«باردو» لأليخاندرو غونزاليث إنياريتو: الكثير من جلد الذات والكثير من الإبداع

نسرين سيد أحمد
حجم الخط
0

‏البندقية ـ «القدس العربي»: في أحد مشاهد فيلم «باردو» للمخرج المكسيكي أليخاندرو إنياريتو، المشارك في المسابقة الرسمية في مهرجان ‏البندقية السينمائي (31 أغسطس/ آب إلى 10 سبتمبر/أيلول) نرى فيما يشبه الحلم أو هلاوس اليقظة، رجلا، هو الشخصية المحورية في الفيلم، يحمل كيساّ مليئا بالماء وبعض سمكات الزينة. نسمع في الخلفية صوت رسالة مسجلة من مترو لوس أنجليس. بطريقة أو أخرى ينثقب الكيس وتسقط الأسماك على الأرض، وتنفق لخروجها من موطنها وابتعادها عن الماء. ربما نجد في هذه الصورة مشهدا كاشفا في الفيلم وموجزا لأحداثه، أو بصورة أكثر دقة، موجزا لمخاوف شخصيته الرئيسية ومخاوفها الوجودية
في «باردو» يقدم إنياريتو أكثر أفلامه شخصية وأكثرها انتقادا للذات، وأكثرها وعيا بالذات كمخرج ومبدع. تحمل الشخصية المحورية في الفيلم الكثير من الشبه ونقاط التقاطع مع إنياريتو ذاته، بل يمكننا القول إن سيلفيريو غاما (دانيال خيمينيث كاتشو في أداء مميز) الشخصية الرئيسية في الفيلم، هو رؤية إنياريتو لذاته. سيلفيريو صحافي مكسيكي يحظى بشهرة واسعة، ثم تحول إلى عالم إخراج الوثائقيات، خاصة تلك التي تتناول الفقراء والمهمشين في المكسيك، الذين يحاولون العبور إلى جارتهم الثرية في الشمال، الولايات المتحدة، بحثا عن الرزق. يعود سيلفيريو إلى المكسيك، قبل أيام من تسلمه جائزة كبرى في مجال الصحافة والسينما الوثائقية في لوس أنجليس. ربما يحيلنا ذلك إلى التكريمات المتعددة لإنياريتو ذاته في الولايات المتحدة، وحصوله على جائزة الأوسكار.
في أحد مشاهد الفيلم نشاهد ابن سيلفيريو الصبي يرد على انتقاد أبيه له لأنه يتحدث الإنكليزية في المكسيك وليس الإسبانية، فيرد الصبي قائلا إن والده يصنع أفلاما عن الفقراء والمهمشين ولا يحيا حياتهم. وربما هذا هو انتقاد من إنياريتو لذاته، فهو يفوز بأكبر الجوائز في الولايات المتحدة، ويحيا حياة قد يراها البعض منفصلة تماما عن واقع الحياة في المكسيك، رغم نجاحه الكبير في الخارج، يرى سيلفيريو ذاته كتلك السمكة التي ابتعدت عن الماء الذي تألفه، فنفقت.
قد نسأل أنفسنا: أترانا نحب سيلفيريو؟ أترانا نتعاطف معه؟ ونجد أننا نتفهمه ونفهم دوافعه ونوازعه الداخلية، ونجد بالتالي أننا نتفهم إنياريتو ذاته ونتعاطف معه. نتفهم ذلك المخرج الذي جاء إلى العرض الجماهيري الأول للفيلم في ‏البندقية، في حُلة أنيقة واحتفاء جماهيري كبير، ليكشف لهذا الجمهور ذاته، مخاوفه الداخلية، وشعوره بالشك إزاء نجاحه وشعوره الملتبس إزاء بلاده المكسيك، وإزاء الولايات المتحدة. إنها لشجاعة كبرى أن يكشف المبدع ذاته أمام جمهوره.

يبدأ الفيلم بمشهد ميلاد، حيث نرى لوسيا زوجة سيلفيريو، في غرفة الولادة في المستشفى، تضع صبيا، لكن الوليد، في مزيج من الحلم والواقعية السحرية، فور خروجه من رحم أمه، يقرر أن الحياة لا تعجبه، وأنه يفضل العودة إلى رحم أمه ليبقى فيه. ربما يحاول إنياريتو أن يصور لنا صعوبة الحياة، رغم تصورنا أنه يحظى بالنجاح والشهرة.

لا يخفي الفيلم مشاعر سيلفيريو الملتبسة إزاء الولايات المتحدة، فهي بلد المهجر التي وجد فيها النجاح والشهرة، لكنها في الوقت ذاته لم تمنحه سوى تأشيرة دخول وإقامة ولم تمنحه جنسيتها.

لا يخفي الفيلم مشاعر سيلفيريو الملتبسة إزاء الولايات المتحدة، فهي بلد المهجر التي وجد فيها النجاح والشهرة، لكنها في الوقت ذاته لم تمنحه سوى تأشيرة دخول وإقامة ولم تمنحه جنسيتها. وهي في الوقت ذاته، تناصب بلده الأم العداء، بل إن الفيلم بجانب الواقعية السحرية فيه يعيد خلق الواقع، فيقدم لنا تاريخا خاضت فيه الولايات المتحدة حربا طويلة ضد المكسيك، ويقدم واقعا تحاول فيه أمازون شراء مساحات شاسعة من المكسيك. أما سيلفيريو فلا يجد وطنا يجد فيه الراحة، ففي المكسيك يراه الكثيرون صنيعة العدو وربيبه ومن أثرى، لوصف معاناة فقراء المكسيك الذين يعيش حياة تختلف تماما عن حياتهم. وفي الولايات المتحدة هو في بلد ليس بلده، كما يؤكد له ضابط الجوازات، لكنه بلد صنع نجاحه واحتفى به. وإن قلنا إن الأب هو الوطن، فإننا نكتشف أن سيلفيريو، هذا الصحافي والمخرج الشهير، يبحث عن رضا الأب. في مشهد من أحلام سيلفيريو نجد والده قادما لتهنئته بجائزته الكبرى، معربا له عن رضاه عنه. ونجد سيلفيريو، يستحيل إلى جسد طفل برأس رجل بالغ بينما يبدو الأب كعملاق لا يطاول قامته أحد. لا يزال سيلفيريو باحثا عن رضا الأب، الوطن، المكسيك، رغم نجاحه الكبير خارجها.
في «باردو» يقدم إنياريتو فيلما ممتدا، تقارب مدته نحو ثلاث ساعات، يمتزج فيها الشخصي، والعام، الواقع والحلم، التاريخ والوقت الراهن هو فيلم نطرب له في الكثير من الأحيان. بعد أن قدم مواطنه وصديقه ألفونسو كوارون فيلمه الشخصي الذاتي «روما» عن حي روما الراقي في ميكسيكو سيتي، حيث نشأ وترعرع، يقدم إنياريتو فيلما هو أقرب ما يكون إلى السيرة الذاتية. لكن الاختلاف في التناول بين الفيلمين كبير، فبينما قدم كوارون قصيدة حنين إلى الطفولة وإلى المدينة في «روما» قدم إنياريتو في «باردو» فيلما قريبا من روح وتناول فيلليني في «ثمانية ونصف». في «باردو» لا نجد سيلفيريو قانعا حقا بنجاحه أو فخورا حقا بذاته، بل أننا في أحد المشاهد نجده صامتا، كما لو أن الخرس انتابه، بينما يكيل له صحافي الانتقادات على الهواء، ويسخر منه أمام الجمهور. يبدو سيلفيريو متشككا دوما في ذاته. أتراه يشعر بأنه ليس أهلا لنجاحه؟ أتراه من داخله لا يشعر بأنه أنجز حقا ما يبقى وما يخلد في الذاكرة؟ لا يقدم إنياريتو في الفيلم احتفاء بالذات أو انتشاء بالإنجاز، بل يقدم جلدا للذات، وسخرية لاذعة منها، وتشككا في ما قدمه طوال مسيرته.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية