بالرواية وللرواية: ما لم يقله الخيال الكتوم

يمكن أن نتخيل الروائي وهو خلف مكتبه يرسم مسارات الحدث، ومصائر الشخوص، تُلفتُ انتباهه شخصيةٌ إلى وجوبِ الاعتناءِ بأخرى، بينما تروح فكرة تستبد به إلى درجة أن تتغير الأحداث، وتأخذ اللغة منحى مختلفا يقبس من جنون لحظة انبثاق خيال مغاير لما سبقه، يرمي بفتنته كصياد يلهو في الفضاء بعينيه، بينما يتابع حركة شبكته متلوية وهي تغوص في ملوحة الموج تغنم من عطشه ومن سمكه أيضا، الرواية كائن يخرج من الخيال ليواجه الواقع، بانقباض غلاصم السمكة ذاته، وهي تتنفس هواء البر.
نقرأ في سيرة نجيب محفوظ أنه كان منضبطا في وقته، إلى درجة أننا يمكن أن نضبط عقارب الساعة على مواعيد الروائي العالمي، فنحن نراه وهو يخرج صباحا على الساعة كذا، يعبر الشارع، يقتني الجريدة، يلج مكتبه، يغادر في الساعة الفلانية ثم يعود إلى بيته، وينخرط في الكتابة، مستويات من التركيز على عدم تداخل الزمن، حتى لا تأخذ لحظة من زمن اختها، لكن ألا يقودنا هذا إلى سؤال الخيال عند نجيب محفوظ، أليست الحكاية خيالا تبعثره حيرة الروائي وهو يطارد شخوصه وأفكاره، حيرة تقبض على مخرجاتها اللغة، وينفث الجمال على جنباتها عفوية، مجاراة الروائي للأحداث والشخوص لعلها لا تنفلت منه، مغادرة إلى الخيال لتمكث فيه سجينة، غير مداومة على الخروج عبر مرونة اللغة، وهي تنظر عميقا في الواقع، مستعيدة ما سلبه منها من إنجاز للكيانات، الروائي يحاول عبر الخيال أن ينجز مثيلا لتلك المظاهر المادية عبر التصوير باللغة، هل منظومة نظام نجيب محفوظ أنتجت عالمه الروائي من وحي الانضباط أم الخيال؟
إن صرامة نجيب في تنظيم مواعيده، تعتبر خيالا موازيا للخيال الذي لا يمكن أن يستغني عنه، والذي يشكل مادة إنتاجيته الروائية، هو يريد لنظامه الزمني أن يتكرس في وعي قارئه، كحكاية تروي غرابة كائن روائي لا يشبه غيره من الروائيين، أو من البشر الموجودين على الأرض، فيصبح مجرد ذكر نجيب محفوظ تخييلا في حد ذاته، لروائي يحسب حركاته بدقة، وتتعدد التخييلات لحالة نجيب الواحدة، التي لا يعرف حقيقتها سواه، ومنها يستمد مادة أخرى للخيال الذي يغذي الكتابة الحدثية للرواية.
يمكن أن يكون نجيب محفوظ قد فكر باعتباره حكاء ألف مرة، قبل أن يكتب سيرته الذاتية، التي لم يردها فضاء سرديا متلصصا على حياته الواقعية، التي حدثث بالفعل في مسار حياتي ومجتمعي معين بالحدث وبالشخص، والتي بعد أن جعلها «أصداء السيرة الذاتية» افتتحها بالجملة السردية: «دعوت للثورة وأنا دون السابعة..» كان يمكن أن يقول هذه الجملة في مجلس ويتركها مبهمة، فيتلقف القارئ المعاني المتشظية للثورة من تلك التي تعتمل في عمق نجيب النفسي إلى تلك القائمة في عالم الواقع، وبعد أن يبتعد الخيال بمستمعيه وقارئيه في مرحلة تالية، يكشف عن علاقة الجملة بالطفولة وبالدراسة، وبالنزق المناهض للمدرسة كجدران تحد من حرية الطفل المعرفة باللعب. يمكن أن نكتشف هامشا تأويليا في أنه كان يتحاشى الواقع في سرديته، باعتباره هامش الدورة المغلقة، التي لا تضيف إلى عالم الرواية، الذي يتغياه ويشتغل في مجاله شيئا، ولذلك استعان بالأصداء التي يستقبلها المتلقي موجات متلاحقة غير منظورة، مطورا تداعياتها أخيلةً تتغذى من المقتضب السيري لتجعل منه تفصيلا حكائيا موازيا لما يمكن أن يجعل من الحكاية النجيبية مستمرة في وعد الرواية.

لماذا تفرش الرواية طريق الواقع المقتضب، والمتدفق في عسر عند نجيب، في أصداء سيرته الذاتية، وفي إسهاب عند غابرييل غارسيا ماركيز في معيشيته الراوئية «عشت لأروي»؟

تقود هذه الفكرة إلى روائيين يمكن بمعيار نجيب الصارم أن يخرجوا عن نسقه إلى دورة حياتية تجعل من الخيال مادة ملازمة لواقعهم على الأرض، التي يمارسون في فضائها كينونتهم ووجودهم وأحلامهم باللغة، التي بواسطتها يتشكل العالم الصانع للوجود على الورق، ونصادف أمامنا مباشرة غابرييل غارسيا ماركيز في «عشت لأروي» يتحدث عن تجربته في الصحافة، وعن عموده «الجيرافا» la girafa، يقول: «في الجيرافا أبدو حساسا اتجاه الثقافة الشعبية، وبالعكس قصصي كانت ألغازا كافكاوية، كتبها شخص لم يكن يعرف في أي بلد يعيش» ألا يمكن أن نعتبر أن الثقافة الشعبية هي رافد لا واقعي بالنسبة للقصص الماركيزية، فحساسيته اتجاه الثقافة الشعبية في العمود الصحافي تعتبر بمثابة الأساس الذي يشد ماركيز إلى الواقع، لكن دائما بغرابة ما هو شعبي، فلكلوري، أسطوري، حتى لو كتب في مضامين سردية، فإنها تختزن بالطبيعة الشحنة الحكائية، فما هو شعبي، لصيق ضرورة بالذاكرة، وهنا تتداخل الذات في تشكلاتها التاريخية المستمرة عبر الوعي وعبر الخيال، لتلتقي عند المفترق الحاسم لإنتاج الوعي بالذات خيالا، وهو ما تؤكده الكافكاوية في حكائية ماركيز، فالقلق مستمر في الوجودية الروائية، طالما هناك خيال ناتج عن نصوص تراكمت في ذاكرة تستدعي على الدوام أطياف النصوص بغرائبياتها وعجائبياتها، الملتصقة بالخلطة الحكائية الجديدة الطالعة من فانوس الخيال الطازج.
«بإحساس لا إرادي، الذي هو جزء مني منذ خمس سنوات سابقة، رأيت منزل مارسيدس بارشا. كانت هناك. كما تمثال، جالسة أمام الباب، نحيفة وبعيدة، مرتدية بذوق لحظتها فستانا أخضر مزخرفا بالدانتيل المذهب..» هكذا وهو على متن سيارة الأجرة التي تقله إلى المطار، يستذكر ماركيز زوجته وملهمته التي من أصول مصرية، يتذكرها بهذه التفاصيل التي تجعل منها تدرجات لونية، تنفخ فيها ريح خفيفة، تمتد بها صوب الأخيلة المهيأة لاستكمال الحكاية التي يريدها الروائي أن لا تنفصل عن فعاليته الحكائية المستمرة في سردية أخرى حتى في انقطاعه عن العالم.
لا يمكن أن نعزل «مرسيدس بارشا» عن حركة السيارة الأرضية وهي تقود «غابو» إلى المطار، حيث حركة إقلاعية نحو الأعلى، فالحركة السردية التذكارية تقع بمثابة الإعلان عن كيان المرأة الملهمة، لتستمر في الحركة التاريخية، حتى بعد الصعود الرمزي المفترض نحو الماوراء للروائي، لأن ماركيز لا يستمر في الوعي التاريخي، إلا بجميع مفرداته، وهو ما يدركه، لهذا كتب سيرته «عشت لأروي» ليكمل السردية الناقصة في وعي الرواية، بخيال مواز يكمل الحكاية المخيالية التي يريدها أن تستمر كنصوص موازية تحتفل بما بعد الرحيل، ولعله يكون استفاد منها في معاشه، وهو يرى التطوير التخييلي لما سرده، في واقعية تشرب من متخيل لصيق بأسطورية متدفقة كأنها الواقع بعينه.
لماذا تفرش الرواية طريق الواقع المقتضب، والمتدفق في عسر عند نجيب، في أصداء سيرته الذاتية، وفي إسهاب عند غابرييل غارسيا ماركيز في معيشيته الراوئية «عشت لأروي»؟ ولماذا يحرص نجيب على أن تتكرس صرامته النظامية المتعلقة بحياته اليومية في وعي الناس، ويحرص أيضا غابرييل غارسيا ماركيز على إخبارنا أنه عاش ليروي، ويذكرنا بمرسيدس بارشا وبعموده «الجيرافا» في «الهيرالد» الذي كتبه بإحساس منجذب إلى الثقافة الشعبية؟ تقع الرواية في مجال إدراك الروائي الوجودي غير مكتملة، ولهذا فهي غير منتهية، تحتاج دوما إلى نقطة النهاية، ليس لينغلق النص، لكن ليعلن عن لانهائيته، ولهذا يوهمنا نجيب ويحكي لنا عن صرامة انضباطه المعيشي، ليدفع الخيال المتلقي إلى أقصى حدود الاستمرار في إنتاج «نجيب» الذي لا يغادر الأرض المفتوحة على الحكي، ولهذا رسم وجوديته الممتدة لقرابة القرن في حيز «الأصداء» وليس الوقائع، ليستمر الصدى مهزهزا التلقي فلا يرسو على مرفأ لنهاية مسار الرواية، وكذلك الأمر بالنسبة لماركيز، الذي نشا وعيه الروائي في ظل الحكاية الشعبية بكل أطيافها الغرائبية والعجائبية، فانخرط في لعبة المتلقي المفتون بسماع وقراءة الحكاية ليؤكد له أنه «عاش ليروي» مُسندا الرغبة التخييلية عند القارئ لتنتج الهالات المتعددة والمختلقة عن كينونة حكائية لا تريد مغادرة الأرض التي علمتها كيف تروي، ناسجة حكاية من تداعيات الخيال، وتعتبر «مرسيدس بارشا» ملهمة «غابو» الطعم الذي استعمله مَعِيشَهُ وهو يروي لكي يستفز كينونة المتلقي في استنساغها للمادة التخييلية حول كيان عاش للرواية وبالرواية.

٭ كاتب جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية