سؤال لأهل القانون الأكثر علماً والأكثر دراية في عوالم الخداع والتدليس والتلفيق والتزييف، خاصة أولئك الذين تخصصوا في القانون الدولي وحقوق الإنسان: هل عقوبة من ينكر الإبادة الجماعية كفاعلها؟ وما هي عقوبة الساسة الذين يتغاضون ويسهلون ويدعمون ويساندون ويمولون الإبادة الجماعية؟ أسئلة أبحث لها عن أجوبة حتى أرسلها لبعض الذين رأينا حضورهم في بازار الإبادة، فيصمون حرباً ما بالإبادة كحرب أوكرانيا مثلاً، ويحجبون ذاك الوصف عن حربٍ أخرى.
عدد أعضاء جوقة كهذه ليس كبيراً، لكنهم مؤثرون ومتنفذون، يرتدون الياقات الحريرية والبدلات الثمينة ويتسلحون بابتسامة صفراء وملامح خدّاعة، ويتصنعون الهدوء والتوازن، فتحسب أنك أمام ملائكة وثقاة متمّرسون. إنهم خبراء في إدارة الكذب وحبك الخداع وإتقان التضليل، تراهم في مؤتمرات صحافية يقولون: ما يجري في غزة ليس إبادة جماعية، وأن المعطيات لديهم لا تفيد بأن إسرائيل تنتهك القانون الدولي؟ يا سلام.
موقف شغلني كثيراً حتى اضطررت للعودة إلى أدبيات الأمم المتحدة للتحقق من الأمر، وفق اتفاقية منع الإبادة الجماعية لعام 1948، التي صادقت عليها دول هؤلاء المخادعين. وتعرِّف الإبادة الجماعية وفق الأفعال التالية، والمرتكبة بقصد التدمير الكلّي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية:
الحقوق لا تسقط بالتقادم، وحصيلة 76 عاماً بعد النكبة تقوم على حقيقة أن الكبار ماتوا، لكن الصغار ازدادوا تشبثاً بالأرض والرسالة والهدف: حرية فلسطين واستقلالها
(أ) قتل أعضاء من تلك الجماعة؛
(ب) إلحاق أذى بدني أو معنوي جسيم بأعضاء من الجماعة؛
(ج) إخضاع الجماعة، عمداً، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً؛
(د) فرض تدابير تهدف إلى الحيلولة دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة؛
(هـ) نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى.
وتنص المادة 3 أيضا على المعاقبة على الأفعال التالية:
(أ) التآمر على ارتكاب الإبادة الجماعية؛
(ب) التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية؛
(ج) محاولة ارتكاب الإبادة الجماعية؛
(د) الاشتراك في الإبادة الجماعية.
وقد اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة اتفاقيّة منع جريمة الإبادة الجماعية في 9 كانون الأول/ ديسمبر 1948 (قرار الجمعية العامة 260 – ألف (د-3)، ودخلت حيّز النفاذ سنة 1951. وحتى شهر حزيران/ يونيو 2015، صادقت 146 دولة على الاتفاقيّة. ومع ذلك، تسري أحكام الاتفاقية حتى على الدول التي لم تصادق عليها، وذلك بموجب حكم أصدرته محكمة العدل الدولية اعتبر اتفاقيّة منع جريمة الإبادة دونت قانونا دوليا عرفيا (الفتوى القانونية في 28 أيار/ مايو 1951)، الذي يجعل الاتفاقية ملزمة لجميع الدول. وقد تعزز هذا الأمر بتقرير الأمين العام للأمم المتحدة الخاص بتأسيس المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة، الذي ذكر فيه أن الاتفاقية شكلت جزءا من القانون العرفي (التقرير رقم S/ 25704 المؤرخ 3 مايو 1993. وقد أعاد مجلس الأمن تأكيد ذلك حيث اعتمد التقرير في قراره رقم 827 (5 مايو 1993). ويرد أيضا تعريف للإبادة الجماعية في العبارات ذاتها في المادة 6 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، الذي اعتمد في روما في تموز/ يوليو 1998. ويشمل اختصاص المحكمة الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب والإبادة الجماعية. وتعتبر جريمة الإبادة الجماعية مختلفة عن مفاهيم المذابح الجماعية وأعمال الاضطهاد والهجمات المتعمدة ضد المدنيين، التي توصف بأنها جرائم ضد الإنسانية.
أمام هذا التوصيف القاطع والصريح، بل الفاقع من حيث التعاريف والمحددات يعود السؤال الذهبي ليطرح نفسه: ما هو حكم أولئك الذين ينكرون الإبادة الجماعية، أفراداً كانوا أم جماعة من مسؤولين وحكومات وزعماء وشخصيات اعتبارية وكتّاب وناشطين وصحافيين وساسة ومهنيين وأكاديميين والقائمة تطول؟
أربعون ألف شهيد في غزة معظمهم من النساء والأطفال، وتدمير 95% من المباني والمشافي والعيادات والكنائس والمساجد والجامعات والمدارس والبلديات والملاعب والحدائق إلخ، وتهجير 2 مليون فلسطيني وإفناء كامل مقومات حياتهم وما زال البعض يقول: ما زلنا لم نرّ ما يفيد بإقدام إسرائيل على ارتكاب إبادة جماعية؟ الدبابات والسفن الحربية والطائرات والراجمات والمدافع، تدك رفح البطلة من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها لغربها وما زال هؤلاء يقولون: لسنا متأكدين من اتخاذ نتنياهو قرارا نهائيا باجتياح رفح، أناس يعتقلون ويعذبون ويجوعون ويهانون، ويقول الجمع ذاته: ليس لدينا ما يفيد بأن إسرائيل تنتهك حقوق الإنسان. إن إنكار المذابح والدمار والقتل والتخريب والتهجير والإبادة بحق الفلسطينيين، لا يعبر عن صداقة الأفاقين للمحتل، وإنما دليل على إصرارهم على توريط البشرية بالمزيد من النكبات والكراهية والتقتيل، وإمعاناً منهم في رفض مصارحة إسرائيل بأن دوام الحال من المحال وأن الأيام دول. إن إقدام البعض على تزويد إسرائيل بالسلاح أو رفضه لمنع ذلك السلاح عنها، لن يخدم العدالة وإنما سيعزز حالة الحرب والاحتراب المستدامين، ويقود نحو المزيد من سفك الدماء والمواجهات. الحريصون على الأمن والأمان لا يستطيعون أن يحاججوا العقل بقفازات ملاكم، ولا سيف مبارز، وإنما بحكمة العاقل الذي يعرف أن الحقوق لا تسقط بالتقادم، وأن حصيلة 76 عاماً بعد النكبة تقوم على حقيقة أن الكبار قد ماتوا، لكن الصغار ازدادوا تشبثاً بالأرض والرسالة والهدف: حرية فلسطين واستقلالها، فهل تصل الرسالة لجمهور الأفاقين المنكرين؟ ننتظر ونرى.
كاتب فلسطيني
[email protected]