لندن- “القدس العربي”: اتهم الكاتب البريطاني المعروف جوناثان كوك كلا من الرئيس الأمريكي جو بايدن ورئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر بتدمير القانون الدولي لحماية الإبادة الإسرائيلية ضد الفلسطينيين.
وفي مقال نشره موقع “ميدل إيست آي” قال فيه “عندما يتم فضح كل شيء بأنه كذبة، ينتصر أكبر الكذابين وهذا هو المستقبل القاتم الذي ينتظرنا”. ومنذ أكثر من عام يتعرض الذين طالبوا ويطالبون بوقف إطلاق النار في غزة للتشهير والاتهام باعتبارهم معتذرين عن حماس ومعادين للسامية وحتى مؤيدين لإبادة جماعية ضد إسرائيل واليهود.
وقد عزز الساسة الغربيون ووسائل الإعلام عمليات الشيطنة هذه بإصرارهم على أن إسرائيل تشن حربا مشروعة “دفاعية” بأهداف محدودة: من المفترض أن تقضي على حماس وتحرر بضع عشرات من الأسرى الإسرائيليين المتبقين في غزة.
وكان يجب أن يتم محو الصورة الكبرى من المشهد، وهي أن إسرائيل هدمت كل البنى التحتية في غزة التي يحتاجها الناس للبقاء على قيد الحياة. وأنها قصفت الفلسطينيين في أي مكان لجأوا إليه وذبحت عشرات الآلاف من المدنيين، وربما مئات الآلاف وجوعت بشكل فعال السكان من خلال منعها وصول المساعدات.
لكن إسرائيل، التي تغافلت عن كل هذا، فشلت في إحداث أي تأثير ملموس على قدرة حماس القتالية ومن المؤكد أنها عرضت حياة الرهائن للخطر بحملات القصف العشوائية التي شنتها.
وأخيرا، بعد مرور 14 شهرا، وجهت المحكمة الجنائية الدولية ضربة قوية لرواية إسرائيل المليئة بالأكاذيب والخداع، فضلا عن تواطؤ النخب الغربية. وأصدر قضاة المحكمة الشهر الماضي مذكرات اعتقال ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يواف غالانت. وبعد ستة أشهر من التأخير، وافقت المحكمة الجنائية الدولية ووسط حالة من الترهيب غير المسبوقة، على محاكمة الرجلين في لاهاي بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، بما في ذلك استهداف المدنيين واستخدام التجويع كأسلوب من أساليب الحرب.
وإذا وطئت قدما الرجلين أرض أي من الدول الأعضاء الـ 124، بما في ذلك بريطانيا وكل أوروبا، فستكون ملزمة باعتقالهما ونقلهما إلى لاهاي.
وقال كوك إن مذكرات المحكمة الجنائية ستعزز موقف محكمة العدل الدولية، التي قالت إن أفعال إسرائيل في غزة ينطبق عليها تعريف الإبادة الجماعية.
ومن الواضح أن الجدران تضيق على إسرائيل ويضيق الخناق على كل من ساعدوها على جرائمها، بمن فيهم الساسة الغربيون والمؤسسة الإعلامية.
هذه لحظة تاريخية وخطيرة في الوقت نفسه بالنسبة للمحكمة الجنائية والنظام القانوني الدولي. فقد استجمع القضاة أخيرا الشجاعة اللازمة لمواجهة حليف لواشنطن، بدلا من الاستمرار في استهداف جرائم الديكتاتوريين الأفارقة أو الأعداء الرسميين للغرب
ويرى كوك أن هذه لحظة تاريخية وخطيرة في الوقت نفسه بالنسبة للمحكمة والنظام القانوني الدولي. فقد استجمع القضاة أخيرا الشجاعة اللازمة لمواجهة حليف لواشنطن، بل والدولة الوكيلة المفضلة لديها، بدلا من الاستمرار في استهداف جرائم الديكتاتوريين الأفارقة أو الأعداء الرسميين للغرب.
وقال كوك إن قرار المحكمة هو دليل على مدى خطورة جرائم إسرائيل وعدم قابليتها للنقاش، ومدى تعرض مصداقية المحكمة ذاتها للخطر إذا استمرت بدون توجيه اتهامات. وكانت المحكمة تواجه مأزقا كبيرا، ذلك أن رفضها توجيه الاتهام إلى نتنياهو وغالانت كان يعني موافقتها الضمنية على تفكيك إسرائيل لقوانين الحرب، شيئا فشيئا. وكان من شأنه أن يؤكد الانتقادات التي يوجهها أولئك الذين يقولون إن المحكمة الجنائية الدولية لا تعمل إلا كسلاح آخر، سلاحا قونيا، تستخدمه الولايات المتحدة وحلف الناتو ضد الدول التي لا تحبها.
كما كان من شأنه أن يسمح لدول أخرى باتخاذ تجاهل جرائم إسرائيل كذريعة لارتكاب جرائمها ضد الإنسانية. وكان من شأن هذا أن يؤدي إلى إدانة المحكمة الجنائية الدولية وحكمها على نفسها بالزوال.
ومن ناحية أخرى فإن التحرك ضد إسرائيل، وبالتالي ضد واشنطن وحلفائها الأوروبيين، يضع المحكمة مباشرة على مسار تصادمي مع الغرب.
ويرى كوك أن هذا القرار يعرض للخطر النظام القانوني الدولي الذي أنشئت المحكمة من أجله، أي النظام الذي نشأ مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية لمنع الجرائم ضد الإنسانية التي بلغت ذروتها في الهولوكوست والقنابل الذرية الأمريكية على المدن اليابانية.
وهذا هو على وجه التحديد هدف نتنياهو، كما ذكرت صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية الأسبوع الماضي: “يعتزم نتنياهو تحويل مذكرة الاعتقال التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية ضده إلى تحرك عالمي بحجب الثقة عن القانون الدولي ومؤسساته”.
ومن المرجح أن تعمل واشنطن على هدم هذا البناء بأكمله بدلا من إرساء سابقة توافق فيها على التضحية بدولتها الوكيلة المدججة بالسلاح، والتي تقع في موقع استراتيجي في الشرق الأوسط الغني بالنفط. ولا تتوقعوا الكثير من المقاومة من أوروبا، حتى من العواصم التي يحكمها الوسطيون وليس القوميون، كما يقول.
وسيتم الكشف عن نفاق الاتحاد الأوروبي الذي يبدي في خطابه أنه ملتزم بالقانون ومبادئ الإنسانية، لكنه بالممارسة العملية يتبع بالكامل عسكريا واقتصاديا وأيديولوجيا للمركز الإمبراطوري في واشنطن.
ولم يكن الاتحاد الأوروبي مهتما بالدفاع عن “الإنسانية” إلا عندما تخدم أجندة واشنطن أو أجندته الجيوستراتيجية ، كما في حالة أوكرانيا التي استخدمها كساحة معركة لخوض حرب بالوكالة ضد روسيا.
لم يكن الاتحاد الأوروبي مهتما بالدفاع عن “الإنسانية” إلا عندما تخدم أجندة واشنطن أو أجندته الجيوستراتيجية ، كما في حالة أوكرانيا التي استخدمها كساحة معركة لخوض حرب بالوكالة ضد روسيا
وقال كوك إن ما ارتكبته إسرائيل من فظائع خلال الأشهر الـ13 الماضية كان في ذهن قضاة المحكمة عند إدانتهم لنتنياهو ورفيقه. ففي نهاية المطاف، اعترف رئيس الأركان الإسرائيلي السابق موشيه يعلون في نهاية الأسبوع الماضي بأن إسرائيل لا تدافع عن نفسها في غزة، بل إنها “تطهر القطاع عرقيا”. ولهذا السبب بدأت على الفور حملة تشويه التهمة ومزجها بموضوع آخرى، حيث اتهم نتنياهو المحكمة بأنها “معادية للسامية”، تماما كما يفعل مع كل هيئة تحاول محاسبته أو محاسبة الجيش الإسرائيلي على انتهاكاته الصارخة لقواعد الحرب.
وزعم نتنياهو أن إسرائيل لا تجوع أهل غزة، رغم الأدلة الواضحة أمامنا وعدم دخول مساعدات إنسانية للقطاع منذ وقت، وأن التهم ليست إلا محاولة لتسويد صفحته واسم إسرائيل. ومرة أخرى، فرض نتنياهو ثنائية زائفة لا تؤدي إلا إلى معاداة السامية، وهو بالطبع ما ردده المعتذرون عنه: إما دعم الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة أو فضح نفسك ككاره لليهود.
لقد اعتاد الفلسطينيون والناشطون المدافعون عنهم ومنظمات حقوق الإنسان على هذا. ولكن الآن حتى قضاة المحكمة الجنائية الدولية يوصمون بأنهم معادون للسامية. فهل يمكن أن يكون هناك مسار أسرع لجعل معاداة السامية محترمة؟ وبطريقتهم الخاصة، ردد زعماء الغرب كلام نتنياهو المستخف بمعاداة السامية وبالتالي الجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية.
وبدلا من الدفاع بقوة عن المحكمة وسيادة القانون، حاولوا بشكل يائس دعم الرواية القائمة: وهي أن إسرائيل هي الطرف المظلوم، وليس عشرات الآلاف من الأطفال الفلسطينيين الذين قتلوا وشوهوا بقنابلها، وأكثر من مليوني مدني يموتون جوعا بسبب حصارها ومنعها للمساعدات. وكما هو الحال فقد كانت بريطانيا والولايات المتحدة، هما أسوأ المذنبين.
فقد طعن الرئيس جو بايدن في دوافع المحكمة، واصفا قرار فرض القانون الدولي ضد الدولة الوكيلة لواشنطن بأنه “صارخ”. وأشار متحدث باسم البيت الأبيض إلى “أخطاء في الإجراءات” في حكم المحكمة، لكنه لم يتمكن من تحديد ماهية هذه الأخطاء المزعومة.
ولم توقع لا أمريكا أو إسرائيل على نظام روما، الذي أنشأ المحكمة الجنائية الدولية، فهما تتعاملان مع القانون الدولي، كعربة لمصالحهما وليس كمحدد للسلوك العسكري. فقد قلب اتهام الجنائية الدولية للمسؤولين الإسرائيلي النظام الدولي القائم على القواعد وهو النظام الذي تزعم واشنطن أنها تحميه.
وفي الأسبوع الماضي، نشرت صحيفة “واشنطن بوست” افتتاحية كررت هذا الكلام حيث قالت إن المحكمة ليس من حقها محاسبة “القادة المنتخبين لدولة ديمقراطية” على الجرائم ضد الإنسانية التي اتهموا بارتكابها.
لم توقع لا أمريكا أو إسرائيل على نظام روما، الذي أنشأ المحكمة الجنائية الدولية، فهما تتعاملان مع القانون الدولي، كعربة لمصالحهما وليس كمحدد للسلوك العسكري
ولكن حتى لو قبلنا هذه الفرضية الزائفة، هل يمكن للطغاة فقط ارتكاب جرائم حرب؟ كما أن إسرائيل ليست دولة ديمقراطية بأي مقياس. إنها دولة استعمارية استيطانية تمارس نظام الفصل العنصري، كما حذرت جماعات حقوق الإنسان، بما فيها الجماعات الإسرائيلية ولسنوات. ذلك أن الإبادة الجماعية التي ارتكبتها إسرائيل في غزة ليست سوى تتويجا لعملية محصلتها صفر وجارية منذ عقود، حيث سعت إسرائيل إلى القضاء على الطموحات الوطنية للشعب الفلسطيني الأصلي بوطنه. ويعتبر طرد السكان الأصليين أو عزلهم أو إبادتهم جزء من الحمض النووي للدول الاستعمارية الاستيطانية، وهو ما يجب أن تعرفه الولايات المتحدة جيدا من تاريخها.
وعلى اليمين الأمريكي، هناك دعوات لاستحضار ما يسمى “قانون غزو لاهاي” لعام 2002، إذا تم تقديم نتنياهو أو غالانت للمحاكمة، حيث يسمح هذا القانون لواشنطن باستخدام القوة العسكرية ضد المحكمة إذا وجهت اتهامات إلى أفراد أمريكيين بارتكاب جرائم حرب. كما أن هناك دعوات في الكونغرس ومن الحزبين لإحياء العقوبات ضد مسؤولي الجنائية الدولية.
وفي عام 2018، فرض دونالد ترامب عقوبات على المحكمة لأنها حاولت التحقيق في جرائم ارتكبها الجنود الأمريكيون في أفغانستان وإسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وقد رفع بايدن العقوبات مقابل عدم اهتمام المحكمة بأفغانستان.
وتعرف المحكمة أنها ستواجه العقوبات بعودة ترامب مرة ثانية إلى البيت الأبيض. ولهذا السبب تتدافع الدول الأوروبية للبقاء على الجانب الصحيح من واشنطن وتجاهل التزاماتها بموجب نظام روما. فبعد أن أشارت فرنسا في البداية إلى أنها ستنفذ مذكرة الاعتقال ضد نتنياهو، عادت الأسبوع الماضي لتؤكد أن رئيس الوزراء الإسرائيلي “محصن” من الاعتقال. ورددت باريس ما قالته واشنطن من أن إسرائيل لم توقع على نظام روما وأنها لا تدخل في صلاحيات المحكمة. مع أن لها صلاحية في المناطق الفلسطينية التي ارتكبت فيها إسرائيل جرائمها. ولم تذهب بريطانيا إلى حد تحدي المحكمة علانية في ردها على مذكرات الاعتقال. وبدلا من ذلك، قدمت أقل قدر ممكن من الدعم. والتزم ستارمر، ووزير خارجيته ديفيد لامي، وكلاهما محاميان بصمت مدروس. وتركا نتنياهو وبايدن يشوهان سمعة المحكمة ومكانة القانون الدولي. وتجاهلت إيفيت كوبر وزيرة الداخلية، التي كان لزاما عليها الموافقة على مذكرة الاعتقال في حالة وصول نتنياهو أو غالانت إلى بريطانيا، المسؤولية، متظاهرة بأنها فجأة لم تفهم الجوانب الأكثر أساسية للقانون البريطاني – أو دورها، قائلة “الأمر ليس بيدي”.
وفي الوقت نفسه زار هرتسي هاليفي، رئيس هيئة الأركان المرشح اسمه على قائمة المتهمين بالجنائية الدولية، بريطانيا، الأسبوع الماضي، واجتمع مع عدد من نظرائه من دول أخرى. ومن المؤكد أن حكومة ستارمر منحته حصانة “المهمة الخاصة” قبل سفره، نظرا لخطر إصدار مذكرة اعتقال في وقت قصير أثناء زيارته.
وقارن الكاتب بين شجب لامي لروسيا في مجلس الأمن لأنها استخدمت الفتيو ضد قرار تقدمت به بريطانيا بشأن السودان ولم يستخدم الوزير البريطاني نفس اللغة الشاجبة ضد إسرائيل وجرائمها في قتل وتجويع الفلسطينيين. بل زاد من الطين بلة، عندما زعم لامي، الشهر الماضي، أن إسرائيل لم تقتل عددا كافيا من الفلسطينيين حتى ينطبق عليه تعريف الإبادة الجماعية. وهذا كلام غير صحيح، فإن أي محام أو قاض جاد لا يعتقد أن الإبادة الجماعية تحدد وقف إحصاء أو صيغة رياضية. ذلك أن اتفاقية الإبادة الجماعية تصف، على وجه التحديد أشكال الإبادة الجماعية ـ مثل التهجير القسري للأطفال من مجموعة إلى أخرى والتي قد تؤدي إلى فقدان الأرواح.
يجب النظر إلى تصريحات كير ستارمر وديفيد لامي على أنها محاولة لتقويض قواعد الحرب والالتزام بما تريده واشنطن
وكما لاحظت المقررة الخاصة للأمم المتحدة فرانشيسكا ألبانيزي مرارا وتكرارا، فإن هدف اتفاقية الإبادة الجماعية هو الاعتراف بالإبادة الجماعية في أقرب وقت ممكن حتى يمكن تجنب المذابح الجماعية. وفي هذه الحالة، حتى يتم ردع إسرائيل عن توسيع الإبادة الجماعية في غزة إلى الضفة الغربية والقدس الشرقية. وأكدت ألبانيزي أن”الإبادة الجماعية هي عملية وليست فعلا، ولا يوجد فلسطيني آمن تحت الحكم الإسرائيلي”.
ولهذا السبب وصفت البانيز لامي “بمنكر الإبادة الجماعية”. ويعلق كوك أن التناقض واضح في تعليقات ستارمر الذي تجنب وصف الإبادة الجماعية في غزة لكنه لم يتورع عن استخدام الوصف في مرافعات له سابقة. وعليه يجب النظر إلى تصريحاته السابقة مع لامي على أنها محاولة لتقويض قواعد الحرب والالتزام بما تريده واشنطن. وقد اقترح جيريمي كوربن، سلف ستارمر، أن الحكومة البريطانية لا تجرؤ على وصف المذبحة في غزة على أنها إبادة جماعية لأن ذلك “سيكون بمثابة اعتراف بتواطؤها في واحدة من أعظم الجرائم في عصرنا”.