بالون برلين

حجم الخط
0

في فترة المانيا الغربية كانت برلينها جيبا في داخل المانيا الشيوعية، وبقي فيها على نحو عام برغم مركز المشتريات البراق، بقي فيها سكانها الاصليون وفيهم كثير من الشيوخ والفقراء، الذين لم ينجحوا في الهجرة الى الغرب، الى مناطق «المعجزة الاقتصادية». ومن جهة اخرى وبفضل مكانتها القانونية الخاصة تدفق عليها جموع من الالمان الغربيين من اليسار، «للابتعاد عن المانيا» وكي لا يخدموا في الجيش. واستعان استيعابهم باموال حولت الى الجيب الحصين من بون وواشنطن، البغيضة الى الشباب المعادين للاستعمار. وكان مهرجان برلين مثالا على قلعة يسارية بتمويل غربي. وكانت قائمة عروض «بيت ثقافات الشعوب» يسارية برغم أنه أنشيء بمال امريكي، وقد نقش على حجر في واجهة المبنى قول مقتبس من وزير الخارجية الامريكي السيء الذكر (عند اليسار) جون فوستر دالاس.
وأغدقت على المدينة اموال دعم لفروع الثقافة اعتاش منها «السكان البديلون»، من العمل في المناسبات الى منح سخية في «الجامعة الحرة». وكانت احداث الشغب العنيفة في الغرب في تمرد 1968 في برلين. وكنت تستطيع في بداية سبعينيات القرن الماضي أن ترى مظاهرات تأييد حتى لمنظمة «بادر ماينهوف». وفي ضمن السور كان في غرب المدينة شيء من البهجة الثورية، وهذا شيء من مزاياها. فما الذي بقي من ذلك بعد الوحدة؟ توجد هنا كما هي الحال في المانيا اتحادات مهنية قوية (ولا توجد دولة رفاه من غير اتحادات قوية)؛ واسعار السكن في المدينة نفسها مرتفعة جدا؛ ويوجد من جهة اخرى تأثير واسع للمواطنين في سياسة المدينة. وتحول يسار تلك الايام الذي كان مؤيدا للفلسطينيين في اكثره الى يسار يسمى «ضد الماني» أي أنه مؤيد لاسرائيل.
إن ازدواج معنى الحرية الغنية لم يزُل من المدينة حتى بعد أن استولت على الجانب الشرقي ودفعت بالتدريج مواطني الشرق عن أحيائهم المركزية الجميلة وعن الجامعات وعن ادارة المسارح والمتاحف، في مسار شبه استعماري شارك فيه ايضا يساريون من الغرب.
وتحولت النظرة الكونية القديمة الى ارض مريحة للسياحة. ولم تكن المانيا لتنجح مدة سنين في الترويج لمناظرها الطبيعية، لكن في برلين وحدها جاءت الى المدينة بالتدريج سياحة حقيقية وأضيفت متاحف ومسارح اخرى (تشمل عروضا مترجمة للانجليزية). وما زالت المدينة الاستعمارية الجديدة تجذب المهاجرين. ومن المتاح للمثقفين الشباب وبيئتهم اليسارية العيش المناسب كما كانت الحال في الماضي وبقيت في المدينة «غريزة» من ايام الحرب الباردة تدعو الى الاختلاف عن المانيا. ويهم هذه من جهتها الوجه الليبرالي لبرلين، وقد أضيف نصب تذكاري للكارثة، ويُظهر شارع بن غوريون وشارع حنا آرنت المجاوران تسامحا مع الصهيونية وما بعد الصهيونية. ويوجد اسرائيليون يتوقون الى الاستقرار فيها أو الى العيش فيها في الحاضر، وهذا شأنهم الخاص. واكثرهم مشحون جدا بالوعي الذاتي الاسرائيلي وهذا شأن اجتماعي ينتظر البحث، وهناك شأن آخر هو الصورة التي تبدو عليها برلين في البلاد. إن لاسرائيل عقلية كيبوتس بخلاف كامل لالمانيا، والرقابة الاجتماعية فيها هي صورة الوجود، ويوجد الآن قطيع نمام ضخم يفرقع بألسنته في المدونات في الشبكة على صوت الناي الاعلامي. وحينما كانت «الهجرة من البلاد» أمرا محظورا خلّوا حتى الطائفة اليهودية الضخمة في نيويورك وشأنها، وفرقع المجموع بألسنته وصمت. وانقضى عهد الحظر، ولا يجوز أن يقال أي شيء حقيقي لأنه يجوز أن يقال كل شيء، واختفى ايضا الحظر الالماني ولهذا اصبح يوجد شيء من «ذعر برلين». إن الطعام رخيص هناك حقا بيد ان الامر في هذا البلد يشبه بالون احتجاج ثخينا آخر محطما للحظر – مخففا. وفيه الكثير من الاستمناء في الشبكة وهناك «احتجاج مخفف برعاية قناة الدولة».

هآرتس 15/10/2014

اسحق ليئور

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية