تبدو الخريطة اللبنانية مشلّعة الأطراف، في هذا الزمن السوري الذي يعيشه لبنان. فلا السياسة تشبه السياسة، ولا الثقافة تشبه الثقافة، ولا الاعلام يشبه الاعلام. وطن ناقص لا يكتمل من داخله، وبلاد معلقة على توازن اقليمي لا يجد نقطة توازنه.
صار الكلام عن الفراغ الحكومي مثيرا للسأم، كما ان ما يسمى بالحوار الوطني دخل في السبات. توقعات القوتين السياسيتين المهيمنتين: تيار المستقبل وحزب الله سقطت، لم يتهاوى النظام السوري كي تعلن السنية السياسية انتصارها، كما انه لم ينجح في اعادة هيمنته على سورية كي يعلن حزب الله ‘نصرا الهيا’ جديدا.
كل شيء مؤجل.
بلاد مؤجلة في الانتظار، وقوى سياسية نزعت عنها القناع السياسي، لتتحول الى قيادات طائفية تنتشي بخوفها، ولا تجد ما تقوله، سوى تكرار الكلام المكرر، فلقد نفد الكلام وخلص الحكي.
في العادة عندما نقول ‘خلص الحكي’، فهذا يعني موت العلاقات الانسانية، فالانسان يعيش لأنه يحكي، اما هنا في هذا المدى اللبناني المغلق بالفراغ، فان الحكي الذي انتهى يستمر في الدوران على الفراغ، ويجعل من قراءة الصحف الصباحية، على سبيل المثال، حفلة تعذيب يومية، لأن الصحافة تحولت الى مطحنة للفراغ واللامعنى.
لكن لبنان لم ينفجر، وأغلب الظن انه لن ينفجر، على الأقل في المدى المنظور. فلقد تعلم اللبنانيون من تجربتهم الطويلة مع الحرب الأهلية، ان هذه الحرب ليست قرارا داخليا، ولا يستطيع اللاعبون اللبنانيون الصغار اشعالها الا بقرار خارجي لم يأت، كما ان ميزان القوى المحلي، حيث هناك تفوق عسكري ساحق لحزب الله ، لا يسمح بها.
لا حرب ولا سلام، بل عفن شامل. كل شيء يتعفن في لبنان. حتى هذا الخريف الذي هو اجمل الفصول في بيروت، لا يأتي بوعوده، لأن الطبيعة صارت عاجزة عن مداواة مريض صار مرضهسببالوجوده.
المرض اللبناني له اسم واحد هو الطائفية، وهو للأسف مرض لا علاج له، لأن علاجه يهدد وجود المريض، وهذا ما سبق لمؤسس حزب الكتائب بيار الجميل ان حدده بوضوح حين قال ان النظام يساوي الكيان. وقد قاد هذا النزق الذي جعل النظام الطائفي أقوى من الدولة الى مسلسل الحروب الأهلية التي لا تنتهي.
لكن المسار المعقد للحروب اللبنانية، وسط مشرق عربي قادته الديكتاتورية الوحشية الى التداعي، احدث تعديلا جوهريا على مقولة الشيخ بيار، فصار النظام لا يساوي كيانا واحدا بل مجموعة كيانات، في واقع شبه فيدرالي، تغيب عنه الحكومة المركزية.
صار لبنان غابة، لكنه غابة تنضبط على ايقاع بنى طائفية لا ينقصها التماسك، واذا كان ميزان القوى قد جعل من الطائفيتين الكبريين اي السنة والشيعة، عماد توازن اللاتوازن في المرحلة الراهنة، فإن هذا لا يعني ان الطوائف الأخرى اي الدروز والموارنة والارثوذكس والى آخره… لا تشحذ سكاكينها السياسية في انتظار لحظة العودة الى هذا اللاتوازن المروّع.
يبدو المشهد اللبناني مخيفا من الخارج، فالحرب النائمة قد تكون اكثر قدرة على الترهيب من الحرب المستيقظة، لكن المشهد الداخلي مختلف لأن سمته الرئيسية هي اللامبالاة. لا احد يبالي، ولا احد يريد ان يناقش، كأن الناس قررت ان تغمض عيونها كي لا ترى، وانصرفت الى ما يشبه السبات المليء بالضجيج.
كنا نعتقد ان هذه المأساة التي جعلت من الطوائف اقوى من الدولة هي لعنة لبنان وحده. لكن انحطاط الحركة القومية في العالم العربي، خصوصا مع نظام البعثين في سورية والعراق، حول المسألة اللبنانية الى حقيقة عربية. قد نستطيع ان نفهم انزلاق العراق الى الخراب الطائفي نتيجة الحرب الامريكية.غير ان نسبة الأمر الى الخارج لا تكفي كي نفهم، وخصوصا اذا نظرنا الى سورية اليوم، حيث صار بشار الأسد الابن الشرعي لمقولة الشيخ بيار جاعلا من نظامه مساويا للكيان السوري، بعدما نجح قمعه الوحشي للانتفاضة الشعبية السورية الكبرى، في تحويل سورية الى حقول للقتل، وفي فتح ابواب استباحة الأرض السورية للقوى الدولية والاقليمية.
‘داعش’ تحاول ان ‘تدعش’ الشعب السوري، مثلما ‘دعش’ نظام الأسدين اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين، وهذه مسألة تحتاج الى تحليل خاص، كي نفهم ماذا فعلت الآلة القمعية للنظام السوري ببلاد الشام بأسرها.
اين يقع لبنان اليوم؟
الحقيقة ان كلمة يقع تثير حيرتي. فنحن في العاميات الشامية نستخدم كلمة وقع كي نعني بها سقط. لكنني وانا أقلب قاموس ‘محيط المحيط’ للمعلم بطرس البستاني اكتشفت ان كلمة ‘وقع’ ليست عامية، كما كنت أظن، بل هي كلمة فصيحة تعني ايضا سقط. لكن القاموس يتابع بحثه الاستقصائي ليشير الى ان كلمة’ الواقع’ تعني ما حصل. اي ان ‘وقع’ تعني الشيء ونقيضه، وقد تكون من الأضداد. فحين نقول وقع الواقع فهذا قد يعني ان ما حصل، اي واقعنا قد سقط، وحين نقول يقع لبنان على الشاطيء الغربي لآسيا العربية، او يقع في المشرق العربي فهذا قد يعني انه حصل أن وُجد في هذه المنطقة من العالم، وقد يعني ايضا انه سقط هناك.
لم يسقط لبنان عن الخريطة والجغرافيا، لكن من شبه المؤكد ان الطبقة السياسية اللبنانية قد اخرجته من التاريخ.
لقد وقع لبنان الكبير في مأزق جغرافيته الطائفية، ولا خيار له سوى انتظار مسارات جغرافية المنطقة، بعدما قرر الاستبداد اخراج العرب من التاريخ.
لطالما حيرني تساؤل غريب , كيف تستطيع نخب سياسية تافهة أن تتحكم بوطن مليئ بنخب ثقافية عميقة التفكير .
هل يتحمل القادة السياسيين و العسكريين عبء الهزائم منفردين , أم أن لهروب المثقفيين الحقيقيين من المواجهة , و اكتفائهم بالتحليل – العميق و الواقعي – من بروجهم العاجية , يدخلهم في حسابات الجريمة و العقاب ؟ .
كلما قرأت مقالا تحليليا رائعا كمقالك استاذي الكريم , أجدني عاجزا مرة اخرى عن ايجاد الجواب المعضلة.
مع الاحترام
كلامك اخي وائل الى حدما صحيح لكن قل لي تراك الاستبداد مكانا للكاتب غير المهجر في محاولة ولو انها تبدو اخيرة لكنها الوحيدة المتاحة في الوقت الحاضرلاسترجاع الوطن من الغربة وليس الامر جديدا اسأل التاريخ الحديث عن عصر النازيين والفاشيين وحتى الشيوعيين في شرق اوربا وروسيا الم يكن حالهم كذلك لكن الاستبداد سقط وانتهى برحلة الماراثون الطويلة ولم يبقى مكانا له الا مزبلة التاريخ وهكذا سيكون مصير الاستبداد العربي وان شاء الله قريبا
من اجمل ما قرأت هذا الاسبوع. شكرا الياس
لو امتثل أهل لبنان هداهم الله بالشرع المطبق في المملكة أو استمعوا لعلمائها الأفاضل لما كان هناك أي فساد أو مشاكل