تفاءل الغربيون، كما هم الايرانيون، بفوز الشيخ الدكتورحسن روحاني، بالانتخابات الرئاسية الايرانية، بعد ثماني سنوات من رئاسة الدكتور احمدي نجاد.
وليس واضحا بعد ما اذا كان ثمة اختلاف جوهري سيطرأ على السياسة الايرانية الداخلية والخارجية بين الرئاستين، ام ان الاختلاف محصور بالخطاب واللغة والمصطلحات والنغمة. لا شك ان لذلك اثره على العلاقات العامة سواء بين الافراد ام الدول. ولكن ما يؤثر بشكل حقيقي على مجريات السياسة لا ينحصر بالخطاب بل بالسياسات الواقعية والتوجهات على صعيد العلاقات والتبادل في مختلف الصعدان. الرئيس روحاني بدأ دورته الرئاسية الاولى بلغة تعكس رغبة شديدة في تحقيق سمعة مختلفة للجمهورية الاسلامية الايرانية، تنطلق على اساس مد الجسور مع ‘اعداء الامس’ الذين ما تزال طهران تعتبرهم مسؤولين بقدر كبير عن نصف قرن من الازمات الداخلية وربع قرن من الصعوبات والمتاعب. فمنذ العشرينات من القرن الماضي عاشت ايران تحت حكم عائلة بهلوي التي استبدت بالحكم بدعم امريكي غير محدود.
وما تزال طهران تستحضر ما حدث قبل ستين عاما عندما دبرت المخابرات الامريكية والبريطانية الانقلاب ضد الزعيم الوطني المنتخب، محمد مصدق، واعادت الشاه الى الحكم. ومنذ الثورة الاسلامية في 1979 عانت ايران من أزمات شتى متواصلة، بدأت بإرهاب داخلي ادى لتصفية العشرات من رموز الثورة وقادتها، وتواصلت عبر حرب دعمها الغربيون وامتدت ثمانية اعوام، ووصلت الآن الى حالة الحصار التي تشتد باستمرار وتضغط بدون حدود على الاقتصاد وتؤثر على حياة المواطنين بشكل مباشر.
الرئيس روحاني يدرك ذلك جيدا، ويعلم انه ينتمي لنظام رفض الاستسلام لمن يعتبرهم أعداءه الايديولوجيين والسياسيين، ولكنه مصمم على الاستفادة من اية ثغرة في العلاقات العامة او الدبلوماسية الواقعية لاقتحام مناطق النفوذ الدولية والتأثير على مصادر القرار التي تستهدف نظام الحكم الذي ينتمي اليه. وستتضح في الايام المقبلة مدى قدرة حسن روحاني على تجاوز الاسلاك التي تعترض مساره الدبلوماسي، الداخلية منها والخارجية. والواضح انه، وفريق عمله الجديد، يدركان اهمية زيارته هذا الاسبوع لنيويورك، عاصمة الامم المتحدة.
ما الجديد في الخطاب الايراني بعد صعود الدكتور حسن روحاني للرئاسة؟ ولماذا يبدي الغربيون اهتماما اكبر بتطوير العلاقات مع الجمهورية الاسلامية؟ ربما السر يكمن في جانبين: اولهما الصورة التي انتشرت خلال الحملات الانتخابية بان الدكتور روحاني ينتمي للتيار الاصلاحي، الامر الذي جعله ‘مقبولا’ لدى الغربيين. الثاني تأكيده المتكرر على ان المشروع النووي الايراني لن يكون عسكريا، وان ايران لن تسعى لتصنيع القنبلة النووية.
ثالثهما: تطورات الوضع السوري وتراجع احتمالات العمل العسكري لاسباب عديدة من بينها الخشية من الدور الايراني في اي صراع مسلح في المنطقة. رابعهما: تنامي دور ايران الاقليمي ونفوذها في افغانستان والعراق وسورية ولبنان بشكل خاص. أيا كان الامر فثمة اهتمام كبير بزيارة الرئيس الايراني لنيويورك لحضور الدورة السنوية للجمعية العمومية للامم المتحدة. وقد انتشرت انباء متكررة منذ فوزه بالانتخابات الرئاسية التي جرت قبل ثلاثة شهور عن مبادرات امريكية للتحاور معه ووعود بـ’فتح صفحة جديدة’ في العلاقات بين واشنطن وطهران بعد ثلث قرن من القطيعة المشوبة بالحرب الباردة. لا شك ان خطاب روحاني يختلف كثيرا عن خطاب سلفه، الدكتور احمدي نجاد من حيث اللغة والمضمون. وربما كان هذا الاختلاف من بين العوامل التي ساهمت في فوز روحاني باغلبية اصوات الناخبين في الجولة الاولى، بخلاف التوقعات.
يضاف الى ذلك ان الاوضاع الايرانية الداخلية فرضت تغيرا في المزاج العام دفع الكثيرين للتطلع لتغير في سلم القرار السياسي والاداري في البلاد. ومع ان سياسات نجاد على صعيد الطبقات الاجتماعية الفقيرة قد لاقت استحسانا كبيرا، الا ان الحصار المفروض على ايران ادى الى تفاقم الصعوبات الاقتصادية بشكل غير مسبوق. فارتفاع نسب التضخم لتصل الى 40 بالمائة، وتراجع قيمة العملة الايرانية الى النصف، وشل التبادل التجاري مع الخارج، وانخفاض تصدير النفط الى النصف، كل ذلك احدث ازمة اقتصادية واسعة بدأت تنعكس سلبا حتى في مجالات التجارة والصحة والبناء والتنمية. روحاني يدرك ان عليه ان يعالج الوضع الاقتصادي بشكل جاد وعاجل، وهذا يتطلب احداث تغييرات تؤدي الى تخفيف الحصار المفروض على بلده والذي تتصدره الولايات المتحدة الامريكية.
ولذلك بادر منذ ايام الحملة الانتخابية لطرح اشارات اقل استفزازا للغربيين، الامر الذي التقطته ادارة ا وباما وبدأت تقرأ بين السطور للتعرف على ما اذا كان هناك تغير في مسارات السياسة الايرانية.
أربعة مسارات لهذه السياسة تزعج الغربيين كثيرا، اولها مشروعها الذي اسماه الغربيون ‘الاسلام السياسي’، الذي طرح على مدى العقود الثلاثة الماضية مبادىء اساسية تمثل جوهره، منها تأكيد دور الدين في الحياة العامة، والتمايز الثقافي بين المنظومتين اللبيرالية والاسلامية، والمنظومة الاخلاقية والقيمية المستمدة من الدين، واستقلال القرار السياسي، وتعميق مفهوم ‘الامة’ بدلا من الدولة القطرية التي عجز روادها عن تعزيز وجودها باستقلال عن الاجنبي، والعمل على حفظ موارد المسلمين وتطوير قدراتهم الذاتية وتحقيق اكتفائهم الذاتي، ودفع مشروع التصنيع بما يحقق احتياجاتهم، وتطوير قيم التضامن والتعاون بين مكونات الامة. ثاني المسارات يختص بالموقف ازاء الكيان الاسرائيلي، ويعتبر مائزا للمشروع السياسي الاسلامي، وقادرا على لملمة شمل المسلمين وتوحيد كلمتهم باتجاه هدف مشترك خارج حدود كل من دولهم. وثالثها: العلاقات مع الغرب، خصوصا الولايات المتحدة وانتهاج سياسات تتميز باستقلال القرار وتتحاشى التحالفات السياسية والعسكرية معها، ما دامت ملتزمة بمبدأ الحفاظ على التفوق الاستراتيجي الاسرائيلي، والالتزام بمبدأ يؤكد استقلال امة المسلمين عن الغرب، مع القبول بعلاقات تعاون وتنافس على قدم المساواة، مع رفض التدخلات الاجنبية في شؤون شعوب العرب والمسلمين.
اما المسار الرابع الذي تبنته الجمهورية الاسلامية فيتأسس على تعميق التوجه نحو الانتاج والتصنيع بالشكل الذي يحقق الاكتفاء الذاتي لهذه الامة بعد عقود من التراجع والتخلف والاعتماد على ما لدى الآخرين من انتاج، واستبدال سياسات الاستهلاك المفرط بانماط حياة اكثر انتاجا وعطاء. هذه المسارات ستظل معوقا امام اية محاولة للتفاهم الجاد بين ايران والغرب، خصوصا مع حالة التحريض المتواصلة من قبل ‘اسرائيل’ ضد ايران بصفتها رأس الحربة في مشروع ‘الاسلام السياسي’. وفي غياب اي حل سياسي للقضية الفلسطينية ستظل عوامل الصراع في المنطقة قائمة تهدد بتفجير الاوضاع في اية لحظة.
الرئيس روحاني اصبح مطالبا بدفع جزء من الفواتير السياسية التي احدثتها تصريحات احمدي نجاد، ومن بينها الموقف من المحرقة والاعتراف بالكيان الاسرائيلي. بل ان نتنياهو نفسه شكك في تصريحات روحاني وسعى للتقليل من شأن سياسات التقارب التي ينتهجها. تل ابيب تشعر بان اي تقارب بين ايران وامريكا سيكون على حساب مصالحها، خصوصا في ظل الانزعاج الغربي من سياساتها التصعيدية ببناء المزيد من المستوطنات، ورفض تقديم تنازلات تؤدي لاقامة الدولة الفلسطينية الموعودة.
الدكتور روحاني يدرك هذه الحقائق، ويميز بين امرين: الخطاب السياسي المعتدل الذي قد يدغدغ عواطف بعض الغربيين ويقلل من غلوائهم تجاه ايران، والمشاريع العملية ضمن تلك المسارات التي ينظر الغربيون لها بشك وريبة تارة، وعداء تارة اخرى. وبالتالي ففي الوقت الذي يسعى الغربيون للتظاهر بالترحيب بما طرحه روحاني، فانهم يدركون تماما ان القضية تتجاوز الخطاب العلني العام، وتتصل بجوهر الخلاف حول القضايا التي تنطوي عليها المسارات المذكورة. فمشروع الاسلام السياسي مرفوض جملة وتفصيلا اذا كان يهدف لتحقيق استقلال سياسي وحضاري شامل. ويعلم روحاني ان سلفه، الرئيس الاصلاحي، محمد خاتمي، طرح واحدا من اكثر المشاريع تحضرا وتطورا ورغبة في احلال السلم بين ابناء المجتمع البشري، وروج كثيرا لما اسماه ‘حوار الحضارات’ ولكن الغربيين لم يحتضنوه لعلمهم ان سياسات الهيمنة التي تبنوها عقودا تتناقض مع مبدأ حوار الحضارات والتعامل في ما بينها وفق مبادىء المساواة والتنافس المتوازن. ويعرف روحاني ايضا ان الخلاف بشأن المشروع النووي الايراني ليس حول طبيعته فحسب، بل حول جوهره. فلا يكفي تأكيداته بان ايران لن تسعى لانتاج السلاح النووي، بل سيطالبه الغربيون بالتخلي عن حق بلده في استحصال دورة تصنيع نووي كاملة، بما في ذلك الحق في التخصيب. الغربيون منعوا الرئيس محمد خاتمي من الاحتفاظ بعشرين فقط من اجهزة الطرد المركزي لغرض البحث العلمي لانهم يرفضون السماح لايران باكتساب القدرة على البحث العلمي المستقل والتخصيب النووي المنفصل عن الهيمنة الغربية. الدكتور روحاني يعرف ايضا ان المطلوب من ايران ليس الاعراب عن عدم نيتها الدخول في حرب مع الكيان الاسرائيلي فحسب، بل الاعتراف بشرعية وجوده على اراضي فلسطين، وبالتالي التخلي عن دعم المقاومة المشروعة الفلسطينية واللبنانية.
لقد نجحت الجهود الايرانية في تشكيل رأي عام دولي ضد الحرب على سورية، وظهرت معالم تحالف سياسي جديد يضم روسيا وايران ودولا اخرى. وهذا تطور يؤثر على التوازن السياسي في الشرق الاوسط، ويؤسس لتوازن جديد يتجاوز العلاقات والتحالفات التقليدية. وبالاضافة للقلق الذي يراود الكيان الاسرائيلي فان المملكة العربية السعودية هي الاخرى تزداد قلقا لهذا التطور الذي أفشل خطتها التي تحرض ضد سورية وتؤسس لنشوء ميليشيات متطرفة اصبح الغربيون قلقين منها جدا.
الرئيس اوباما ادرك ليس مخاطر الحرب فحسب، بل قادته خبرته وحدسه للسعي للتقارب مع ايران، كوسيلة تهدف لتحييد بعض المواقف في المنطقة، ولتحدث توازنا مع القوى المتطرفة المدعومة من السعودية. وحين يلتقي مع الرئيس حسن روحاني فسيجد اوباما نفسه وجها لوجه مع احد رموز الاصلاح الوطني والتسامح الديني والتقارب بين الشرق والغرب. وما لم يبادله اوباما مشاعر الاحترام والتقدير فستخسر امريكا فرصة ذهبية لاثبات حسن النوايا وتبريد خطوط التماس بين الفرقاء المذهبيين، ومنع تداعي مواقف دعاة التغيير في المنطقة. مطلوب من اوباما استيعاب الوضع السياسي الاقليمي والدولي قبل ان يقرر اتخاذ هذا الموقف او ذاك، خصوصا بعد ان اثبتت سياسات الدول الحليفة لها انها اكثر تدميرا لفرص التصالح والسلام والتطوير السياسي بما في ذلك التحول نحو الديمقراطية واحترام حقوق الانسان.
ويعلم اوباما كذلك ان الرئيس الايراني لن يستطيع اتخاذ قرارات كبيرة في زيارته واشنطن هذه المرة، خصوصا في مجال العلاقات الخارجية والمشروع النووي، وعليه ان يكون مرنا في ما يطرح، فلايران مطالبها خصوصا رفع الحصار عن اموالها المجمدة لدى امريكا وفي المصارف الدولية.
وسيكون من غير المناسب حصره في زاوية بدون اعطائه تنازلات معقولة تقوي موقفه مع معارضيه في العمق الايراني. صحيح ان روحاني قد منح مجالا واسعا للتحرك، ولكن هذا المجال يبقى محدودا بأطر المصلحة والسيادة الوطنية والمسؤولية الدينية، وكلها اعتبارات لن يستطيع احد القفز عليها لانها في عمق الاعتبارات المهمة. الواضح ان الرئيس روحاني قد استثمر كثيرا في مجال العلاقات العامة وسعى لاظهار نفسه بصورة الرئيس المعتدل الذي يختلف عن احمدي نجاد في الفكر والسياسة والمنهج. وللمرة الاولى في تاريخ الرئاسة الايرانية، كتب مقالا بصحيفة ‘واشنطن بوست’ بعنوان ‘لماذا تبحث ايران عن حوار بناء’ عبر فيه عن أمله ان يعي الرئيس الامريكي طبيعة الفرصة المتاحة حاليا في ايران، وان الشعب الايراني، بتصويته الحاسم للرئيس في الجولة الانتخابية الاولى، قد منحه تفويضا للتفاوض مع الغرب وفتح صفحة جديدة في العلاقات. هذه الخطوة المتميزة فرصة للغربيين ليبادلوه نواياه، ولكن التاريخ المعاصر يثبت ان واشنطن ليست كذلك، فلم تبادل الرئيس محمد خاتمي سابقا نواياه الحسنة، ولم تستقبل اطروحة ‘حوار الحضارات’ ولم تسهل مهمته في المشروع النووي، بل وضعت كافة العراقيل في وجهه. والأمل ان لا يعتقد الرئيس روحاني ان السياسات الغربية تتغير بتغير لغة الخطاب، بل ان لديها اجندات سياسية في العالمين العربي والاسلامي لا تتأثر كثيرا بالاساليب والاشخاص ولغة الخطاب وحسن النوايا.
‘ كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن
غض النظر عن اشكاليات هذا التحليل في سيساسة الايرانية، المشروع الذي يسمي ‘ الاسلام السياسي ‘ يمثل الاستراتيجية الرئيسية للغرب في شرق الاوسط طوال 40 عام