الناصرة ـ «القدس العربي»: في اليوم السابع والستين على الحرب في غزة تواصلت محاولات التوغّل البرّي داخل جنوب وشمال القطاع، ومعه التصدّي الشرس للمقاومة الفلسطينية، رغم الحصار والجحيم الإسرائيلي- الأمريكي ورغم غرق غزة في بحر من دم ودموع المدنيين الفلسطينيين.
وفي الوقت الذي لا يزال فيه الموقف الأمريكي داعم من دون تحفظ يذكر لآلة الحرب الإسرائيلية، وهو ما عكسته تصريحات الرئيس جون بايدن الأخيرة، يواجه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مزيدا من الاعتراضات داخل معسكر الحكم الذي يقوده.
بايدن: «أحبك ولا اتفق معك»
وفي الوقت الذي تشير فيه التقارير الفلسطينية والدولية إلى مقتل أكثر من 18 ألفا من المدنيين وإصابة نحو 50 ألفا داخل القطاع معظمهم من الأطفال والنساء، يقول الرئيس الأمريكي جو بايدن مجددا:»لست بحاجة أن تكون يهوديا كي تكون صهيونيا وأنا صهيوني. قلت لنتنياهو:»أنا أحبك ولا اتفق معك حول أي كلمة».
جاءت تصريحات بايدن خلال مشاركته في طقس احتفالي بمناسبة عيد الأنوار اليهودي (الحانوكا) داخل البيت الأبيض قال فيها أيضا إن «الدفء والتواصل الذي أشعر به مع الجالية اليهودية لا يتزعزع».
وتابع مكررّا مساندته المطلقة لإسرائيل وحربها: «وقعت في مشاكل و(واجهت) انتقادات عندما قلت قبل بضع سنوات إنه ليس عليك أن تكون يهوديا لتكون صهيونيا، وأنا صهيوني». وقال بايدن إن الولايات المتحدة تواصل تقديم المساعدة العسكرية لإسرائيل حتى تتخلص من حماس، لكن علينا أن نكون حذرين، لافتا أن الرأي العام العالمي كله يمكن أن يتغير بين عشية وضحاها، ولا يمكننا أن نسمح بحدوث ذلك.
وأضاف «كما قلت بعد هجوم (طوفان الأقصى في 7 اكتوبر)، فإن التزامي بسلامة الشعب اليهودي، وأمن إسرائيل، وحقها في الوجود كدولة يهودية مستقلة، لا يتزعزع».
في هذه التحفّظات من نتنياهو مقابل دعم غير مسبوق لإسرائيل وفي الانتقادات المبطّنة لاستخدام الأخيرة قنابل حارقة محرمّة دوليا، فإن بايدن يلقي بقنبلة دخانية طمعا بتضليل الأمريكيين والعالم وحجب الحقيقة عنهم. وهذا هو الحال مع الأحاديث عن نية بمعاقبة المستوطنين المعتدين وعن دولة فلسطينية، فهي الأخرى ضرب من التعمية ومحاولة تخفيف وطأة الانتقادات في العالم لأمريكا ومحاولة تحسين صورة انحيازها الأعمى الفاضح للجانب الإسرائيلي.
بايدن في الناصرة
قبل 50 عاما زار جو بايدن مدينة الناصرة داخل أراضي 48 بصفته سيناتورا ديمقراطيا، وفيها قال إنه قلق من تزايد قوى اليمين في إسرائيل. ودعا لإنهاء الاحتلال. خمسون عاما مرّت ومعها تدفقت سيول من مثل هذه التصريحات البراقّة لكنها بقيت حبرا على ورق، وهذا هو حال بايدن اليوم كرئيس لأقوى دولة في العالم. وفي هذه الفجوة الكبيرة بين الأفعال وبين الأقوال تكمن حقيقة بايدن، الحقيقة الأمريكية التي ترى في إسرائيل ولاية أمريكية وبنتا مدللّة.
بايدن صهيوني وهو يفاخر بذلك، ودون أن يعترف بهذا الاعتقاد فقد كان من قبل يترجم على الأرض قولا وفعلا، أن التوصّل الى الحقيقة لا يتأتى بسماع ما يلهج به لسان بايدن فحسب، بل بملاحظة ما تفعله يداه، فهذه الحرب تتم بأيد إسرائيلية وأسلحة أمريكية، وحتى الآن تواصل واشنطن تزويد الاحتلال بكميات كبيرة من وسائل القتل وزرع النار والدمار.
حتى الآن اعترفت إسرائيل بإلقاء 40 ألف طن من المتفجرات و100 ألف قذيفة على غزة، وفوق ذلك ورغم تحطم شعبيته مقابل ترامب (بسبب الحرب على غزة على ما يبدو) يقول مجددا «أنا صهيوني» بعد أيام من استخدام السفير الأمريكي في الأمم المتحدة حق النقض الفيتو ومنع قرار عالمي بوقف حرب وحشية على غزة.
حقيقة كونها حربا ظالمة على غزة لا على حماس وثمنها الدموي باهظ يتمثّل أيضا في مبادرة 20 امرأة يهودية أمريكية بتقييد أجسادهن بالسلاسل إلى سياج البيت الأبيض وهن يرتدين قمصانا مكتوب عليها «ليس باسمنا» وأطلقن هتافات تطالب بوقف النار في غزة ووقف الإبادة الجماعية.
وفي استطلاعات أمريكية تفيد بأن غالبية الأمريكيين لا يوافقون على طريقة تعامل بايدن في الهجوم الإسرائيلي على غزة.
نتنياهو يواجه انتقادات داخل الليكود
في قرارة نفسه يدرك رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو هذه الفجوة بين الأقوال وبين الأفعال التي تعكس اكتفاء أمريكيا بضرائب شفوية، ولذا فهو يكرّر تصريحاته ضد الدولة الفلسطينية وضد السلطة الفلسطينية ومثلما يرفض المطلب الأمريكي المعلن بضرورة صياغة رؤية لليوم التالي للحرب التي يسعى لإطالة أمدها بخلط الحسابات غير مكترث بمصير الأسرى الإسرائيليين في القطاع، وبأعداد الجنود القتلى والجرحى (5000 جندي جريح حسب صحيفة «هآرتس» أمس الأول).
بموازاة الحرب على غزة يواصل نتنياهو منذ أيام حربا نفسية داخلية في محاولة لتبرئة نفسه من الفشل الذريع في السابع من أكتوبر وتأمين بقائه في سدة الحكم بعدما تنتهي الحرب على غزة. وهذا يفسّر تصريحه الشعبوي الجديد في اجتماع لجنة الخارجية والأمن في الكنيست أمس الأول، وفيه قال إن عدد ضحايا السابع من أكتوبر يساوي عدد ضحايا أوسلو، وإن السلطة الفلسطينية لن تسيطر على قطاع غزة بأي شكل من الأشكال. وبذلك يواصل نتنياهو نهج تكريس الانقسام بين غزة ورام الله وهي استراتيجية يعمل بها نتنياهو منذ عاد للسلطة في 2009 حتى تفجّرت في وجه إسرائيل في السابع من أكتوبر، وهو يواصل التمهيد لحملة سياسية سيتبناها في حال سقطت حكومته واضطر لخوض انتخابات جديدة.
وعلى خلفية هذا الخلط ومقابل تأييد أوساط إسرائيلية رسمية وغير رسمية لموقفه عبرت بعض الأوساط في حزب نتنياهو عن تحفظها من تصريحاته. في حديث للإذاعة العبرية الرسمية أمس وجّه عضو الكنيست داني دانون (الليكود) انتقادات لنتنياهو وقال إنه لا مكان للقول إن اتفاق أوسلو كارثة وسبّب عددا كبيرا من القتلى، كما حصل في السابع من أكتوبر، معللا تحفظه بالقول إننا في فترة حرب الآن.
واتفق معه المحرر المعلق في الإذاعة آرييه غولان بمخاطبته نتنياهو:»قلت إن الجميع سيقدم أجوبة على أسئلة سنخوضها بعدما تنتهي الحرب لكنك قلت أمام لجنة التحقيق الرسمية في حرب لبنان الثانية عام 2006 «لجنة فينوغراد» إن «رئيس الحكومة يتحمل مسؤولية أكبر من أي شخص آخر. الحديث عن أوسلو لا ينزل عن أكتفاك غراما واحدا من مسؤولية ما جرى في السابع من أكتوبر».
ويرى مراقبون إسرائيليون أن نتنياهو يسعى جاهدا على المستوى الشخصي لتأمين استمرارية حكمه، كما تقول المعلقة السياسية في صحيفة «يديعوت أحرونوت» سيما كادمون أمس.
بمثل هذه التصريحات يقوم نتنياهو برسم عملية تشخيص جديد للواقع النازف من خلال حملة دعائية تنقل المسؤولية والتهمة عن السابع من أكتوبر إلى أوسلو في 1993 ولخطة فك الارتباط عن غزة عام 2005 التي أيدها وكانت لديه فرصة لإلغاء كل منها، فهو موجود في الحكم منذ 1996 وعلى التوالي تقريبا منذ 2009.
ردا على أسئلة بعض النواب في الاجتماع المذكور قال نتنياهو «إن عملية تغيير مسار البنادق الفلسطينية مألوف لنا…لكن طائراتنا جاهزة والرد سيكون سريعا ضد قوات الأمن التابعة للسلطة الوطنية داخل الضفة الغربية في حال وجهت بنادقها لنا».
ورغم تحذيرات المؤسسة الأمنية الإسرائيلية والمواقف الأمريكية المعلنة تواصل سلطات الاحتلال منع دخول العمال الفلسطينيين الى أراضي48 للعمل. وكان المجلس الوزاري الأمني قد تباحث في ذلك أمس الأول ولم يطرح الموضوع للتصويت بعدما تبين أن أغلبية الوزراء ترفض دخول العمال الفلسطينيين. وتحذّر جهات أمنية إسرائيلية من تبعات ذلك على الاقتصاد الإسرائيلي خاصة فرعي البناء والزراعة المأزومين، وعلى تصعيد التوتر داخل الضفة الغربية نتيجة الخنق الاقتصادي والغضب على استمرار المذابح في غزة والقتل الواسع في الضفة الغربية ذاتها وآخرها قتل وإصابة عدد كبير داخل مخيّم جنين أمس.
ويعبّر عن مخاوف المؤسسة الأمنية الإسرائيلية القائد الأسبق للاستخبارات العسكرية الجنرال في الاحتياط عاموس يادلين، الذي ينبه إلى أنه في ظل الحرب في غزة والقتال في شمال البلاد هناك حلبة في حالة غليان: الضفة الغربية.
غليان الضفة الغربية
في مقال نشرته صحيفة «يديعوت أحرونوت» أمس الثلاثاء يوضح يادلين أنه منذ بدء الحرب قتلنا أكثر من 200 فلسطيني في الضفة الغربية. و يتابع محذرّا «اعتقلنا 2000 شخص منهم 1200 من أتباع حماس. كل الشروط الأساسية لاشتعال حريق كبير موجودة في حال صعود خطير: التحريض والتنظيم لتنفيذ عمليات وأفعال إجرامية يقوم بها مستوطنون متشددون في ظل سياسة توزيع السلاح الخاص بشكل واسع ومنفلت وتراجع قوة السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية لأسباب داخلية ونتيجة سياسات إسرائيلية متعمّدة».
ويحذّر يادلين أيضا من أن انفجار الأوضاع داخل الضفة الغربية المحتلة سيكون انتصارا لحماس وإيران ويفتح جبهة جديدة تثقل على المجهود العسكري الإسرائيلي. يادلين الذي يؤيد مواصلة الحرب حتى تتحقق أهدافها يقترح أن يتمّ إشراك السلطة الفلسطينية في خطة اليوم التالي لها بشروط كثيرة منها «وقف التحريض والإصلاحات « وغيره.
في التزامن تتواصل الحرب النفسية الرسمية وتتصاعد الحملة الدعائية لوسائل إعلام عبرية لتعزيز ثقة الإسرائيليين المفقودة والمساس بمعنويات الفلسطينيين، وهذا ربما يعكس عمق الأزمة العسكرية في الميدان. هذا التورط في حرب لا تبدو نهايتها وشيكة وتعتبر الأطول منذ 1948 تستدعي في المقابل المزيد من التشكيك بقدرة الحرب على تحقيق أهدافها العالية. في تحليله المنشور في «هآرتس» أمس يقول محللها العسكري عاموس هارئيل إن تقدم القتال خصوصا في خان يونس يأتي على حساب تقدم المساعي لاستعادة المخطوفين، وإنّ الحكومة والمؤسسة الأمنية تتصرفان ببطء رغم موت المخطوفين نتيجة القصف او قتلهم من قبل حماس.
ويشير إلى أن المعارك تعزّز تقديرات الجيش بإمكانية تحقيق الهدف بانتزاع القدرات العسكرية والسلطوية لدى حماس في القطاع «على المدى البعيد»، لكن حتى لو كان الجيش قادرا على تحقيق الأهداف هناك خاصرة رخوة لدى الجيش ترتبط بتنسيق التوقعات مع الإسرائيليين. هناك أوساط واسعة لدى الجمهور ترى باستعادة المخطوفين هدفا أعلى، وفي المقابل هناك إسرائيليون كثر يطالبون بالقضاء على حماس بالكامل.
«الحلّ» باستنساخ تجربة 1982
من جهته يقترح المعلّق السياسي الإسرائيلي بن درور يميني مجدّدا استنساخ تجربة خروج قيادة منظمة التحرير من بيروت بعد حرب لبنان الأولى عام 1982، غير متنبه لاستخفاف «حماس» بمثل هذه الأمنيات التي تخشاها إسرائيل أيضا بعد تجربة طرد 400 من قيادة حماس الى «مرج الزهور» في جنوب لبنان عام 1988.
ويعلل بن يميني دعوته هذه التي يكررها منذ عدة مرات بالقول ضمن مقال نشرته «يديعوت أحرونوت» أمس، إن هناك عشرات آلاف الحمساويين المسلحين وعملية اقتلاعهم بالكامل تصّغر احتمال العثور على أسرى أحياء وتؤدي الى قتل عشرات آلاف المدنيين. المجتمع الدولي سيوّقفنا وكذلك واشنطن ولذلك اقترح مجددا: على اسرائيل طرح وقف للنار يخرج فيها مقاتلو حماس من القطاع وربما على نمط بيروت. ومع ضغط دولي وتجنيد مصري وربما قطر هناك احتمال لإنقاذ المخطوفين والتوصل الى نهاية معقولة للحرب. مع تفكير خارج الصندوق ربما يكون هناك أمل للمخطوفين أيضا في نهاية النـفق».