوطنية لحماية المدنيين، كذلك لا نرى أًي تقدم في تعبئة الموارد الاقتصادية والتنموية وتنسيق المساعدات الإنسانية».
دور الأمم المتحدة في السودان لم يعد أحد راضيا عنه، حكومة الانقلاب تريده غطاء لممارساتها والدول الغربية تريده قوة تجبر قادة الانقلاب على تسليم السلطة لحكومة مدنية، والشعب السوداني لا يريدها شاهد زور على دور العسكر الذي ما فتئ يجندل المتظاهرين ويحول البلاد إلى دولة فاشلة. كل هذه المعارضة الداخلية والعزلة الخارجية لم تفلح في الإطاحة بالانقلاب وقادته، ما يدفعنا للسؤال من الذي له مصلحة في دعم مثل هذا النوع من القيادات وضمان بقائها وهي لا تجر على بلادها إلا الويلات كما فعل البشير في السودان لمدة ثلاثين سنة؟

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية