باليه وأوبرا الجزائرية بهاء بن نوّار

حجم الخط
1

الحركة تغدو كلمة، عند بهاء بن نوار، تتحول أجساد العارضين إلى حكايات، تستعيد نصوصاً مؤسسة وتسردها من جديد، كما لو أنها شاركت بنفسها في تجسيدها، تلتحم بالنص، كي تمنح القارئ شعوراً بما كان يحدث في الركح. نكاد نسمع تلك الجوقات، التي تُرافق الباليه، ونسمع إيقاعاتها، المُتصاعدة مع تصاعد الأداء، ونسير معها إلى نهايتها. بهاء بن نوار تُعيدنا إلى كلاسيكيات الباليه وزمنه الرومانسي. هي تعلم أن الباليه لا يكتمل سوى بالأصوات التي تُرافقه، لهذا جعلت من كتابتها في «حين يغدو الجسد كلمة» كتابة إيقاعية، ذات موسيقى داخلية، مع تقطيعات وإحالات وصور، لا يشعر فيها القارئ بملل. هناك أيضاً التكرار المقصود، في الباليه، الذي لم يفتها، بغرض بلوغ الذروة، مع ما يُوازيه من تغيرات في الإضاءة وفي الألوان والديكور، وانتقالات، للإمساك بثيمة العرض.
المؤلفة لا تكتفي بتلخيص ما شاهدته من عروض، بل تُحاول إعادة تمثيلها في كتابها، وعن غير قصد، تورط القارئ في كواليس، لم يكن يفكر فيها، تمسك بالراقصين والراقصات متلبسين، في العرض وفي كواليس الما قبل، ثم تقوم بتحليل حركاتهم، تموضعهم، صعودهم ونزولهم، طوال المشاهد التي تُركب الباليه. وكان لا بد للباليه أن يُحيلها إلى الأوبرا، وقسمت كتابها بينهما، وعن السبب، تكتب: «تُعيدنا العلائق الوشيجة بينهما إلى تأمل نقطة تلاق مفصلي تجمعهما أيضاً، وتتعلق بخصوصيتهما الفنية، التي تُعيدنا إلى مجال الأدب وتصب في صميمه؛ وهي خاصية البناء الدرامي، الذي يوجه الحركات والإيقاعات في كليهما». إذن، بين الباليه والأوبرا، وجدت منطقة وسطى بينهما، هي الأدب وركزت عليه في لعبتها التحليلية لهذين الفنين.

بين الأوبرا والباليه، تجمع المؤلفة مادتها، تنقل مشاهداتها إلى نص، تتشابك مع العروض، تحاول تأويلها، وإتاحتها للقارئ، وتقصير المسافة بين العرض والجمهور، وتضييق الفواصل بين الركح والتلقي.

حين واجهت كتاب «حين يغدو الجسد كلمة» (دار فضاءات، عمان)، للمرة الأولى، طرحت على نفسي سؤالا: ما هي أهمية الكتابة عن الباليه والأوبرا، ونحن نعلم أن لا مكانة لهما، في العالم العربي؟ وأنهما فنان ارتبطا، دائماً، في المخيلة الشعبية، بالطبقة البورجوازية. لكن المؤلفة تُجيبنا، لاحقاً، كيف أن الباليه، ومعه الأوبرا، صارا أكثرا ليونة، عما كانا عليه، توسعاً عمودياً، تمددا وانفتحا على أشكال تعبيرية شعبية، وصارت لهما قدرة، في تحمل اشتقاقات معاصرة. وعن تجربة بن نوار الشخصية، فهي تخبرنا، من البداية، أنها وصلت للباليه والأوبرا عن طريق الأدب، باعتبارهما فنين محاذيين للأدب، يقتبسان منه، وفي احتكاك دائم معه.
تنطلق المؤلفة، في كتابها، من مقارنات بين الأدب، من جهة، والباليه والأوبرا من جهة أخرى، بدءاً من أوبيرا لاترافياتا، المقتبسة من مسرحية «غادة الكاميليا» للفرنسي ألكسندر ديماس، حيث تستخلص تطابقاً بين المسرحية والاقتباس الأوبرالي، «الذي أتى برؤية إخراجية حديثة، وبأبعاد درامية جديدة». ثم تُقارب اقتباساً أوبراليا آخر، هذه المرة لمسرحية «عطيل» لشكسبير، في نقاط التقاطع والتنافر بينهما. وتخصص فصلاً لاقتباس «كارمن» لبروسبير ميريميه، في الأوبرا، بدون أن تفوتها دائماً، المقارنة بين العرض وما جاء في النص الأدبي الأصلي. ثم تنتقل إلى اقتباسات «أحدب نوتردام» لفيكتور هوغو. وتختتم دراستها، بتحليل اقتباس رواية أخرى، هذه المرة من خارج الأدب الفرنسي، هي «آنا كارنينا» لتولستوي.


بين الأوبرا والباليه، تجمع المؤلفة مادتها، تنقل مشاهداتها إلى نص، تتشابك مع العروض، تحاول تأويلها، وإتاحتها للقارئ، وتقصير المسافة بين العرض والجمهور، وتضييق الفواصل بين الركح والتلقي.

في النماذج المنتقاة، في كتاب بهاء بن نوار، هناك نقاط مشتركة، إنها أعمال تتقاطع في ما بينها، إنها نصوص حميمة، تحكي حيوات داخلية لشخصياتها.

لا تُضيع بهاء بن نوار وقتاً في المقدمات الطويلة، والنظريات، في تدوير ما سبقها إليه باحثون آخرون، بل ترتمـــي، مباشرة، في صلب العروض، في محاولة تدقيق أشكالها الإبداعية، قدراتها في اقتباس سليم للنص الأدبي، الذي خرجت منه، في أوجه الشبه والاختلاف، وفي ما يمكن اعتباره نقاط ضعف أو قوة لها.
يظل النص الأدبي ـ دائماً ـ في خانة الاحتمال، التأمل، والتصور، الذي يختلف، من قارئ إلى آخر، يبقى محصوراً في الورق، بأسماء وتوصيفات، قد تتحرك، ونسقطها، من باب الاجتهاد، على أمكنة وظروف أخرى، ثم يأتي الباليه، ومعه الأوبرا في ما بعد ليعيدوا بعثه، في إخراج شخوصه من السكون إلى الحركة، في تحريكهم وترقيصهم، ومنحهم وجوها، وأجساداً وألوانا، وتشكيلهم في هيئاتهم الإنسانية، المفترضة، وهكذا يطيل الباليه والأوبرا في عمر النص الأدبي، قد يخرجانه من العتمة إلى النور، يسحبانه إلى أرض، لم يكن يتوقع الكاتب نفسه الوصول إليها، في ذلك الالتقاء بين الموسيقى والكوليغرافيا يصير النص الأدبي كائناً حياً، يتنفس، وفي هذه العملية، قد يتحول أيضاً، يبلغ الكمال، الذي كان يعوزه، ويتحرر من اشتراطات الكاتب، يجد مساحة أوسع له للتحرك والعبث، ولاكتساب هوية جديدة له.
في النماذج المنتقاة، في كتاب بهاء بن نوار، هناك نقاط مشتركة، إنها أعمال تتقاطع في ما بينها، إنها نصوص حميمة، تحكي حيوات داخلية لشخصياتها، لم يكن من السهل اقتباسها، في الباليه أو الأوبرا، من دون تعديلات، ومن دون إخلال بسيط بالأصل، لكن من دون أن يمس روحها، أو يحرف مقصدها. وهذا الإشكال في الاقتباس الأمين لنص أدبي جعل العروض تتعدد، والاقتباسات أيضاً، فلو أخذنا حالة «آنا كارنينا»، التي عالجتها، في كتابها، سنجد لها، مئات من الاقتباسات، في الباليه والأوبرا، والأمر ليس يتعلق بطبيعة النص المركب، الذي تركه تولستوي، بل بسبب ما تتضمنه الرواية، من توصيفات معمقة عن الحياة في روسيا، وإسراف مفيد، في شرح وتحليل نفسيات الشخصيات، إنها واحدة من الروايات، التي لا بد أن تثير شغفا في نفسية قارئها، وتستفز أي مبدع يود اقتباسها، على الركح. إضافة إلى تعدد المشاهد فيها، من قلق وحب وانتظار ورغبة وألم وموت. وبما أن العروض تتعدد، سيكون من الصعوبة الإحاطة بها، وتقديم تصور شامل للقارئ، ولكن المؤلفة يبدو أنها قامت بجهد مضاعف، ولم تكتف بعرض واحد، من كل النصوص التي اخترتها، بل قاربت أكثر من عرض، كي تمسك بخيوط التشابك بينها.
حين ننتهي من كتاب «حين يغدو الجسد كلمة»، نشعر بلذة ما، كما لو أننا كنا بصدد مشاهدة العروض تلك، نحس بمكابدة المؤلفة، ويساورنا أنه آخر كتاب لها، في هذا المجال، لكن بن نوار لا تكف عن البحث، وممارسة هويتها في تحليل العروض ومراقبتها، فقد أصدرت، مؤخراً، كتاباً آخر في الثيمة نفسها، «وما يبقى يؤسسه الفن»، مقتبسة عبارة «هولدرلن» في سعيها إلى مقاربات في الباليه والأوبرا والتشكيل.

٭ كاتب جزائري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سعيدة م:

    رائعة هذه البهاء!!!

إشترك في قائمتنا البريدية