في معركة خاطفة استمرت أقل من 24 ساعة نفذتها قوات الجيش الأذربيجاني على ما تبقى من إقليم كاراباخ (حسب تسمية الأمم المتحدة، وقره باغ حسب الإسم التركي) يوم 19 سبتمبر الماضي بعد مقتل مدنيين وأربعة من أفراد الشرطة الأذربيجانية نتيجة لغم أرضي زرعته القوات الأرمينية. استسلمت القوات بسرعة خاطفة ليعلن الرئيس إلهام علييف تحرير الجزء المتبقي من إقليم كاراباخ (حذفت كلمة ناغورنو بعد تحرير الجزء الأكبر من الإقليم في نوفمبر 2020. وقد تمنى مرافقنا أثناء زيارة للإقليم في نهاية أغسطس 2022 بعدم استعمال كلمة نوغورنو).
طلب الرئيس الأذربيجاني من السكان الأرمينيين، الذين يقدرون بمئة وعشرين ألفا أن يبقوا في بيوتهم وديارهم ولن يمسهم سوء، فأذربيجان بلد متعدد الأعراق والملل وهي دولة علمانية، لا تتدخل في دين الفرد أو أصوله العرقية، إلا أن الغالبية الأرمينية من سكان الإقليم قرروا العودة إلى بلدهم الأصلي لأنهم في عميق قلوبهم يعرفون أن هذه الأرض ليست لهم، وأنهم احتلوها بالقوة المسلحة في حرب 1991-1993 ويعرفون أنهم لا بد يوما راحلون، فدولة الظلم وإن طال أمدها لا بد أن تنهار يوما. ولعل هذا يكون درسا للكيان الظالم القاهر المستعمر الذي زرع عنوة في قلب العالم العربي واستمد قوته من الاستعمار أولا، ومن الأنظمة العربية المرتبطة بالمنظومة الغربية ثانيا، ومن تحولات المشروع الوطني الفلسطيني من حركة تحرير إلى البحث عن دولة الوهم عبر المفاوضات ثالثا.
اعتقل الجيش الأذربيجاني القائد السابق للقوات الأرمينية الانفصالية في الإقليم، ليفون مناتساكانيان، الذي قاد جيش جمهورية آرتساخ المعلنة من جانب واحد، وفر ما يقرب من 90 ألف أرميني من الجيب الانفصالي، وفقا للأمم المتحدة، منذ أن استعادت أذربيجان المنطقة الجبلية قرب مدينة شوشة الجميلة، العاصمة الثقافية لأذربيجان، في عملية عسكرية خاطفة لم تستغرق أكثر من 24 ساعة. بعد حسم المعركة واستسلام القوة الأرمينية عقد مجلس الأمن جلسة مفتوحة بطلب من أرمينيا عن طريق فرنسا يوم 21 سبتمبر، لبحث النزاع الأخير. وراحت الدول المنافقة، وهي الأكثرية، تدعو لضبط النفس والحوار وعدم اللجوء للسلاح، وكأن 30 سنة من الاحتلال لا تكفي، أو أن طول الاحتلال سيشرعنه أو يغيبه أو يخلق حقائق جديدة على الأرض، تجعل من انتهاء الاحتلال أمرا صعبا، أو مستحيلا كما حدث في مناطق أخرى.
ليس الغريب أن تنهار جمهورية آرتساخ بسرعة، المهم أن أرمينيا لم تجد أحدا يقف معها، لا روسيا ولا فرنسا ولا أمريكا ولا إيران وتجرعت ذل الهزيمة وانصرفت إلى شأنها
في كلمته أمام المجلس قال وزير خارجية أرمينيا أرارات ميرزويان، «إن هناك هجوما واسعا شنته أذربيجان ضد شعب ناغورنو كاراباخ في انتهاك صارخ للقانون الدولي، والبيان الثلاثي الصادر في 9 نوفمبر 2020 برعاية روسية». وطالب الوزير مجلس الأمن بنشر فوري لبعثة مشتركة بين وكالات الأمم المتحدة في الإقليم لرصد وتقييم أوضاع حقوق الإنسان والحالات الإنسانية والأمنية، فضلاً عن احتمال نشر قوة حفظ سلام بتفويض من الأمم المتحدة، لكن دعوته هذه لم تلق آذانا صاغية من أحد كعادة المهزوم. لكن وزير خارجية أذربيجان جيحون بيراموف، عرض أمام المجلس صورا لمعدات عسكرية أرمينية ثقيلة، وأكد أن هذه المعدات ليست في أراضي أذربيجان للأغراض السلمية. وأكد أن التدابير المتخذة لمكافحة الإرهاب كانت محدودة ومتناسبة مع التهديد الذي يشكله الإقليم، «وكانت تهدف حصريا إلى تحييد الأهداف العسكرية المشروعة داخل الأراضي الخاضعة لسيادة أذربيجان، وبالتالي، تتماشى مع حقها في الدفاع عن النفس، المنصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة». الغريب أن كلمة وزيرة الخارجية الفرنسية كاثرين كولونا، وكانت أول المتحدثين بعد الوزيرين المعنيين بالنزاع، تضمنت شروطا قاسية موجهة لأذربيجان، تتضمن عدم استخدام القوة وقبول وقف إطلاق النار والجلوس مع ممثلي كاراباخ للمفاوضات، وكأنها لا تعرف ماذا حدث في الإقليم. وهذا مثال آخر على أفول هيبة فرنسا وتراجع دورها. ليس الغريب أن تنهار جمهورية آرتساخ بهذه السرعة، بل الأمر المهم أن أرمينيا لم تجد أحدا يقف معها، لا روسيا ولا فرنسا ولا أمريكا ولا إيران. بل تجرعت ذل الهزيمة وانصرفت إلى شأنها كأن ثلاثين سنة من الاحتلال والمكابرة والتهديد وإعلان دولة مستقلة عام 2015 في كاراباخ تحت اسم جمهورية أرتساخ كانت أقرب إلى فيلم خيالي، انتبه المشاهدون فقط إلى كلمة «النهاية».
لقد أثبتت العمليات العسكرية التي قامت بها قوات أذربيجان عامي 2020 و2023 أن تجميد الصراع لا يعني نهايته. فقد انبثق عن منظمة الأمن والتعاون في أوروبا مجموعة مصغرة تسمى «لجنة منسك» نسبة إلى عاصمة بيلاروس، والمكونة من روسيا والولايات المتحدة وفرنسا (على طريقة اللجنة الرباعية المعنية بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني) لحل النزاع الأرميني الأذربيجاني بالطرق السلمية. وقد رأت أذربيجان من البداية أن اللجنة منحازة لصالح أرمينيا، وأنها لن تحل النزاع بما يعيد الحقوق ويخرج الاحتلال الأرميني من المناطق المحتلة. كانت أذربيجان في سنوات الاحتلال لا تتكلم إلا عن السلام ودور المجتمع الدولي وقرارات مجلس الأمن في إنهاء الاحتلال وفي الوقت نفسه تعد جيشها وشعبها واقتصادها لمعركة حاسمة لا بد مقبلة. ثلاثون سنة من الاحتلال وأربعة قرارات من مجلس الأمن الدولي عام 1993 (822 و853 و874 و884) كلها تدعو إلى وقف الإعمال العدائية وتطالب أرمينيا بالانسحاب الفوري، من دون قيد أو شرط من جميع الأراضي التي احتلتها في الصراع، واحترام سيادة وسلامة أراضي أذربيجان وإعادة المهجرين إلى ديارهم. لكن أرمينيا لم تعط تلك القرارات أي وزن مستندة إلى الدعم الروسي آنذاك وضعف الخصم وانشغال المجتمع الدولي بصراعات عديدة تفجرت بعد تفكك الاتحاد السوفييتي.
خلفيات النزاع بين أرمينيا وأذربيجان
كانت أرمينيا وأذربيجان إقليمين تحت سيادة الاتحاد السوفييتي، في عام 1989 بدأت تتصدع الإمبراطورية السوفييتية، وتعود إلى مكوناتها الأصلية. فانفصلت أرمينيا في 21 سبتمبر 1991 وانفصلت أذربيجان في 30 أغسطس 1991، لتصبح واحدة من ست دول تجمعها الثقافة والتاريخ التركيين وتشكل معا بتشجيع من تركيا المنظمة الدولية للثقافة التركية (تركـْسوي). قامت أرمينيا بالاستيلاء على إقليم كراباخ بحجة أنه أرض أرمينية وتشريد ما يقرب من مليون إنسان من سكان الإقليم، الذين أصبحوا لاجئين في بلدهم. ثم استغلت أرمينيا حالة التفكك والضعف عشية الاستقلال، فاحتلت سبع مناطق أخرى محاذية للإقليم ليكون مجموع ما اقتطعته من البلاد نحو 20 في المئة من البلاد. كان حيدر علييف أول رئيس للبلاد ثم ورّث الحكم لابنه إلهام علييف الرئيس الحالي عبر انتخابات مرتبة. تعتمد البلاد أساسا على تصدير النفط، فقد مد أنبوب نفط من أذربيجان إلى ميناء جيهان التركي لتصدير البترول منذ عام 2006 حيث يصدر مليون برميل يوميا. وقد استثمرت عائدات النفط والغاز في تحسين البنى التحتية والصناعات والسياحة والأوضاع المعيشية لعشرة ملايين نسمة، وبناء قوات مسلحة حديثة قادرة على طيّ صفحة الهزيمة. وهو ما حدث مؤخرا أمام عيون العالم حيث طويت صفحة الاحتلال الأرميني لخمس مساحة أذربيجان مرة وإلى الأبد.
شاهد عيان
زرت أذربيجان مرتين، كانت الثانية في نهاية أغسطس 2022 مخصصة لإقليم كاراباخ مع وفد مكون من سبعة صحافيين معتمدين بالأمم المتحدة بدعوة رسمية من وزارة الخارجية، للاطلاع على أحوال الإقليم بعد تحرير الجزء الأكبر منه عام 2020. اطلعنا على حجم الدمار الذي خلفه الاحتلال الأرميني وأخطار مليون لغم أرضي مزروعة في الإقليم. لقد تم تدمير جميع القرى والمدن والضيع والمباني والمؤسسات والفنادق والقصور القديمة تدميرا تاما. من بين 67 مسجدا تم تدمير 65 – وبعضها استخدمت كحظائر للحيوانات – لقد أحرقت كروم العنب والغابات ونهب رخام المقابر، وحتى استلت أسنان الذهب من الموتى بعد نبش القبور. وبعد اكتمال الزيارة سئلت على التلفزيون الوطني عن انطباعاتي فقلت: «إن أرمينيا كانت تعرف أنها ستخرج من هذه المناطق. فلو كانت كما تدعي أنها أرضها فلماذا التدمير. لماذا لم تزرع شجرة ولم تبن مقرا، ولم تنقل سكانا، ولم تبن مستوطنة ولم تفتح طريقا، بل دمرت كل ما هو موجود؟». هذا يفسر الانهيار السريع للوجود الأرميني وتفكك الجيش وهروب السكان القلائل الذين كانوا يسكنون في الإقليم لأنهم كانوا يعرفون أن احتلالهم زائل. لقد استذكرت وأنا أتابع مجريات المواجهة الأخيرة مقولة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر الشهيرة: «ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة». إنها صالحة لكل زمان ومكان. لعل جماعة أوسلو يسمعون هذه المقولة مرة أخرى فيرعوون عن ضلالهم وتمسكهم بحل وهمي يأتي من المجتمع الدولي.
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بولاية نيوجرسي