أكيد أن الشابة الأسترالية «لالزومي فرانكوم»، التي كانت تفضل مناداتها اختصارًا بـ «زومي» حينما قدمت إلى المغرب، سبتمبر/ أيلول من العام المنصرم، مع المنظمة الإنسانية الأمريكية «المطبخ المركزي العالمي»، عقب الزلزال المدمر، الذي ضرب أقاليم مراكش ونواحيها، قد وجدت كل الترحاب من الأهالي البسطاء، رغم قسوة تلك الظروف. وبحماسها المعتاد، قالت لقناة تلفزيونية أمريكية: «نحن ذاهبون إلى تلك القرى المعزولة في أسرع وقت ممكن لتقديم الوجبات الطازجة والمياه لسكانها».
وقبل ذلك، تطوّعت «زومي» في عمل إنساني آخر، إثر الحرائق التي اجتاحت أستراليا من أواخر عام 2019 إلى أوائل 2020. كما ظهرت في مقطع فيديو نُشر من جزر «الباهاما» بعد إعصار «دوريان» الذي ضرب أرخبيل الكاريبي عام 2019. ووصفتها إحدى زميلاتها بأنها «شابة لا تعرف الكلل وذات قلب كبير»، مثلما نقلت عنها وكالة الأنباء الفرنسية.
كان قدر الشابة «زومي» أن تكون آخر مهمة ميدانية لها في العمل الإنساني بمعية زملائها، في غزة المحاصرة؛ حيث امتدت لهم يد الغدر الجبانة، ذات السجل الأسود في إبادة المدنيين والأطفال والمرضى والأطباء والإعلاميين ومتطوعي الإغاثة والمبادرات الإنسانية… لذلك، قالت إحدى صديقات «زومي» بحسرة واستغراب في تصريح تلفزيوني: «من غير المعقول أن يُقتل أشخاص يقومون بعمل جيد ويساعدون الآخرين».
كانت تلك الفتاة الأسترالية تتولى توزيع الغذاء في قطاع غزة، إذ شاركت في إرسال المساعدات بالقوارب من قبرص إلى غزة وفي بناء رصيف مؤقت في القطاع. وظهرت منذ أسبوع في فيديو إلى جانب طهاة المنظمة غير الحكومية، وقالت مبتسمة: «هذا هو الأرز رائع المذاق الذي سيقدمه اليوم مطبخ دير البلح» .
بيد أن مجرمي الدولة المارقة كان يطبخون لـ «زومي» ورفاقها طبخة غاية في اللؤم والبشاعة والوحشية، متحدّين القوانين الدولية والقيم الإنسانية. ولم يكن المشهد الدموي لقصف سيارة منظمة «المطبخ المركزي العالمي» بمن فيها سوى جزء من محرقة «غرنيكا» جديدة على أرض غزة الفلسطينية.
كذبة أبريل
وتزامنًا مع مطلع شهر نيسان/ أبريل، الذي يتفنن فيه الكثيرون باختلاق الأكاذيب، حاول الكيان الصهيوني قلب الحقائق، من خلال تحويل الذئب إلى حمل وديع، والضحية إلى مجرم. ومن ثم، احتفى الإعلام الإسرائيلي بالزيارة التي قام بها الحاخام يوشياهو بينتو نهاية الأسبوع الماضي إلى المغرب قادما منهاتن، حيث زار مدينة الصويرة الساحلية المشهورة بكونها مسقط رأس العديد من اليهود المغاربة الذين تعايشوا بود ووئام لقرون مع مواطنيهم المسلمين.
جاء في الخبر أن «بينتو أدى صلاة خاصة من أجل السلام لجميع اليهود في جميع أنحاء العالم وخاصة لمواطني إسرائيل المنخرطين في حرب رهيبة على الحدود الجنوبية والشمالية للبلاد»؛ قاصدا بذلك قطاع غزة ولبنان. واسترجع رجل الدين قصة هجرة اليهود من مصر مع النبي موسى عليه السلام، هربا من فرعون، والبحر الذي انشق إلى قسمين، حيث كان الخلاص. وقال الحاخام بينتو: «نصلي جميعًا من أجل أن يحل السلام قريبًا على أرض إسرائيل وفي جميع أنحاء العالم. نأمل أن تتاح لنا الفرصة قريبًا لنشهد تحقيق العدالة الصارمة وانتشار النعمة والرحمة في جميع أنحاء العالم» .
ولكن، هل تأتي العدالة والرحمة عن طريق قتل الأبرياء وتدمير المنازل والمستشفيات يا حاخام؟
طبيب قلب… بلا رحمة
نعم، ذلك ما قاله صراحة طبيب كندي يهودي من أصول مغربية، فقد كتب على منصة للتواصل الاجتماعي: «انتهى الأمر بالنسبة لغزة وحماس. بعد أسبوعين من إشعار الإخلاء، حان وقت التطهير الكبير. لا يمكن تمييز الطيب من الخبيث…» وسارعت نقابة الأطباء في مقاطعة «الكيبيك» بعقد اجتماع لمجلسها التأديبي الذي أصدر حكما بحق طبيب القلب «إيريك الصباغ»، يلزمه بدفع غرامة قدرها 25 ألف دولار، كما أمره بالخضوع لدورة تدريبية حول «الأخلاقيات الطبية».
النقابة الكندية، وفق ما أوردت صحيفة «مونريال» الناطقة بالفرنسية، اعتبرت أن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي كمنتدى لنشر مثل تلك التصريحات غير الأخلاقية يعتبر عاملا شائنا، كما كشفت أنها تلقت 1156 طلباً للتحقيق فيها. ومن ثم، أصدرت عقوبة على طبيب القلب المذكور، ولم يشفع له سحب تدوينته بسرعة واعتذاره، بعدما زعم أن تلك التصريحات كان لها أثر كبير عليه وعلى عائلته. واللافت للانتباه أن الطبيب ذا الأصول المغربية كان قد رفض العام الماضي أن يُدفَن أبوه الحاخام أبراهام في مدينة فاس حيث كان يقيم، وفضّل أن ينقل جثمانه إلى «إسرائيل»، حسب ما أورد موقع «كود» نقلا عن إيريك الصباغ.
بيد أن برلمانيين مغاربة اختاروا التغريد خارج السرب في هذا الظرف بالذات، وخارج يوميات العدوان الإسرائيلي على أهالي غزة؛ فتحدّثوا عن أهمية السياحة الدينية اليهودية، داعين إلى الاعتناء بمقابر اليهود في المغرب. وهو ما ردّ عليه وزير الثقافة بالقول إن هذا الموضوع من اختصاص وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، دون أن ينسى الإشارة إلى وجود اتفاقية مع الاتحاد الأوروبي لدعم الثقافة اليهودية، على المستوى الروحي.
يهود مع القضية
صحيفة «اليوم 24» الإلكترونية نقلت عن المستشار البرلماني نور الدين سليك، أحد المتحمسين لموضوع المقابر، قوله إن «المكون الديني اليهودي المغربي أحد المكونات الأساسية لشعبنا»، وزاد: «إذا عُدنا إلى التاريخ فسنجد أن اليهود سبقوا حتى المسلمين في البلاد، وبالتالي لا يمكن أن نغفل هذه الإمكانيات المتاحة لبلادنا.» واستدرك بالقول: «مواقفنا ثابتة ولا أحد سيزايد علينا، بخصوص الدفاع عن القضية الوطنية، والموقف من الصهيونية، نحن نميز بين اليهودي والصهيوني، ولا مرحبا بالصهاينة في بلادنا، وسنحاربهم ونحتج عليهم إن جاؤوا عندنا، وهناك مجموعة من اليهود المغاربة الذين هم مع القضية الفلسطينية». كما قال المستشار البرلماني خالد السطي، عن نقابة الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب، إن «المكون الديني اليهودي مهم، والسياحة الدينية من الروافد السياحية المهمة، وليس كل اليهود صهاينة».
وهو محق في ذلك، فهناك العديد من اليهود المغاربة ذوو مواقف مشرفة من القضية الفلسطينية، من بينهم سيون أسيدون والراحل أبراهام السرفاتي والكاتب الراحل إدمون عمران المالح… وغيرهم. وفي المقابل، هناك مغاربة إما نشطاء أمازيغ أو ليبراليون أو حداثيون مؤيدون للمشروع الصهيوني ومنخرطون في دعم إسرائيل حتى النخاع.
حديث البرلمانيين المغاربة عن «السياحة الدينية» اليهودية جاء في ظرف غير مناسب. ألم يعلموا بأن ما يسمّى «المجلس القومي الإسرائيلي» أصدر تحذيرا لمواطنيه من السفر إلى أربع دول إسلامية تربطها علاقات دبلوماسية مع تل أبيب، وهي المغرب وتركيا والأردن ومصر؟ وذلك بمبرر احتمال حصول احتكاكات أو أعمال عنف، بما أن تلك المناطق تشهد غليانا شعبيا ومظاهرات متفاوتة الحجم والإيقاع، احتجاجا على حرب الإبادة في غزة. والحال أن مظاهرات المغرب ـ مثلا ـ تمر في ظروف حضارية راقية، كما أن يقظة الأجهزة الأمنية والاستخباراتية وحنكتها تحولان دون وقوع أي انزلاقات.
اللافت للانتباه أن المسيرات والوقفات التضامنية التي تشهدها مدن المغرب بشكل يومي تقريبا لا تجد صداها في الإعلام الرسمي، من تلفزيونات وإذاعات ووكالة أنباء. في حين أنها تحظى بمواكبة مكثفة من طرف المواقع الإلكترونية ومنصات التواصل الاجتماعي.
يبدو أن الحكومة المغربية، لسبب ما، تريد الحفاظ على شعرة معاوية مع حكومة نتنياهو… وإذا عرف السبب بطل العجب.
كاتب من المغرب