من بين الحجج التي ساقها قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان، لتبرير الانقلاب العسكري والإطاحة بالمدنيين، مرور البلاد بأزمة سياسية، انسدّت جميع الآفاق لحلها. والأزمة، وفق المعنى الذي أراده البرهان، تستلزم تدخلا من خارج شروط السياسة، وبالتالي تنفيذ انقلاب واعتقال أعضاء المكون المدني، وتولي العسكر زمام السلطة. قبل ذلك، استخدم الشعبوي التونسي قيس سعيد، الذريعة ذاتها، لتبرير إجراءاته (المدعومة من الجيش) المتمثلة بتعليق الدستور والبرلمان وتشكيل حكومة مشكوك في شرعيتها. فوجه نقدا حادا للسياسيين الذين يتلهون بـ«التفاهات» والصراع على السلطة، في الوقت تعاني البلاد فيه من أزمات جمة، تبدأ بالاقتصاد ولا تنتهي بكورونا.
العسكري (البرهان) والشعبوي (سعيّد) يحتقران السياسة، الأول يجهل كيفية ممارستها، ويعتبرها إهانة له، فهو يستمد «شرعيته» من سلاحه وفائض القوة الذي يوفره له، ويجد في التسويات والاتفاقيات والتحالفات، ضعفاً وتنازلاً. فيما الثاني يتوهم، امتلاكه مشروعا خلاصياً، لا بد من أن ينوب عن الشعب في تحقيقه، والسياسة ليست سوى عرقلة لهذا المشروع، وتعطيل له. وفي الحالتين، النتيجة واحدة، إزاحة السياسة، وتقدم العسكرة والشعبوية، وربما الاثنان معاً.
والسياسة قبل «الربيع العربي» رغم وجود استثناءات، كانت بشكل عام حكراً على الأنظمة، تمارسها بوصفها فعلا يتعلق بالخارج، الداخل شبه ميت ومشلول، هو أقرب، حسب وصف معارض سوري، إلى «استقرار الموتى».
أخطاء القوى السياسية وأدواتها الكلاسيكية وعدم فهمها لتركيبة المجتمعات، ساعد «الثورات المضادة» بشقيها العسكري والشعبوي، على استرداد السلطة
معظم الأخبار كانت حول الرؤساء ومواقفهم من القضايا التي لا تخص بلادهم، وإنما الملفات الخارجية. مع اندلاع «الربيع العربي» ظهر تحليلٌ تكرر كثيرا، مؤداه أن المتظاهرين في البلدان العربية، استعادوا السياسة التي منعت عنهم لعقود، بفعل الاستبداد والقمع، وباتوا يمتلكون الفضاء العام، الذي طالما كان مقفلا. والتحليل هذا، سرعان ما حولته التجارب إلى واقع، فصرنا حيال مشهد سياسي ثري، صراعات حزبية وانتخابات وتحالفات، وقوى متنوعة، إسلاميين وعلمانيين وقوميين وشيوعيين ومجتمع مدني وناشطين. مصر وتونس، تصدرتا تشكيل هذا المشهد، وفيما لم يكتمل في سوريا وليبيا، نتيجة الحروب الأهلية، التي صيّرت السياسة أداة لإنهاء الحروب نفسها، عاد وتكرر في السودان، ونسبيا في الجزائر، مع الموجة الثانية للثورات. لكن، السياسة التي أفضت إلى اتفاقيات على مراحل انتقالية، تكون الجيوش ضمنها، وتسفر عن انتخابات، وتشكيل جديد للسلطة، سريعا ما انتزعت من الناس مجددا. أخطاء القوى السياسية وأدواتها الكلاسيكية وعدم فهمها لتركيبة المجتمعات، ساعد «الثورات المضادة» بشقيها العسكري والشعبوي، على استرداد السلطة، لاسيما في مصر، ولاحقا في تونس وقبل أيام في السودان. تخللت ذلك، موجة جديدة من الثورات، في العراق ولبنان، ليس لاستعادة السياسة، وإنما لتحريرها من أسر المحاصصة التي تفرغ السياسة من وظائفها وتحيلها إلى أداة لتدوير القوى ذاتها. في كلا البلدين، الميليشيا نابت عن الجيش في إفشال هذه الموجة، فتولت ميليشيات حزب الله و»الحشد الشعبي» تأمين نجاح «الثورة المضادة» عبر القمع والاغتيالات وترهيب المتظاهرين.
ما يعني أن عسكر السودان يستكملون، بما فعلوه، قتل السياسة في العالم العربي بعد الثورات التي اجتاحته، وشكلت محاولة لاستعادة الناس إدارة شؤونهم، مع الأخذ بعين الاعتبار، طبيعة القوى والأحزاب، وفهمها الناقص للسياسة، كمفهوم وممارسة. وهذا، أي قتل السياسة، قد يرتب نتائج خطيرة، إذا إن انتقادات عنيفة وجهت للإسلاميين من جمهورهم، لأنهم لم يعتمدوا تجربة «طالبان» وانحازوا إلى السياسة في مصر وتونس والمغرب، وشاركوا في الانتخابات، كذلك يتعرض مدنيو السودان لحملة عنيفة كونهم ارتضوا بـ»نصف ثورة» ودخلوا بتسوية مع العسكر. قتل السياسة من قبل «الثورات المضادة» سيولد بطبيعة الحال يأسا منها لدى الثورات ومناصريها، لترتفع حظوظ العنف، كحل للتخلص من الاستبداد.
حتى لو بدا، الآن، أن أنظمة الاستبداد، تعود تدريجياً، لتحكم القبضة على المجتمعات، إلا أن أداتها لذلك، أي قتل السياسة، قد يكون، مولّدا لانهيار شامل، في أي ثورة مقبلة، حيث أن اليأس من السياسة في الثورات السابقة، لن يعني سوى العنف في أي ثورات مقبلة.
كاتب سوري