يتخيل لو يستطيع أن يمد ذراعيه إلى مكانها حيث يسكن بعض منها هناك ويضمه لتهدأ، ليقول لها إنه انتقم لها علها ترضى، وأنه لن يحب أحداً سواها علها تغمض عينيها وتنام.
لذا ها هو مرابط في مقعده منذ الصباح الباكر – على غير عادته – في انتظار بريجنيف.
بريجنيف الذي هاتفه على غير العادة ورمى في حجره البشرى بأنه وجد طريقة يمكن أن تنقله هو وإخوانه إلى الأرض المحتلة بالاتفاق مع العدو الإسرائيلي، وأن المسألة على الطاولة أمام القيادة الآن.. مشكلتك ستحل قريباً، قل إنها حلت.
هل يفعلها بصحيح؟ هل يفعلها بريجنيف ؟
يمر أمامه شريط حياته، تدور أشياء كثيرة، لكن الدنيا كلها تكاد تتوقف عند وعود مجيد ووعود بريجنيف،
يطوحه الحلم إلى أي وطن سيعود، يمد رجله فتصطدم برجل الطاولة.
حين يتعب من التخمين والتمني، يغمض عينيه ويتركهما تأخذانه إلى أي طريق.
وحين يفتحهما على الأمل في انتظار بريجنيف يتعلق جيداً بطرف الخيط الذي مده له في الهاتف.
فلسطيني مثله لا ليس مثله- من الكوادر الكبيرة التي قضت عمرها تناضل بالكلام أمام الجماهير وأمام شاشات التلفزيون بقوة، مناضل بحق لو تكلمت معه في النسوان يقلب الكلام إلى النضال الوطني في النسوان.
تاجر بارع لا يتعب من المساومة، ولأنه مقرب من القيادة وصاحب لسانين عمل سفيراً سنوات طويلة في قيرغيزستان، لا يقول جملة إلا ويدخل فيها قيرغيزستان.
عاطل الآن، على المعاش لكنه ليس مثل أبو شندي، عاطل على الورق فقط، عنده بضاعته حاضرة غير مكدسة، وبياعو الكلام لا يتعبون، منافح ولا أشد عن المناضلين، يقول لك دائما لا تقلق، سنفعل وسنمضي، لكنك حين تعقد يديك لن تجد سوى رماد الريح، أو حروف كلامه مفككة متطايرة تتساقط بين أصابعك.
نموذج ممتاز لمناضلي المقاهي الكبار، إن لم يجد مناسبة يخترعها، يهبط على أي ندوة أو مناسبة، ينتهز الفرصة ويقبض كثعلب شبعان على الميكروفون ويشّبع النضال نضالاً.
وإن شحت المناسبات أو تعطلت لأسباب قاهرة، يبدو كيتيم تائه في المدينة لكنه لا يتعب ولا يمل، يمشي لأبعد نقطة من سكنه لساعة أو يزيد، إلى منطقة أريانة البعيدة، يتمشى في سوق الملابس المستعملة القادمة من فرنسا في الأغلب، يعرف كل بائعيها ويعرفونه، يلتقط طرف الخيط ويمده، يحييهم بقوة ويشكر الشعب التونسي الشقيق الذي احتضن الشعب الفلسطيني الباسل الشقيق ومازال.
يقضي نصف نهاره وسط بالات الملابس معهم، يشرب الشاي على نار الكفاح، ينتقي حوائجه إن احتاج، البنطال بدينار والجاكيت بخمسة، والأكل هنا رخيص.
يعود ماشياً لساعة أيضاً أو يزيد، يمسح الكوليستيرول الذي تسلل إلى جسده من الأكلات الرخيصة، نحيف، والعشق يليق بالنحافة، لكنه لا يعشق.
يدخل إلى المقهى في الوصلة الأولى للمساء بقميص مفتوح عند الصدر، بملفحة حمراء، بشعر مصبوغ كرئيس أمضى في السلطة مدتين ويطمح للثالثة، أو كأنه لم يستطع أن يصبغ سنوات النضال بطابعه فصبغ شعره على سبيل التعويض.
بحاجبين كثيفين يأكلان نصف ملامح وجهه يتحدث إليك، يتحسر على أيام قيرغيزستان ومناديل الصداقة، اسمه في بطاقة الهوية خميس، لكن الأوراق التي تثبت هويته ليست في يده ، سماه أبو شندي خميس بريجنيف أو الرفيق بريجنيف.
حين يقدم لك واحدة، أية واحدة يقول لك :الأخت المناضلة، وإن كانت قوية ذات هضاب ومنحنيات يقول : الرفيقة المناضلة.
لا يكف عن الحديث مع بنات المقهى لكنه في الحقيقة لا يشغل باله بما يحدث معهن أو لهن وربما لا يعرف، هن يناضلن في اتجاه وهو يناضل في اتجاه آخر، هن يناضلن جيداً بالجسد وهو يناضل جيداً بالكلام.
للأمانة لم يفتح جبهة للقتال مع أية واحدة منهن حتى الآن رغم أنه يعيش وحيداً.
وأبو شندي يقول له إن جيفارا حارب ضد الأعداء في بلاد كثيرة وكافح مع النساء في كل الجبهات، لكنه عشقهن وناضل بشرف في الفراش كما يليق بثائر حقيقي.. كذلك كاسترو زير نضال وزير نساء..
الجهاد في الفراش يحيي الروح، يمد حبال الثورة ويقوي عصارة المقاومة.. كذلك كان ماو في الصين، قاتل قتال الأبطال داخل الفراش وخارجه، صنع الثورة ثم تركها للناس وتفرغ لثورة العشق والمجون.
– عشق النساء شرارة الانتصار في ساحات المعارك.
يعرف أن أبو شندي يسخر منه، لكنه لا يكترث كأنه لا يسمعه، كأنه لم يتكلم، وأحياناً يرد بضحكات عالية متواصلة ويسرب الموضوع في داخلها.
يأتي أحياناً مع رفيقة له بملامح رجل، نحيلة كنخلة عجفاء، إلا من حاجبين كثيفين مثله أيضاً، تقول إنها كانت شيوعية وتترحم، وقد تسر لك بأنها كانت في الحزب الشيوعي التونسي الذي انحل، لكنها تخشى أن تقول ذلك حتى لا تغضب عليها الجماعة ويقلبوا عليها الطاولة أو تجد نفسها في الحمام.
وأبو شندي يقول إنها تكذب، ولو كانت كما تحكي لولى بريجنيف منها فراراً حتى لا تأخذه في رجليها.
تجلس مع بريجنيف يقلبان الأيام والثورات على مسمع من أبو شندي الصامت، يتحدثان بجسارة عن المقاومة ومعركة الكرامة، يسبان العملاء والخونة بكل القذائف اللغوية، ويصوبان بنادقهما، ولا تنجو أمريكا وإسرائيل من سهامهم الطائشة في فضاء المقهى.
يأخذان فترة استراحة، تخرج له دفترها الكبير يضم خواطرها عن فلسطين وعن الأحرار في كل مكان، وبين كل قصيدة وأخرى يعلو صوته:
– الله، أحيي نضالك.
أحياناً تخبره أن القصيدة لم تنته بعد.
تسمعهما نعيمة باهتمام بالغ، تكاد تضحك مما تراه، لكنها تروح معهما، تدفن حكايتها في حكاياتهما.
وعلى المنوال نفسه، حين ينضم واحد إلى الطاولة، يعلو صوتها وصوته، تطير القصائد ويطير النضال أعلى الطاولات، وحين يتعبان – نادرا ما يحدث يودعها إلى الباب.
– تصبحين على خير أيتها الرفيقة…
و يلوح لها.
دائم التلويح بذراعيه حين يغشى المقهى وحين يقضي وطره منه، كرئيس حكومة في المنفى يستقبل أو يودع أتباعه.
يدخل ويخرج رافعاً ذراعيه كما يفعل في الندوات دون أن ينسى أن يضم قبضتيه عند الخروج.
أولاده في الدار البيضاء، أمهم مغربية، يرسل لهم ثلاثة أرباع الراتب ويعيش أو يموت بالربع الباقي.
لا تتعب نفسك معه، كان من الممكن بل من الأفضل له أن يعود إلى الدار البيضاء يقضي بقية عمره مرتاحاً وسط أولاده، يصرف عليهم الربع الباقي، يقول لك أبو شندي.. لكنه هناك لن يجد أحداً يسمعه، الذين ناضلوا هناك تعبوا من القتال والكلام، غيروا نوع سهامهم أو غيروا الوجهة.
لن يجد أحداً هناك يخطب فيه أو يكذب عليه.. يضحك أبو شندي ويكمل : لم نعد في زمن المناضلين، نحن في زمن آيات الله، لذا أسميه آية الله مكذباني..
يتصور أنه يكذب على الآخرين، لكنه في الحقيقة يكذب على نفسه ويصدقها ليكذب عليك جيداً.
يمشي لينسى، قد تصادفه في أي شارع على قدميه، يمسح اللحظة الخانقة إلى جانب الكولستيرول، لا يعود إلى بيته إلا بعد أن يهدأ الصخب لينام.
يمشي حتى لا يجلس مع روحه ويكتشفها، يصعب عليه أن يرى نفسه على حقيقتها أو يعريها أمامه، لذا يعيش هائماً في الشوارع والمقاهي، ولولا أنه يريد أن يلوح بذراعيه لجماهيره لكان آخر واحد يخرج من المقهى.
يكاد يوزع عليهم فانلات مكتوباً عليها : إلى اللقاء.
لا لون له، مثل الماء تماماً، حتى الوطنية عنده ماء، أول واحد يتصدى لحل المشاكل ولا يفعل شيئاً، مناضل حنجرة من الطراز الرفيع.
لم يحمل بندقية في حياته، ولا يعرف صوت الطلقة، ولا وجع الخسارة، لم يسهر على أعصابه في انتظار عملية، يقبض النتائج على كرسيه في المقهى، وينطلق بالصوت العالي في كل مكان.
أبو شندي يصمت ثم يحرك يده بلا مبالاة : نحن فعلنا، وهو تاجر بنا جيداً..
لكن بما أنه قد يفوتك في الكذب نوبة صدق أحياناً، ربما، أقول ربما تكون له جملة واحدة صحيحة ينطق بها وينظف بها ماضيه..
جملة واحدة يا أبو شندي تعيد لك الحياة وتنقلك إلى شواطئها مرة أخرى، وأنت في عرض كلمة واحدة تدفع الدماء في شرايينك.
على الجمر ينتظر ليتاكد إن كان بالفعل يستطيع أن يعود إلى الأرض المحتلة، أو يسافر إلى أية بقعة أخرى على وجه الأرض بدلاً من قفاها، ليفك الحصار الذي فرضته عليه إسرائيل ووافقت عليه قيادته.
مخنوق يريد أن يحصل على تذكرة سفر لأي موطىء.
على القلق ينتظر، يكاد يبيض، يفكر أن يقوم من مقعده، ينتظره على باب المقهى حتى لا يستوقفه أحدهم ويأخذه من يده فينسى ويمضي.
وجورج وسوف يصيح في قلب المقهى..(اتأخرت كتير يا حبيبي اتأخرت كتير).
تخطفه الأغنية.
نعم، فلينتظره على باب المقهى.
قد تقطع طريقه نعيمة التي نافحها طويلاً عن النضال وقص عليها بعض قصصه، ستسأله بلهفة سؤالها الحارق المعتاد :
– هل عرفت أخباراً عن أخي يا أستاذ بريجنيف.
أخوها الذي أحبها وأحبته، حن عليها وحنت عليه، أخذ الطريق بالبحر إلى فرنسا ثم إلى ألمانيا، حرق كما يقولون إلى هناك وأبقى حرقته.
يقولون إنه في ألمانيا ولا تعرف إن كان حياً أم ميتاً.
سيقول لها كالمعتاد، كأنه يقول لأول مرة :
– اتصلت بالجماعة في ألمانيا، وهم يبحثون عنه، وسيبلغونني عندما يعثرون عليه، اطمئني.
– أنا قلقة عليه، ليس هناك خبر واحد عنه، خائفة، ربما أصابه مكروه.
يربت عليها :
– لا تقلقي، قلت لك، ولا تنسي أن ألمانيا أكبر من تونس بكثير . وجهها القلق سينبسط قليلاً لتسأله :
– ما هي أخبار فلسطين يا أستاذ بريجنيف؟
يضحك : لا تقلقي، الثورة لن تنام.
وأبوشندي يكاد يموت من القلق، ومن ألعاب بريجنيف التي لا تنتهي، لكنه يحب نعيمة ويربت دائماً على قلقها.
وبريجنيف سيكمل، من المؤكد أنه سوف يكمل ويقول باطمئنان زعيم في المنفى :
– لا نقلق على فلسطين وأمثالك معها يا أستاذة نعيمة.
يمسكها من كتفها، وبحرقة رجل قارب السبعين ولم يفقد شهوته بعد يهزها :
– أنت مناضلة يا نعيمة.
‘ روائي من مصر، وهذا من رواية ” تصدر قريباً