رئيس الوزراء الباكستاني السابق عمران خان دخل تاريخ البلد السياسي الحديث والمعاصر من زاوية فريدة، وبالتالي منفردة: ليس لأنه لم يكمل ولايته، فتلك كانت حال 18 رئيس حكومة لاقوا المصير ذاته قبله، بل لأنه كان الأوّل الذي أُقصي عن المنصب نتيجة تصويت بسحب الثقة في البرلمان. وإذا كان هذا الفارق بمثابة تنويع واحد على سلسلة مظاهر تؤكد غياب الاستقرار في الحياة السياسية، لأسباب شتى بالطبع؛ فإنه في الآن ذاته مؤشر جديد على اعتلال الديمقراطية الباكستانية من حيث النقصان بادئ ذي بدء، لأنّ التصويت على حجب الثقة استوجب تدخّل السلطة القضائية متمثلة في المحكمة العليا، التي أعادت إلى السلطة التشريعية صلاحية كانت السلطة التنفيذية قد عطلتها متمثلة في رئيس برلمان موالٍ لرئيس الحكومة رفض عقد الجلسة أساساً.
وفي أعقاب الإطاحة بحكومة خان نشرت مؤسسة “غالوب” استطلاعاً للرأي أفاد بأنّ 57% من المشاركين في الاستفتاء كانوا سعداء برحيل خان، مقابل43% في صفّ الساخطين؛ والفريق الأوّل أقام رأيه على أساس تقصير الحكومة في ميادين الاقتصاد والتضخم والغلاء وهبوط قيمة العملة المحلية، وأمّا الفريق الثاني فقد اعتنق رواية خان القائلة بأنّ الولايات المتحدة تآمرت عليه بسبب مواقفه الاستقلالية واعتمدت سيناريو “تغيير النظام” واستمالت بعض أعضاء حزبه من البرلمانيين الذين انشقوا عنه وصوتوا ضده في البرلمان. والمنطق السليم يمكن أن يقود إلى التصديق على أنّ مزيجاً من الموقفين يكمن في خلفية المصير الذي انتهى إليه لاعب الكريكيت السابق، الآتي إلى السياسة من خارج سلالاتها الحاكمة التقليدية التي تمتدّ من بوتو إلى آل شريف… العائلة التي ينحدر منها رئيس الوزراء البديل شهباز شريف.
ولأصحاب الرأي الأوّل أن يسوقوا عشرات الحجج ضدّ رئيس الوزراء السابق، ولهم أن يبدأوا من عبارته الشهيرة بأنه يفضّل الموت على التعامل مع صندوق النقد الدولي (الأمر الذي حنث فيه، بعد أشهر قلائل)؛ أو تعهده القاطع بعدم تأهيل أيّ من الساسة الفاسدين الذين باتت لوائح أسمائهم على كل شفة ولسان (وقد لجأ سريعاً إلى التعاون مع بعضهم، بل قرّب مَن كان بينهم على رأس اللائحة). أصحاب الرأي الثاني يمكن أن يساجلوا هكذا: أليس الرجل أوّل رئيس حكومة باكستاني يقول لا للإدارة الأمريكية، في ملفات مثل “الحملة على الإرهاب” واستهداف النشطاء عبر الطائرات المسيّرة؛ ويذكّر البيت الأبيض بأنّ الباكستان ليست عبداً عند أمريكا، إلى درجة أنّ مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون جنوب ووسط آسيا دونالد لو ألمح إلى تغيير النظام خلال محادثة غير رسمية مع دبلوماسي باكستاني سابق؟
استقطابان على هذه الشاكلة ليسا سوى صيغة تعكس ثنائيات تناقض أخرى من نوع التوتر بين المدنيين والعسكر، وبين التقليديين والحداثيين، وبين توترات الطبقة والمدينة والريف والجندر والمؤسسات الدستورية المختلفة، وما يترتب على هذا كلّه من اصطفافات سياسية واجتماعية ودينية وقبائلية وثقافية. والبلد لا يستأثر بهذا المشهد المضطرم، إذْ لعله سمة غالبة في الكثير من مجتمعات شرق آسيا، غير أنّ خصوصية الباكستان التاريخية والإثنية أو حتى اللسانية كانت عاملاً حاسماً في تصعيد قوّة نفوذ باتت الكبرى في البلد، أي ائتلاف مؤسسة الجيش والاستخبارات الذي يحكم ضمناً على نحو يتجاوز أحياناً الصيغة الشائعة حول الدولة العميقة.
خصوصية الباكستان التاريخية والإثنية أو حتى اللسانية كانت عاملاً حاسماً في تصعيد قوّة نفوذ باتت الكبرى في البلد، أي ائتلاف مؤسسة الجيش والاستخبارات الذي يحكم ضمناً على نحو يتجاوز أحياناً الصيغة الشائعة حول الدولة العميقة
وكان انقلاب الجنرال برويز مشرف أواخر عام 1999 بمثابة أحدث التمرينات على تدخّل الجيش السافر في الحياة السياسية، ضمن تزامن غير مفاجئ مع هزّة 11/9 والغزو الأمريكي لأفغانستان، ومهزلة الانتخابات التشريعية خريف العام التالي، والتصالح المذهل مع المقاربة الجيو – ستراتيجية التي اعتمدتها الولايات المتحدة بصدد التعامل مع ذلك الشطر الفريد من شبه القارّة الهندية، حيث تمتزج التجارب الديمقراطية بالتجارب النووية، والنزاع الهندي – الباكستاني بالنزاعات الإثنية والدينية والثقافية. وقد يقتضي الإنصاف التذكير بأنّ الجنرال مشرّف كان قد تعشّى برئيس الوزراء نواز شريف، بعد أن ظنّ الأخير أنه يستطيع تناول العسكر لقمة سائغة على مائدة الغداء. ولقد تبيّن سريعاً أنّ الجيش منحاز إلى العشاء العسكري أكثر من الغداء المدني، وأنّ المؤسسة الأمنية (هذه التي اعتمد عليها شريف في قمع الصحافة والأحزاب المعارضة والشارع العريض، وكانت بمثابة سيف مسلط على عنق المؤسسات المدنية)، ليست قادرة على تنفيذ مناورة مضادّة لهجوم الجيش. تلك تقنيات تنفيذ سلسة، بل إنّ جدواها كانت مدهشة بالفعل لأنّ طلقة واحدة لم تُطلق دفاعاً عن حكومة شريف.
من جانب آخر لا يقلّ أهمية، كانت البساطة في مفردات “السياسة” التي استخدمها العسكر ناجمة عن حقيقة كراهية الشارع لحكومة شريف، إلى جانب عشرات الحقائق الأخرى ذات الصلة بالفساد والتقصير والتسلّط والمحسوبية العائلية والقبائلية، فضلاً عن حقيقة كبرى حديثة العهد هي تعريض المؤسسة العسكرية (وربما الوجدان الباكستاني القومي والشعبوي بصفة عامّة) إلى مهانة انسحاب الجيش والميليشيات من سفوح هيملايا لصالح الهند… تحت ضغط أمريكي! وكان طبيعياً أن تهيمن البساطة ذاتها على خطاب مشرّف حين استتبع الانقلاب العسكري بما لزمه من تتمات مدنية ودستورية: حلّ البرلمان ومجلس الشيوخ والمجالس المحلية، إعفاء الرئيس محمد رفيق ترار من مهامّه (بطريقة تخلو تماماً من اللياقة واللباقة!)، وتنصيب الجنرال نفسه رئيساً وقائداً للجيش وزعيماً مطلق الصلاحيات، قبل استفتاء الشعب على بقائه رئيساً للبلاد بصلاحيات خرافية، وفتح صناديق الاقتراع أمام تزوير جديد لإرادة الشعب.
ذلك مشهد لم ينطوِ على غياب “السياسة” عن مجتمع يبسّط العسكر علاقاته ومعادلاته وتوازناته، فمن المعروف أنّ لعبة تبادل السلطة بين “حزب الشعب” وبنازير بوتو من جهة، و”حزب الرابطة الإسلامية” ونواز شريف من جهة ثانية، كانت قد تحوّلت إلى لعبة كراسٍ موسيقية: لا تذهب الأولى إلا لكي يأتي الثاني، ثم لا يذهب الثاني إلا لكي تأتي الأولى! شروط الفساد والتردي الاقتصادي وسوء المعيشة هي التي كانت تمنح شريف فرصة الانقضاض على حكومة بوتو، والشروط ذاتها تماماً كانت تمنح الأخيرة فرصة تقويض حكومة الأوّل، وهكذا…
بهذا المعنى كان قدوم خان من مضمار الكريكيت إلى معترك السياسة في سنة 1996 بمثابة اختراق للمعادلة، بدأ مع صعود حزبه “حركة الإنصاف” في انتخابات 2011، ثمّ تكلل في سنة 2018 مع نجاحه في تشكيل تحالف حاكم ضمن له موقع رئاسة الحكومة؛ في غمرة قبول لا يخفى من المؤسستين العسكرية والأمنية. ورغم أنّ حكومته أدخلت إصلاحات تلبي حاجة ماسة في برامج الرعاية الاجتماعية والبيئة، وكانت خططه في مواجهة جائحة كوفيد-19 مضرب مثل في الكفاءة؛ إلا أنه، في المقابل، ضيّق على الحريات المدنية والصحافية، وزعم الاستقلال عن السياسة الأمريكية ولكنه في الآن ذاته تقرّب من روسيا والصين وسكت عن مظالم أقلية الإيغور.
وليس من الواضح أنّ قائد الجيش الجنرال قمر جاويد باجوا ينتمي اليوم إلى صفّ السعداء بقرار البرلمان الإطاحة بحكومة خان أو الساخطين عليه، غير أنّ الأرجح منطقياً أنّ الجنرالات الذين ساندوا لاعب الكريكت المنقلب إلى سياسي شعبي وشعبوي، انفضوا عنه حين باتت مشكلات البلد الاقتصادية والمعيشية أشدّ تعقيداً وإلحاحاً من أن تديم شهور العسل مع “حركة الإنصاف” وزعيمه.
.. أو أن تضع خاتمة سعيدة لتأزّم البلد الدائم، بين ديمقراطية ناقصة واستقرار غائب.
٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
شخصيا لم أكن منتبها لما يحدث لباكستان ,إلا ما سمعته عن الشيخ علي بلحجاج حفظه الله ,وسدد خطاه, منبها للمؤامرة الأمريكية بأصابع من جنرالات الجيش الباكستاني ,اللذين طبعا أي جنرالات الجيش صرحوا ,بأن لا دخل لهم في المؤامرة,وأنهم لا يتدخلون ,طبعا غضب علي بلحاج مبرر ,لأن باكستان أولا دولة نووية ,ودولة لها طاقاتها العلمية ,و شخصياته الدينية وعلماء دينها ومختلف الطاقات , المهم با كستان وكل المنطقة من شرق أسيا وجنوبها خط جهنمي لا يقبل أي تدخل لا من أمريكا ولا فرنسا ولا الكونغو .