باكورة الكاتب اللبناني صهيب أيوب: «رجل من ساتان» رواية حب الحياة

■ هي جولة في شوارع مدينة طرابلس اللبنانية وأزقتها وبعض منازلها، ولاسيما في أحيائها القديمة، خلال الحرب اللبــــنانية وبعدها، نلمس فيها المشاعر المختلــــفة لأناس مختلفين، لكن بعــــض المشاعـــر مشـتركة، وعلى رأسها حب الحياة في خضم البؤس المنتشر والفقر المستشري والموت الداهم. ولا أفضل من حامل لهذه الرغبــة في الحياة من نبيل بطل الرواية ـ الجولة «رجل من ساتان» (نوفل ـ 2019) باكورة الكاتب اللبناني صهيب أيوب.
يمسك أيوب بيد القارئ في هذه الجولة عبر شارع سوريا الفاصل بين حيي التبانة وجبل محسن اللذين يجمع بينهما الفقر وتفرقهما السياسة والمذهبية، ويأخذه إلى الأزقة المتفرعة من الشارع ببؤسها ومتغيراتها، خلال الحرب ـ ذعر الناس خلال احتدام المعارك وخوفهم من عودتها خلال ركونها وتبدل الساكنين وتغير المحال وبضائعها وزبائنها. وتشمل الجولة زيارات إلى أحياء أغنى شهدت بعضاً من راحة البال النسبية خلال النزاع اللبناني الذي طال لخمس عشرة سنة. وفي الجولة لا يكتفي أيوب بنقل المشاعر على اختلافها، بل ينقل أيضاً في الخلفية وفي شكل غير مباشر، لكن مقصود روائح الأزقة وساكنيها وعابريها فيشتم القارئ عطور النساء والرجال وروائح المأكولات الشعبية والأقمشة وغيرها، وبين فترة وأخرى تهب روائح البارود والدم المنبعثة من شبح الموت الذي يخيم على الأمكنة والناس، فيقلق حيواتهم قبل أن يتحول إلى زائر دائم وشريك. هي حاسة الشم تبرز قوية في مفاصل الرواية فتستعيد بعضاً من مكانتها التي أهملها كثر من الفلاسفة باعتبارها حاسة بدائية.

الرواية قصة الحياة القصيرة لبطلها نبيل، الذي يتسلل إلى صفحاتها مكافحاً ازدحام الشخصيات ليحكي عن نفسه، أو ليحكي عنه آخرون أو الراوي.

والرواية قصة الحياة القصيرة لبطلها نبيل، الذي يتسلل إلى صفحاتها مكافحاً ازدحام الشخصيات ليحكي عن نفسه، أو ليحكي عنه آخرون أو الراوي. وهي حياة تعسة لرجل أدرك منذ فتوته رغبته في الرجال فكبر وترعرع في عائلة مفككة وفي حي في مدينة تصارع الموت ويهزمها أحياناً كثيرة. ويكبر نبيل ليؤسس عائلة مفككة بدوره لكن حياته ملأى بمحطات لبى فيها رغبته التي لم يستطع إعلانها في محيطه التقليدي، فسافر إلى فرنسا حيث عاش حياة لا نعرف عنها الكثير، ربما بهدف أن تستمر طرابلس البطلة الأولى للرواية. يتماهى نبيل أحياناً كثيرة مع طرابلس نفسها، فهما في موتهما حيَّين وفي رغبتهما في الحياة لا يتوقفان عن التفكير، ولو توقف القلبان عن النبض. فحيرة الرجل تؤشر لحيرة المدينة، وبحثه عن أصوله يعكس بحثها في آثار حفرها تاريخها الطويل على وجهها، وموته يسابق موتها، ورغبته في القيامة من الموت هي نفسها رغبتها في عودة الدم إلى شرايينها. هو يحيا على خلفيتها وهي تحيا في كل خطوة يخطوها حتى يغادرها بحثاً عن حياة مستقرة فينقطع الحبل السري بينهما قبل أن يعود إليها فيجدها حية، لكنه يموت راغباً في قيامة سريعة.
وخلف هذه التفاصيل وبين سطورها نقرأ عذابات الرجل الشرقي المثلي، المقيم في مجتمع محافظ. ينخرط نبيل في القتال ربما فراراً من ميول لا يجد لها متنفساً إلا خلف الباب المغلق لغرفته، حيث يبحث لوحده في نفسه عن نفسه أو في داخل مخابئ في أزقة المدينة مع مثليين آخرين. في كنف أسرته المفككة، يعثر على حنان دافئ وهو فتى، لكنه حنان متفرق إذا عثر عليه لا يلبث أن يفر من بين أصابعه، ففي الأسر المفككة المنهمكة بتحصيل لقمة العيش تحت الشبح المخيم للموت لا تدوم الحميمية.
يكتب أيوب روايته بلغة أنيقة لكن سهلة، ويغرق في التفاصيل من دون إملال، وينقل النص من لسان البطل إلى لسان الراوي بسلاسة، ويدخل قارئه في المكان والزمان بحسية غير مفتعلة إلى طرابلس خلال مرحلة زمنية معينة.
وينهي القارئ زيارة المدينة بين سطور الرواية ليس كما بدأها: لقد تركت المدينة في قلب القارئ وعقله أوجاعها وأفراحها وروائحها وضجيجها ـ وتركت رغبتها الجامحة في البقاء على قيد الحياة.

٭ كاتب من لبنان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية