لم يترك النظام السوري بتركيبته الأمنية ونهجه البوليسي وسيلة أو أداة إلا وأشهرها بوجه السوريين انتقاما لتبنيهم الثورة وسلوك طريقها، فاستخدم الطائرة والمدفع، ضربهم بالأسلحة الموجهة والبراميل الغبية المدمرة، حاصرهم، قطع عنهم الزاد، دمر البنى التحتية، أجبرهم على صعود باصات التهجير، نسف خيامهم في العراء، فالأسد لم يتعب من معاقبة الشعب السوري، وما إن سكنت فوهات مدافعه بعض الشيء، عاد لإشهار أسلحة التهريب والتجريد في وجه من صالحه قبل من فضل التهجير على مصافحة قاتل أبيه، من خلال استخدام قانون الغاب وحكم القوي على الضعيف، فأخترع قوانين لسلخ المواطن السوري عن وطنه، وإجراءات تعسفية تستحوذ على أملاكهم وأصولهم، وهي سياسات يرى فيها الخبراء تلبية لغايات إيران، وتشفي صدور القابعين في دمشق.
فقد أكدت كل من «هيومن رايتس ووتش» والشبكة السورية لحقوق الإنسان، قيام النظام السوري عبر ذراعه الاقتصادية وزارة المالية، باستهداف مئات السوريين وعائلاتهم منذ مطلع عام 2024 في مدينة زاكية جنوب دمشق، من خلال تجميد غير قانوني للأصول، في سياسة وصفتها المصادر الحقوقية بسياسة «العقاب الجماعي» وانتهاك حقوق الملكية للسوريين.
تستند هذه القرارات إلى مرسوم صدر عام 2012 يخوّل وزارة المالية تجميد أصول الأفراد على ذمة التحقيق للاشتباه في الإرهاب بموجب قانون مكافحة الإرهاب الفضفاض في سوريا، حتى لو لم يُتهموا بارتكاب جريمة.
قال آدم كوغل، نائب مديرة الشرق الأوسط في «هيومن رايتس ووتش»: «يبدو أن الطبيعة العشوائية لهذا التجميد الجماعي للأصول في زاكية تعكس استراتيجية أوسع للعقاب الجماعي ضد المجتمعات المحلية في المناطق التي تم استعادتها. استخدام قوانين مكافحة الإرهاب لتبرير تجميد الأصول والمصادرة غير القانونية هي سياسة متعمدة تهدف إلى الحفاظ على مناخ الخوف والقمع في مناطق المعارضة السابقة».
من جانبها، كشفت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، أنَّ ما لا يقل عن 817 مدنياً صدرت ضدهم قرارات جماعية بالحجز الاحتياطي من قبل النظام السوري في بلدة زاكية في محافظة ريف دمشق منذ مطلع عام 2024.
عقاب جماعي
وثَّق التقرير الحقوقي الذي حصلت «القدس العربي» على نسخة منه، ما لا يقل عن 13 قراراً جماعياً بالحجز الاحتياطي شملت ما لا يقل عن 817 مدنياً، بينهم 273 سيدة، و12 طفلاً صدرت عن وزارة المالية لدى النظام في محافظة ريف دمشق منذ كانون الثاني/يناير 2024 وحتى حزيران/يونيو 2024.
وكان شهر شباط /فبراير2024 الأعلى من حيث عدد قرارات الحجز الاحتياطي التي أصدرتها وزارة المالية لدى النظام السوري، والأعلى من حيث حصيلة المدنيين الذين استهدفوا بتلك القرارات. وتضمَّنت هذه القرارات لوائح بأسماء لأشخاصٍ مختفين قسرياً في مراكز الاحتجاز التابعة لقوات النظام، ومفقودين، وأشخاصٍ أجروا تسويات لأوضاعهم الأمنية، وآخرين ملاحقين من قبل الأجهزة الأمنية، بمن فيهم المهجرون والنشطاء.
وأظهرت المخططات الصادرة عن الشبكة السورية لحقوق الإنسان، أنَّ الفئة الأوسع التي استهدفها النظام بقرارات الحجز الاحتياطي الصادرة عنه في بلدة زاكية في محافظة ريف دمشق هم ممن أجروا تسويات لأوضاعهم الأمنية لدى اللجنة العسكرية والأمنية التي شكَّلها النظام عقب سيطرته على بلدة زاكية في كانون الثاني/يناير 2017 مما يؤكد أنَّ النظام يتبع سياسة عقاب ممتدة مع أهالي البلدة، ثم المشردون قسرياً من مهجرين داخلياً أو لاجئين خارج سوريا.
مؤكداً أنَّ وزارة المالية أو أي جهة رسمية أخرى تابعة للنظام، لم تقم بإبلاغ المستهدفين الذين طالتهم قرارات الحجز بشكل رسمي، وعلم معظم المستهدفين بها عبر علاقاتهم مع العاملين في دوائر السجل العقاري والبلدية، وآخرون علموا بها بعد انتشار بعض هذه الوثائق على وسائل التواصل الاجتماعي، أو عن طريق الصدفة أثناء إجرائهم لمعاملات عقارية في مديرية السجل العقاري في محافظة ريف دمشق.
استنتج التقرير أنَّ قرارات الحجز الاحتياطي التي أصدرتها وزارة المالية ضد أهالي بلدة زاكية في محافظة ريف دمشق لا تستند في الأصل إلى أية معايير قضائية، وإنَّما جاءت عبر قرارات أمنية، ما يؤكد أنَّ الأجهزة الأمنية تتحكم في كافة مفاصل مؤسسات الدولة وتسخرها وفق مصالحها. وأنَّ القانون المتعلق بإدارة واستثمار الأموال المنقولة وغير المنقولة المصادرة بموجب حكم قضائي مبرم أكثر التشريعات سوءاً في ناحية سلب الملكية.
مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان فضل عبد الغني أكد خلال تصريحات خاصة أدلى بها لـ«القدس العربي» انتهاك النظام السوري عبر مؤسساته الرسمية للعهد الدولي وكم هائل من الحقوق المدنية للسوريين طيلة السنوات السابقة، مشيرا إلى متابعة ومراقبة أعمال حكومة دمشق منذ أمد بعيد، حيث تم إطلاع الأمم المتحدة المختصة بهذا المجال بالانتهاكات الجسيمة الممارسة بحق الشعب من قبل النظام الحاكم في البلاد.
عبد الغني، أشار كذلك إلى وصول انتهاكات النظام السوري إلى تصنيفها كجرائم ضد الإنسانية، حيث باتت هذه الجرائم كمسار لسياسة دولة بحق شعب، من خلال التعذيب القسري والإخفاء، والاعتقالات التعسفية وملاحقة الشخصيات السياسية المعارضة، وصولا إلى منع الأحزاب وغيرها العشرات من الانتهاكات التي باتت تشكل هاجسا مرعبا لكل سوري، وبالتالي فإن النظام قد انتهك العهد الدولي الذي كان قد صادق عليه سابقا.
والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، هي معاهدة متعَدّدة الأطراف اعتمدتها الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة في القرار 2200 وذلك في 16 كانون الثاني/ديسمبر1966 تلزم المعاهدة أطرافها على احترامِ الحقوق المدنية والسياسية للأفرادِ، ويشمل ذلك حق الحياة، حرية الدين والمعتقد، حرية التعبير عن الرأي، حرية التجمع، والحقوق الانتخابية، والحق في المحاكمة العادلة.
تجارة الأزمات
تُعتبر مسألة استملاك النظام لمنازل السوريين بطرق غير قانونية من أخطر القضايا التي تترتب عليها عواقب وخيمة على المستوى الفردي والمجتمعي والوطني، ومنها على مستوى الأفراد، إذ يؤدي انتزاع أملاك السوريين بقوة السلطة بأشكال غير قانونية إلى تهجير القاطنين الأصليين وحرمانهم من حقهم في السكن والملكية.
بالإضافة إلى الخسائر المادية والمعنوية الفادحة يتسبب هذا الاستيلاء في خسائر مادية كبيرة للمواطنين الذين يفقدون ممتلكاتهم وأصولهم، بالإضافة إلى خسائر معنوية كبيرة تتمثل في فقدان المأوى والأمان والاستقرار.
وكذلك تدمير النسيج الاجتماعي بسبب تهجير السكان وتغيير التركيبة السكانية للمناطق المستهدفة، وبالتالي تحقيق تغيير ديموغرافي بالقوة.
الباحث في مركز الحوار السوري أحمد قربي، قال من جانبه لـ «القدس العربي»: النظام السوري يسير وفق نهج ثابت، وهذا المنهج يعتمد على قيامه بخلق أزمة ومفاقمتها، ومن ثم يقوم بإنتاج حل لها يتوافق مع أهدافه التي تبناها إبان خلق المشكلة، وبما يخص مصادرة أصول السوريين، فإن الأسد يسير وفق ذات المعادلة، من خلال إصدار قرارات بمصادرة أملاك وأصول السوريين، بهدف تشكيل جبهة ضغط ضد الدول الحاضنة للاجئين السوريين، خاصة مع سيل الضغوط المتزايد على اللاجئين بغية إعادتهم أو ترحيلهم إلى سوريا، فدمشق تريد من هذه الجبهة، خلق بازار سياسي مع تلك الدولة، من خلال تجميد الأموال والأملاك وثم تقديم عرضه لتلك الدول مقابل قيامه بتعديل قراراته حول حجز الأصول، وتحصيل مقابل يلبي مطالب الأسد بطريقة أو أخرى.
وأشار الباحث، أن أكثر الدول المستفيدة أو الداعمة لنهج الأسد في مصادرة أملاك السوريين هي إيران، فهي راعية التغيير الديموغرافي في سوريا، فيما لا تبدو روسيا داعمة لهذا النهج، إلا أن طهران لديها رغبة في تهجير أكبر قدر من السوريين بهدف خلق بيئة اجتماعية تلبي أهدافها من خلال تأسيس حاضنة لها في المجتمع السوري، مشيرا إلى خطورة هذا السلوك وتلك الإجراءات التي تقطع أهم صلة وصل بين المواطن السوري ووطنه.
نزع الوطن من المواطن
من جانبه، قال المحامي السوري عبد الناصر حوشان لـ «القدس العربي»: الأصل في الحجز الاحتياطي، أنه تدبير احترازي مؤقت يهدف إلى حفظ الحق المتنازع عليه من التصرّف أو التبديد أو التهريب، ولا يجوز وضعه إلا من قبل القضاء لما له من آثار على حق الملكية وحق التصرّف التملك وحق الانتفاع بثمرات وإيرادات الملك. وعليه فإن قرارات الحجز الاحتياطي الجماعية وعلى خلفية معارضة أصحاب الحقوق لنظام أسد غير دستورية وغير قانونية لأنها تأتي في سياق نزاع داخلي.
وتشكل نمط من أنماط سياسة عامة يتبعها النظام في انتهاكات حقوق الملكية كعقاب جماعي، وأداة من أدوات التغيير الديموغرافي التي تقوم على التهجير القسري للسكان، ومن ثم مصادرة ممتلكاتهم المنقولة وغير المنقولة أو الاستيلاء عليها دون وجه قانوني
وفي سوريا لا يوجد قضاء حر نزيه بسبب انتقاء القضاة على أساس الانتماء الحزبي والولاء التام للنظام ولا يوجد فصل للسلطات في ظل نظام الأسد وبالتالي فإن السلطة القضائية شريكة في هذه الجرائم
يحاول النظام السوري وفق حوشان، من خلال هذه الممارسات تكريس التغيير الديموغرافي عن طريق تجريد المعارضين من ملكياتهم المنقولة وغير المنقولة عبر عدة وسائل منها القوانين العقارية ومنها قرارات الحجز الاحتياطي الصادرة عن مكتب الأمن الوطني والضابطة العدلية وقرارات اللجان الأمنية وأحكام محاكم الإرهاب ومحاكم الميدان العسكرية.
وتختلف المصادرة عن الحجز الاحتياطي بأنها قرار قضائي، وهي عقوبة إضافية الى العقوبات الجنائية الأخرى وتقع على أموال ناتجة عن ارتكاب جريمة مثل الأموال الناتجة عن تهريب المخدرات أو صناعتها.
الأسد يخرق دستور نظامه
ينتهك النظام بمصادَرة أملاك السوريين حقوقهم كمواطنين، ويخرق القانون المدني السوري وقانون العقوبات السوري والدستور الذي أقرّه عام 2012 حيث تنص المادة 15 منه على أن: «الملكية الخاصة جماعية أو فردية مصانة، والمصادَرة العامة في الأموال ممنوعة، ولا تُنزَع الملكية الخاصة إلا للمنفعة العامة وبتعويض عادل وَفْق القانون».
كما ينصّ القانون المدني السوري، وفق مركز جسور للدراسات جاءت بعنوان «سياسة النظام في مصادَرة أملاك السوريين كيف تستفيد منها إيران؟» على أن لمالك الشيء في حدود القانون الحق في استعماله واستغلاله والتصرف به، ولا يجوز لأحد أن يحرم من ملكه إلا بالطريقة التي يقرها القانون بتعويض عادل، وحدّدت المادة 69 من قانون العقوبات السوري ما يمكن مصادرته من أشياء، سواء كانت مستعملة أثناء ارتكاب فعل جرمي معيَّن أم بوصفها من مستلزماته.
وأصدر النظام منذ عام 2011 أكثر من 21 قانوناً ومرسوماً تتكامل مع رؤيته ومشـاريعه في الاستيلاء علـى الأملاك العقارية للسوريين، وثَمَّة الكثير من المراسيم التي تصبّ في ذات الغرض قبل عام 2011 واستخدم حافظ الأسد بعضها في قمع معارضيه وتجريدهم من ممتلكاتهم وحقوقهم.
بالمحصّلة، إن سلوك النظام في الانتهاكات المتعمَّدة بترسانة من الأساليب القانونية ينبع عن حالة همجية وانتقامية لا تقيم أيّ اعتبار لتداعيات هذه الانتهاكات غير الدستورية وغير القانونية لحقوق السوريين، وما يؤكد أنّ النظام لا يقيم وزناً للقوانين والحقوق والدستور ويعتبر نفسه قادراً في أي لحظة على وضعها واختراقها وتطبيقها، من مبدأ أنه «فوق القانون والمحاسبة».