سواء كان مبعث السؤال الجهل، أو ادعاء البراءة، فإنه يظل مستحقاً للإجابة، فلماذا يعترض كثيرون على مشاركة، «تنسيقية القوى الديمقراطية» في مؤتمر باريس، الذي كان الغرض منه جمع الأموال لمساعدة الشعب السوداني؟
في الواقع فإن وجوه الاعتراض كثيرة لدرجة أنه لا يمكن لمقال واحد أن يسعها، لذلك سيركز هذا المقال على ثلاث نقاط فقط تتعلق بمكان المؤتمر والمشاركين فيه باسم الشعب السوداني، ثم خلاصاته، وأهمها ما تردد من حصول على مبالغ مليارية.
بالنسبة لمكان الانعقاد فهو باريس عاصمة فرنسا، التي كان رئيسها أكد قبل أيام في ذكرى المجازر الرواندية، ما سبق له أن ذكره حول دور المجموعة الغربية، خاصة فرنسا، المتواطئ، وكيف أنه كان بالإمكان، لولا تضارب المصالح، منعها والحفاظ على حياة أكثر من مليون شخص. مجازر التطهير العرقي الرواندية ليست بعيدة عن الشأن السوداني، فنذكر أن فرنسا والتجمع الغربي من خلفها كانوا يبررون تعاطفهم مع مسألة دارفور بتذكر تلك الأحداث، وبالقول إنه يجب عدم السماح بتكرار المأساة. لم يكن يخطر ببال عامة المتعاطفين آنذاك، أن هذا الغرب الإنساني هو الذي أشعل الأزمة العرقية في ذلك البلد وفي غيره، وأن جذور أغلب النزاعات العرقية، إنما تعود لزمن الاستعمار وسياساته الهادفة لحصر الدول الافريقية في نطاق الفشل والعوز.
القارة الأوروبية، تبحث اليوم لنفسها عن منافذ تنقذها من التراجع الاقتصادي ومشكلة الديون، ولا يمكنها أن تقدم بشكل مجاني أي معونات، وإن فعلت ذلك، فيعني أنها ستكسب شيئاً من ورائه
تاريخ فرنسا الاستعماري الحافل بالجرائم والمجازر والاستغلال، الذي لا ينظر إليه حتى من حظي بقدر من الاطلاع من الفرنسيين بافتخار، لا يجعل أي أحد يأخذ حديث باريس عن حرصها على مصلحة الشعوب الافريقية على محمل الجد. الأمر لا يتعلق بالماضي فقط، وإنما هو سلوك مستمر حتى اليوم، من خلال الطريقة التي تتعامل بها «عاصمة النور» مع البلدان الافريقية والمستعمرات السابقة. مؤخراً رأينا كيف حاول الرئيس ماكرون بعناد كبير إعادة صديقه، رئيس النيجر السابق محمد بازوم إلى الحكم، عن طريق التهديد والتلويح بالحرب وتحريض الجيران، من أجل تفعيل مقاطعة شاملة، كانت فرنسا تسعى بشتى الطرق لاستعادة النظام، الذي كان يتقاسم معها موارد البلاد، زاعمة أنها تفعل ذلك لأجل عيون الديمقراطية. كان ذلك المبرر أقرب لنكتة، حيث يدرك الجميع، بالذات في هذه المنطقة، أن فرنسا كانت على مرّ تاريخها تتعامل مع «الشرعية» وتعرفها وفق ما يتحقق لها من مصالح، فتدعم انقلابات هنا وتغض الطرف عن تغيير دستوري هناك، طالما كان الحكم بأيدي أصدقائها وحلفائها. أما حينما يأتي قادة جدد ليعلنوا إعادة تقييم العلاقة مع باريس، أو البحث عن علاقات متوازنة مبنية على الاحترام وليس الوصاية، فإنهم يعدون بالنسبة لها قادة غير شرعيين.
النقطة الثانية تتعلق بالجهة المدعوة، وهي «تنسيقية القوى الديمقراطية». في الحقيقة فإن هذه التسمية الخادعة تذكرني بتسمية «تجمع المهنيين السودانيين»، التي ظهرت إبان الحراك، الذي قاد لإسقاط الرئيس عمر البشير، مثلما كانت تسمية تجمع المهنيين توحي بشكل مضلل بأن هذا الجسم يعبر عن جميع المهنيين، أي الموظفين والعاملين والخبراء، فإن تنسيقية القوى الديمقراطية، «تقدم»، كان اسمها الجميل يوحي بأنها تجمع حقيقي يتحدث باسم جميع الأحزاب وجماعات المجتمع المدني والناشطين المؤمنين بالديمقراطية في البلاد. «تقدم»، التي هي في أصلها لافتة جديدة لقوى الحرية والتغيير، «قحت»، التي مثلت، بشكل حصري، المدنيين في النصف الأول من الفترة الانتقالية، لم تقصِ من تنسيقيتها تلك الجماعات المختلفة سياسياً معها، أو تلك، التي يمكن أن تتهم بموالاة النظام السابق فقط، بل إن ماعونها لم يتسع حتى لرفاق الأمس، الذين كانوا جزءاً من ناديها، قبل أن ينشقوا عنها ليدعموا قرارات رئيس مجلس السيادة في أكتوبر 2021. كان أولئك المنشقون يعتبرون أن النظام السياسي، بات لا يعبر عما كان متفقاً عليه من تقاسم سلطة بين المدنيين والعسكريين، ولا حتى عن تقاسم سلطة مع «قحت»، بقدر ما تحول لاستئثار فئة قليلة من السياسيين بكل شيء. في تبريرهم لدعم قرارات «تصحيح المسار» اعتبر أولئك المنشقون، الذين كان منهم معارضون سابقون للبشير، وقادة لحركات مسلحة، أنه لم يكن هناك حل آخر سوى إعادة ترتيب المشهد، حيث كان مسؤولو السلطة المدنية يتعمدون احتكار السلطة وتقاسمها بين أحزابهم دون اعتبار لبقية الشركاء.
ذكرنا ذلك للقول إن «تقدم» ومن خلفها «قحت»، لم تعد تستطيع القول، كما كانت تزعم، أيضاً بمبالغة، في بداية الانتقال، إنها تمثل جميع قوى الثورة، بل إنه لا يمكنها حتى أن تزعم بأنها تتحدث باسم المعارضين السابقين أو اليساريين السودانيين، خاصة أنها باتت تتلقى النقد الأكبر اليوم من مجموعات يسارية كانت متحالفة سابقاً معها. هذه النقطة مهمة، لأنها تجعل حديث «تقدم» باسم الشعب السوداني ومشاركتها في مؤتمرات واجتماعات دولية بشكل واثق وكأنها مفوضة من قبل الجماهير محل تندر وسخرية. من المفارقة أن يتحدث باسم الشعب سياسي لا يجرؤ على طرح مشروعه ومواجهة الجماهير في داخل السودان، أو حتى في أي تجمع للسودانيين بالخارج. يمكن أن يقول قائل إن كل ذلك غير مهم، بل المهم هو الاعتراف الذي تحظى به هذه المجموعة على المستوى الدولي، وهو ما يكسب مشاركاتها موضوعية وشرعية. مسألة الاعتراف هذه شائكة، لكن يمكن الإقرار بأن هناك رغبة دولية وإقليمية في أن تعود أسماء بعينها لتسيطر على السلطة في السودان، وهو ما يتم الضغط تجاهه بوسائل متعددة، من أهمها تمويل الحرب ونزع الشرعية عن الجيش السوداني ومساواته بالميليشيا متعددة الجنسيات. هذا يجعلنا في مواجهة سؤال مهم عن سبب الإصرار الغربي على بضعة أسماء نجدها في كل محفل سياسي بواجهات مختلفة، فهل يعود ذلك لكونها تملك شرعية حقيقية، أم أن السبب هو كونها الأقرب لتحقيق المصالح الدولية في السودان؟ يجب أن نتذكر هنا أن القاعدة التي تقول إن من يملك الرضا الغربي يملك كل شيء هي قاعدة خادعة، ففرنسا لم تستطع كما ذكرنا فرض محمد بازوم في النيجر، كما أن التاريخ الحديث يخبرنا كيف يتخلى الغرب ببساطة عن أخلص عملائه، إذا شعر بأن تكلفة إبقائهم عالية.
أما النقطة الأخيرة المتعلقة بخلاصات المؤتمر فنكتفي بالقول إن الحديث عن الحصول على مليار أو ملياري دولار للدعم الإنساني، هو حديث غير دقيق. ما حصل يندرج في إطار تقديم نوايا طيبة وتعهدات مفتوحة مشابهة للتعهدات الفارغة، التي ظل السودان يحصل عليها، حتى قبل سقوط البشير.
قبل أن يحدثنا المتحمسون للمؤتمر عن الأموال المتدفقة الجديدة، كنا نود منهم إخبارنا عن مصير التعهدات القديمة في مؤتمر باريس الأول، الذي عقد قبل ثلاث سنوات، وغيره من تعهدات «أصدقاء السودان»، التي تم تقديمها لما كانت «قحت»، التي تفتخر بعلاقاتها الواسعة بالغربيين، على رأس السلطة. إن أي متابع للأزمة، التي تمر بها القارة الأوروبية، يدرك أن هذه القارة، التي تبحث اليوم لنفسها عن منافذ تنقذها من التراجع الاقتصادي ومشكلة الديون، لا يمكنها أن تقدم بشكل مجاني أي معونات ذات شأن، فإن هي فعلت ذلك، فذلك يعني أنها ستكسب شيئاً من ورائه. «الحداية»، أي الطير الجارح، لا تقدم الكتاكيت، كما يقول المثل المصري.
كاتب سوداني