نفذ الجيش السوداني انقلابه بعد أسابيع من التوتر بينه والقادة المدنيين، وكان الإنقلاب هو بمثابة عمل معلن، فالنص معروف لدى العسكر والقادة الراغبين بالاستيلاء على السلطة في دول العالم العربي وأفريقيا، تعبئة الناس ضد الحكومة المدنية، حزب أو جماعة أو قائد سياسي والتلويح بورقة المنقذ للخروج من المأزق السياسي وحل مشاكل البلد وإنزال الأنصار للشوارع والترويج لعودة العسكر وحكم الرجل القوي.
وهذه توليفة لم يفهمها المدنيون في مصر وتونس والسودان أخيرا، فهي متقاربة في طرقها وأساليبها، وفي السودان يواجه العسكر اليوم شارعا غاضبا يريد استعادة الحكم المدني، وشجبا دوليا أوسع من التحرك التونسي الأخير أو المصري 2013 لكن الكلمة السحرية في الشجب الدولي وهي تسمية الأشياء باسمها ليست موجودة أبدا، فقد امتنعت إدارة باراك أوباما عن تسمية حركة عبد الفتاح السيسي ضد الرئيس محمد مرسي بالإنقلاب، وقامت بتعليق مساعدات أمريكية للبلاد وهو ما حدث في السودان اليوم حيث شجبت إدارة بايدن التحرك العسكري من دون تسميته وعلقت 700 مليون دولار من الدعم المباشر للعملية الانتقالية، في وقت عبرت فيه عن الدهشة من الإنقلاب بعدما تلقى المبعوث الأمريكي للقرن الأفريقي تأكيدات من العسكريين انهم لن يتحركوا كما أبرزت مجلة «فورين بوليسي» (26/10/2021) وصحيفة «نيويورك تايمز» (29/10/2021) حيث أكدت أن فيلتمان تلقى تأكيدات بعدم التحرك ضد المؤسسة المدنية، ولم يكد المبعوث الأمريكي يغادر السودان إلا وتحرك الجنرال عبد الفتاح البرهان واعتقل عبد الله حمدوك، رئيس الوزراء وعددا من رموز الحكومة وأعلن عن حالة الطوارئ. وبرر أن تدخله كان لمنع الحرب الأهلية ولام السياسيين على الإنسداد الذي تعاني منه البلاد. والكل يعرف أن السبب الرئيسي وراء تحرك الجيش كان اقتراب موعد تسليم السلطة في 17 تشرين الثاني/نوفمبر المقبل للمدنيين، وهو ما اتفقت عليه الأطراف السياسية والعسكرية ونص عليه الإعلان الدستوري، كمقدمة لعقد انتخابات مدنية. وكان على المدنيين معرفة واكتشاف خلال عامين من الحكم أن العسكر لن يتخلوا عن مميزاتهم، فالمؤسسة العسكرية السودانية تقوت في عهد البشير وأصبحت لديها مصالح تجارية خلال فترة النفط واليوم تسيطر على تجارة الذهب في البلاد الذي تصدره إلى دبي ولديها شركات تجارية في الإنشاءات والمواشي والأدوية والتصدير والإستيراد، بل وآلت إليها معظم الشركات التي كانت تملكها عائلة عمر البشير. ولم تكن الثورة الشعبية التي اندلعت في أواخر 2018 بمدينة عطبرة احتجاجا على ارتفاع أسعار الخبز كافية لأن تطيح بالرئيس البشير لو لم يتحرك الجيش ضده، وحتى الاعتصام الذي قام به المدنيون أمام مقرات الجيش انتهى بمجزرة على النيل لا تزال عائلات الضحايا تنتظر تحقيق العدالة فيها. يمكن للشارع في أمثلة أن يجبر العسكر على التخلي عن السلطة كما حدث في بوركينا فاسو عام 2014 لكن عسكر السودان يعتبرون التخلي عن السلطة مسألة حياة أو موت، فهناك ملفات يخشاها الجنرالات بمن فيهم البرهان ومحمد حمدان (حميدتي) دقلو تتعلق بمجازر دارفور وقتل المتظاهرين أثناء انتفاضة 2019. ويعرف السودانيون دورة الحكم في بلادهم منذ الاستقلال عام 1956 حيث عاشوا ثلاث فترات ديمقراطية قصيرة قبل أن ينقض العسكر على الحكم في عام 1964 و1987 و2021 وبعد عامين من التخلص من حكم البشير الذي حكم طويلا ولثلاثة عقود. وهما في النهاية ليسا مع الديمقراطية لأنها تهدد مصالحهما كما تقول مجلة «إيكونوميست» (25/10/2021).
حلفاء الجنرالات
وشهدت الأسابيع التي قادت إلى انقلاب السودان يوم الإثنين 25 تشرين الأول/اكتوبر توترات بين القيادتين العسكرية والمدنية اللتان كانتا تتنازعان للسيطرة على البلاد مع اقتراب موعد تسليم العسكر السلطة للمدنيين. والمزاج الذي ساد بعد الإطاحة بنظام عمر البشير الذي حكم البلاد 30 عاما تحول إلى احتجاجات متفرقة ومحاولة انقلابية فاشلة الشهر الماضي واتهامات متبادلة بخيانة مبادئ الثورة التي أنهت حكم البشير عام 2019. وأكد المدنيون على ضرورة خروج العسكر من السلطة بحلول 17 تشرين الثاني/نوفمبر وهو الموعد الذي سينهي الفترة الانتقالية التي مضى عليها أكثر من عامين. وكانت هذه هي المرة الأولى التي سيتولى فيها المدنيون الحكم منذ 3 عقود أو يزيد. ومع اقتراب موعد نقل السلطة، طالب القادة المدنيون بمن فيهم عبد الله حمدوك بتحقيق بدور الجيش في المجازر والفساد في ظل حكم البشير. وبدون مقعد في الحكم فقد خشي الجيش أنه سيواجه تحقيقات لا يستطيع السيطرة عليها. وفي الشهر الماضي اتهمت قبائل حمدوك بأنه فشل في تقديم ما وعد وأرسلت أبناءها إلى ميناء بورتسودوان، الشريان الرئيسي للبلاد وأغلقت حركة النقل فيه. وهو ما زاد من سوء الأوضاع الاقتصادية. وأشارت صحيفة «واشنطن بوست» (27/10/2021) إلى أن ظل دول الخليج يحوم حول انقلابي تونس والسودان مشيرة إلى أن الثلاثي السعودي- الإماراتي- المصري رحب باستيلاء قيس سعيد على السلطة في تونس. وفي الوقت الذي تكافح فيه حكومة سعيد الانتقالية للحصول على قرض من صندوق النقد الدولي، أشارت تقارير إلى أن سعيد يجري اتصالات مع الإماراتيين والسعوديين للحصول على دعم مالي. ولعبت دول الخليج في 2013 دورا مهما في دعم الانقلاب الذي قاده عبد الفتاح السيسي ضد الرئيس محمد مرسي، من جماعة الإخوان المسلمين. وربما حاولت هذه مساعدة البرهان في السودان الذي تحول مثل تونس إلى ساحة «للعبة الأمم» بالمنطقة. ويقترح الباحثون مثل جان بابتسيت غالوبين أن السخاء الخليجي يدعم البرهان منذ سقوط البشير فقد «ساعد الدعم المالي من السعودية والإمارات على منح الجنرالات مساحة لكي يقاوموا المطالب الشعبية نحو الحكم المدني وبناء وضع غير متوازن للقوة منح الجنرالات الفرصة لعبور مرحلة من الحشود الشعبية». وأضاف أن «المال الإماراتي السري منح في فترة لاحقة الجنرالات ورقة نفوذ قوية على المجال السياسي وسمح لهم بتوطيد سلطتهم». ويرى الخبراء أن إعادة المنظور الديمقراطي للسودان يقتضي ضغطا على هذه القوى العربية وليس الجنرالات فقط. وفي مذكرة لمجموعة الأزمات الدولية حدثتها بعد الإنقلاب جاء فيها إن «على مصر ودول الخليج وهي قوى خارجية التي أقامت علاقات قوية مع البرهان والجيش حث السلطات على ممارسة ضبط النفس بدلا من استخدام القوة التعسفية» و «يجب على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي استخدام ما لديها من نفوذ على العواصم الخليجية والقاهرة وإقناعها لدفع الجنرالات تغيير مسارهم».
توجهات مثيرة للقلق
ويعطي تحرك العسكر في السودان صورة مثيرة للقلق عن توجه السياسة في أفريقيا. ويعتبر عام 2021 هو أنجح عام للانقلابات في العالم ومنذ خمسة أعوام. فقد قادت الطغمة العسكرية الحاكمة في ميانمار الطريق وعطلت العملية الديمقراطية في شباط/فبراير وتواصل احتجاز زعيمة الحركة الديمقراطية هناك. وفي غرب أفريقيا قام قادة الجيش في مالي (هو الثاني في عام تقريبا) وغينيا وتشاد بانقلابات، بالإضافة إلى تونس والسودان. وسجلت محاولتي انقلاب فاشلتين في كل من مدغشقر وجمهورية أفريقيا الوسطى.
وهي حركات تذكر في الزمن الماضي عندما كانت القارة الأفريقية تشهد أربع انقلابات في العام الواحد. وهو ما دعا مجلة «إيكونوميست» (30/10/2021) للقول إن الانقلابات في أفريقيا أصبحت واقعا لا مناص منه في السياسة الأفريقية. ورأت في افتتاحيتها أن صعود الجهادية والتنافس بين القوى العظمى يدفع باتجاه تغيير الأنطمة بالقوة في دول أفريقيا. ومنحت سيطرة الجيش على السلطة صورة عن توجه مثير للقلق. وقالت إن الجيش السوداني هو الذي حسم مسألة الحكم عندما تحرك في نيسان/إبريل 2019 ضد البشير وتحرك مرة ثانية يوم الإثنين. وربما كانوا قلقين مما سيحمله لهم المستقبل بعد خروجهم من السلطة والتحقيق بدورهم في الحرب الأهلية بالسودان. وعلى أي حال فالسودان يعاني من ورطة خرج الجيش أم بقي في السلطة. ولم يكن محكوما على تقاسم السلطة، رغم «قذارته» بالفشل، فقد أعطى القيادة المدنية عامين لبناء الثقة مع الجيش، من خلال العفو العام عن الجميع باستثناء من ارتكبوا جرائم خطيرة مقابل الكشف عنها، وهو مدخل نجح في جنوب أفريقيا بعد نهاية التمييز العنصري، وتم تضييع الفرصة. وترى أن مشكلة الجهادية تمثل تحديا لسياسة الاتحاد الأفريقي «لا انقلابات» التي صادق عليها عام 2000 فعدم الاعتراف بالإنقلابيين أو التعاون معهم يقود أحيانا إلى سيطرة الجهاديين كما حدث في مالي. وهناك مشكلة التكالب الدولي على القارة، فقد حصلت الصين على أصدقاء كثر من خلال «سياسة عدم التدخل». وتعزز روسيا من نفوذها عبر استئجار المرتزقة لحراسة الرؤساء وتدريب الجيوش. بل ونقلت صحيفة «نيويورك تايمز» عن مسؤول قوله إن موسكو شجعت الإنقلاب في السودان من أجل قاعدة عسكرية على البحر الأحمر والحصول على عقود تجارية.
وتعرف القوى الغربية أنها لو شجبت انقلابا أو انتخابات مزيفة أو هددت بعقوبات، فهي خاسرة للصين وروسيا اللتان يهرع سفراؤهما إلى القصور الرئاسية عارضين على ساكنيها الخدمات من الدعم والقروض.
تحد لأمريكا
وتعامل الكثير من المعلقين مع انقلاب السودان على أنه تحد للولايات المتحدة، ورأت معلقتان بمقال في صحيفة «نيويورك تايمز» (29/10/2021) أن العصيان المدني لا يكفي للإطاحة بالعسكر، فبدون عقوبات تطال العسكريين الذين قادوا الانقلاب لن ينجح العصيان المدني. وأشارتا إلى الدعم القليل للانقلاب الحالي، مما يجعل وضع السودان أفضل من حالة مصر التي لم يحتج فيها الشارع على الانقلاب باستثناء أنصار الإخوان المسلمين. فالدعم الحالي لانقلاب السودان نابع من أحزاب صغيرة وجماعة سابقة في «قوى الحرية والتغيير». وبالمقابل فقد شجبت معظم القوى الثورية الإنقلاب بما فيها قيادات نقابة المهنيين السودانيين، والأهم من كل هذا هي استجابة المواطنين السودانيين للاحتجاج ومنذ اليوم الأول للإنقلاب واستمروا في التظاهرات والإضرابات والعصيان المدني. وهذا جيد لكنه ليس كافيا، فالتهديد بإجراءات عقابية من الخارج مهمة وضرورية لدعم المتظاهرين. وفي غياب الرد الدولي القوي، تشعر الثورات المضادة بالجرأة للمضي في طريقها. فالرد الأمريكي على انقلاب مصر عام 2013 كان فاترا في أحسن حالاته، وهناك أدلة عن تشجيع مسؤولين أمريكيين بارزين السيسي للتحرك. وحتى الآن تبدو الإشارات في الحالة السودانية مشجعة أكثر، فقد شجبت معظم الدول الأجنبية الإنقلاب وعبر مجلس الأمن الدولي الذي يضم الصين وروسيا عن القلق العميق. وقررت الولايات المتحدة تعليق مساعدة بـ 700 مليون دولار وهو أمر هدد الاتحاد الأوروبي بعمل أمر مثله. وربما كانت البيانات التي صدرت عن دول الخليج مثل الإمارات والسعودية ضعيفة. وعلى الولايات المتحدة بذل كل ما بوسعها لتجنب الأخطاء التي ارتكبتها في مصر وتقود الطريق لإفشال انقلاب السودان. ويمكن للاحتحاج والضغوط الجيوسياسية التعاون ووقف هذا الإنقلاب.
المدنيون يلامون أيضا
وفي ظل عملية اتهام الجيش بالاستيلاء على السلطة فالمدنيون كان لديهم الوقت الكافي للعمل مع العسكريين وتخفيف مخاوفهم كما ورد في صحيفة «نيويورك تايمز» (29/10/2021). ونقلت الصحيفة عن سفير السودان في واشنطن الذي أعفي من منصبه لكنه مصر على مواصلة عمله، أن حمدوك لم تكن لديه المهارات السياسية الكافية لتخفيف مخاوف العسكريين، في ملفات مهمة مثل محاكمة البشير وتسليمه للجنائية الدولية في هيغ، فالبرهان وحميدتي وإن لم تصدر ضدهما مذكرات إلا أنهما يريدان نوعا من الحصانة. ومجرد تلويح المدنيين بالتحقيق وفتح ملفات الفساد ودفعهم بقوة وبسرعة لتسلم السلطة فقد أثاروا مخاوف العسكر. فهؤلاء لم يرضوا بتقاسم السلطة للتخلي عن مميزاتهم المالية والشخصية بل من أجل حمايتها. وفي النهاية يظل تحرك البرهان وزمرته مقامرة ستمتحن في الشارع على المستوى الإقليمي والدولي.