الناصرة- “القدس العربي”:
يصل رئيس إسرائيل يتسحاق هرتسوغ، اليوم، إلى واشنطن تلبية لدعوة الرئيس الأمريكي جو بايدن، تاركاً إسرائيل في لحظات غير مسبوقة، من ناحية تفاقم التراشق بين معسكرين متصارعين، ما دفعه للقول قبيل صعوده الطائرة: “أنا ذاهب لأمريكا، وقلبي باق هنا، وأفكاري باقية هنا”.
هرتسوغ، الذي فشلت وساطته بين الائتلاف الحاكم والمعارضة، دعا مجددّاً كل نواب الكنيست وكل ناشطي العمل الجماهيري للسعي من أجل معادلات معقولة. وتابع: “وهذا ليس بالضرورة من خلال ديوان رئيس الدولة، بل يمكن فعله من خلف الكواليس”.
وتأتي زيارة هرتسوغ للبيت الأبيض تزامناً مع توتر معلن بين الإدارة الأمريكية وحكومة الاحتلال الحالية ورئيسها بنيامين نتنياهو.
تقديرات إسرائيلية تقول إن لقاء بايدن- نتنياهو سيكون خارج البيت الأبيض، وربما في الأمم المتحدة، خلال اجتماع الجمعية العامة، في سبتمبر/ أيلول القادم.
واستبق الرئيس الأمريكي هذا اللقاء مع هرتسوغ بإجراء مكالمة هاتفية مع رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، ليلة أمس، في محاولة لتخفيف التوتر بينهما، على ما يبدو، خاصة أن الولايات المتحدة متجهة لانتخابات عامة، والحزب الديمقراطي معنيّ بالاحتفاظ بدعم اليهود الأميركيين، خاصة أن مرشحي الحزب المنافس (الجمهوري) للرئاسة يُزاوِدون على بايدن بتشديدهم على مناصرتهم لإسرائيل.
وحسب بيان مكتب نتنياهو، فقد قال الأخير إن مشروع قانون “إلغاء المعقولية” المختلف عليه ستتم المصادقة عليه في الأسبوع القادم، وإنه بعد ذلك سيحاول فوراً صياغة توافق إسرائيلي واسع حول بقية مشاريع القوانين التي تشملها “خطة الإصلاحات القضائية”. كما قال مكتب نتنياهو إن المحادثة مع بايدن تناولت التشريعات القضائية، واتفقا على اللقاء مستقبلاً.
في المقابل أوضحَ البيت الأبيض أن بايدن عاد وأكد ثانية على ضرورة أن تستند عملية تغيير النظام القضائي لتوافق إسرائيلي واسع، معرباً عن قلقه من مواصلة البناء داخل المستوطنات.
كما أوضح البيت الأبيض، على لسان الناطق باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي جون كيربي، أن حقيقة الاتفاق على اللقاء بين بايدن وبين نتنياهو مستقبلاً لا تلغي القلق الأمريكي من المتطرفين داخل الحكومة الإسرائيلية، مشدداً على أن القيم الديمقراطية المشتركة طالما كانت، ولا بد أن تبقى العلامة الفارقة الأهم للعلاقات الأمريكية- الإسرائيلية.
ولفت كيربي إلى أن اللقاء بين بايدن ونتنياهو سيكون قبيل نهاية العام الجاري، في الخريف القادم، دون تحديد مكانه، وهناك تقديرات إسرائيلية بأن يتم اللقاء خارج البيت الأبيض، وربما في الأمم المتحدة، خلال اجتماع الجمعية العامة، في سبتمبر/ أيلول القادم.
وحسب كيربي، فقد قال بايدن لنتنياهو إنه ينبغي المحافظة على تسوية الدولتين كحل دائم، وباركَ “استعداد إسرائيل لدراسة إمكانية القيام بخطوات جديدة لتحسين واقع حياة الفلسطينيين”.
فيما أشار بيان مكتب نتنياهو إلى أن الجانبين تحدثا حول استمرار الجهود لتثبيت حالة تهدئة واستقرار داخل الضفة الغربية المحتلة. وطبقاً لكيربي أيضاً، فقد توافقَ بايدن ونتنياهو على أن الشراكة بين الولايات المتحدة وبين إسرائيل “مركزية” ضمن المساعي لمنع إيران من حياة سلاح نووي، فيما تحدث بيان نتنياهو عن “محادثة الجانبين حول التهديدات من جهة إيران”.
يذكر أن بايدن سبق أن وجّه، في تصريحات لـ شبكة “سي إن إن” انتقادات لحكومة الاحتلال برئاسة نتنياهو، قال فيها إنه لا يذكر حكومة إسرائيلية فيها متطرفون بهذا الحد منذ حكومة غولدا مئير. وبعد أسبوع قالت “نيويورك تايمز” إن البيت الأبيض يتدارس إمكانية إعادة تقييم العلاقات الثنائية، لكن البيت الأبيض سارع لنفي ذلك.
وتزامناً مع قول نتنياهو لبايدن إن ائتلافه الحاكم ماض في تشريع ما يعرف بقانون إلغاء المعقولية، الذي يصادر صلاحية إلغاء قرارات الحكومة من قبل المحكمة العليا، حتى لو كانت بنظرها غير معقولة، تجددت الاحتجاجات، في ساعة مبكّرة من هذا النهار، بسدّ طرق ومفارق مركزية. ويؤكد قادة الاحتجاجات أنها ستتصاعد، اليوم. وبذلك تدخل المصارعة الإسرائيلية ربع الساعة الأخيرة، وتشهد احتداماً وتصعيداً في محاولة من قبل الطرفين لحسم المنازلة المرشحة لتكون معركة “كسر عظم”.
قال بايدن لنتنياهو إنه ينبغي المحافظة على تسوية الدولتين كحل دائم.
والحديث عن “كسر عظم”، أو “كسر زجاج” من الصعب استعادة لحمته، ليس مبالغاً فيه، لأن الصراع يدور على جوهر إسرائيل ونظامها السياسي والاجتماعي والقضائي، وهو أكبر، أعمق، وأخطر من صراع على استقلالية القضاء، وعلى مكانة المحكمة العليا بصفتها الكابح المركزي الضامن لمنع استئثار السلطة التنفيذية التي تمثلها الدولة.
هذا السجال الدائر الآن حول خطة “الإصلاحات القضائية”، التي تعتبرها المعارضة الإسرائيلية انقلاباً على النظام السياسي، له جذور دفينة وقديمة، ترتبط باختلافات وخلافات بين مكونات الجماعة الإسرائيلية: توترات قديمة ومستمرة بين يهود غربيين وشرقيين، توترات بين الدولة العميقة (النخب القديمة: الموظفون الكبار في المالية والنيابة العامة والمؤسسة الأمنية والإعلام وغيره) وبين النخب الجديدة المدعومة من قبل اليهود الشرقيين، وتمثل أغلبية في الكنيست الحالي، علاوة على اختلافات وخلافات عميقة بين يهود متدينين (بعضهم يدفع لبناء دولة شريعة)، وعلمانيين ليبراليين، بين مستوطنين يدفعون لحسم الصراع مع الفلسطينيين، وبين أوساط إسرائيلية تعتبر ذلك انتحاراً وإنهاءً للمشروع الصهيوني، لأنه ينتج واقعاً ثنائي القومية، وحالة احتراب دائمة، على غرار منطقة البلقان في شرق أوروبا تاريخياً، ولذا فهي تبحث عن إدارة الصراع مع الشعب الفلسطيني أو تسويته.
لكن ما أتاح حدوث هذا الانفجار الداخلي الكبير في إسرائيل، هذا العام، ليس فقط حدة التشريعات، بل تراجع الخطر الخارجي نتيجة الربيع العربي، والتطبيع العربي وتحوّل الأعداء إلى أصدقاء. وقد سبق أن حاول رئيس إسرائيل السابق رؤوفين ريفلين قرع جرس الإنذار ضمن ما عرف بـ “خطاب الأسباط”، حينما أكد، خلال مؤتمر هرتزليا للأمن القومي، في 2015، أن الانقسامات الداخلية بين هذه الفئات الإسرائيلية المذكورة (أضاف لها التوترات بين العرب واليهود في إسرائيل) أخطر على إسرائيل من قنبلة إيران.
على خلفية هذه المخاوف، التي تجلّت برغبة 53% من الشباب الإسرائيليين بالهجرة (استطلاع نشرته صحيفة “معاريف” أمس الأول) جدد قادة المعارضة مطالبتهم قادة الائتلاف بالتوقف فوراً والعودة للحوار.
مثلما جدد هرتسوغ دعوته للمعسكرين بالتفاهم، ولكن “سمعان الإسرائيلي مش هون”، فقد قطع نتنياهو الطريق عليهم بقوله لبايدن إنه سيتم المصادقة على قانون تقليص المعقولية أولاً، وبعدها سيحاول تحقيق توافق إسرائيلي واسع حول بقية مسيرة التشريعات. وفعلاً هذا ما يحصل، ففي البرلمان الإسرائيلي (الكنيست) تواصل لجنة القضاء والقانون التداول في 27 ألف تحفّظ على مشروع قانون إلغاء المعقولية قدّمها نواب المعارضة، في محاولة لإعاقة طرحه للمصادقة عليه، قبيل نهاية الشهر الحالي، كما يخطط الائتلاف الحاكم.
هذا في البرلمان، أما في الميدان، فقد بدأ قادة الاحتجاجات، اليوم الثلاثاء، منذ الساعة السادسة صباحاً، بترجمة “يوم المقاومة” الذي أعلنوا عنه، سد الطرق المركزية، وشلّ حركة القطارات، ومحاصرة بناية البورصة في مدينة رمات غان، وهناك أحاديث عن مفاجآت. وتشير تقارير إعلامية إلى احتمال إعلان الإضراب العام في كافة مرافق العمل في البلاد.
يجري كل ذلك وسط مخاوف لدى عدة جهات إسرائيلية من تبعات التصعيد في المواجهة الداخلية، التي لا يوقفها الطقس الحار جداً، ولا التوترات مع “حزب الله” (حتى الآن)، ولا التفاعلات الاقتصادية السلبية، كتراجع قيمة الشيكل مقابل الدولار، مثلما لا توقفها التدخلات والضغوط الأمريكية.
المواجهة الداخلية لا يوقفها الطقس الحار جداً، ولا التوترات مع “حزب الله”، ولا تراجع الشيكل مقابل الدولار، ولا الضغوط الأمريكية.
في افتتاحيتها، دعت صحيفة “هآرتس”، اليوم، لمنع اغتيال الديمقراطية، وتقول إن الائتلاف الحاكم يستعد للمصادقة الثانية والثالثة على قانون “المعقولية”، الذي يجعل الحكومة والوزراء ومنتخبي الجمهور أحراراً بشكل مطلق، يفعلون ما يحلو لهم دون رقيب ولا حسيب، بعد تعطيل “حراس العتبة” (النيابة العامة، المحاكم، الصحافة.. الخ) وتعطيل “حراس الخزنة”، والاستئثار بموارد البلاد كما يشاؤون، دون خوف من ملاحقة فسادهم. هذه المخاوف، التي تختلط فيها حسابات حزبية وشخصية أيضاً، دفعت رئيسين سابقين لحكومة الاحتلال، هما إيهود براك وإيهود أولمرت، لدعوة قادة العالم لعدم اللقاء مع نتنياهو، وقالا إن من يحب إسرائيل عليه مقاطعة حكومتها، وقد أكدا، بالصوت والصورة، دعمهما لموقف الضباط والجنود في الاحتياط الممتنعين عن التطوع للجيش، أو الرافضين للخدمة العسكرية في الاحتياط. وما يقرّب إسرائيل من نقطة التشظي الخطير عودة الطيارين العسكريين ووحدات كثيرة في جيش الاحتياط للامتناع عن التطوع في خدمة عسكرية، أو عن الامتثال لتعليمات القيادات العليا بالتدرب والمشاركة في خدمة الاحتياط.
في ظل إصرار الائتلاف الحاكم على المضي في التشريعات دون توافق مع المعارضة تزداد حدة الخطاب، ويبرز خطاب الكراهية بشكل غير مسبوق، إذ تقترب إسرائيل من مرحلة “كسر الزجاج” في لحمتها الداخلية، وهي إحدى مقوّمات مناعتها وقوتها.
وربما يخرِج “فرجٌ عربي”، أو أجنبي، إسرائيل من ورطتها الداخلية، فاندلاع حرب في الشمال مع “حزب الله” ربما تفعل ما لم يفعله اشتعال الجبهة مع غزة من ناحية إطفاء النار أو خفض ألسن لهبها والمساهمة في وقف تعمّق التشظي.
ويستبعد عدد كبير جداً من المراقبين في إسرائيل احتمال إقدام نتنياهو على فرملة التشريعات ومنع التدهور وحالة التشظي لأنه، ببساطة، أمام خيارين حلوهما مرّ، ففي حال انحاز لفكرة التسوية والاستجابة لطلب المعارضة بالعودة للحوار سيفكك شركاء في ائتلاف حكومته ويخسر مقعد الرئيس الراغب بالتشبّث به، خاصة أنه طامع بأن ذلك يساعده في الدفاع عن نفسه في محاكم الفساد المتهم به. ومع ذلك يعتقد المحلل الاقتصادي- السياسي نحاميا شطرسلة أن نتنياهو يُرجئ قراره، كعادته، حتى نهاية الدورة الصيفية للبرلمان، ويقرر عندئذ إن كان سيمضي في تشريع قانون إلغاء المعقولية، أو استبداله بنص أكثر اعتدالاً وليونة خوفاً من حالة التشظي ومن تصاعد الضغط الأمريكي وانحياز البيت الأبيض لجانب المعارضة.
وفي سياق الحديث عن الكنيست تَنَبَّهَ النائب أيمن عودة للتبعات الخطيرة لقانون إلغاء المعقولية على الفلسطينيين على طرفي الخط الأخضر، وقال إن شعارات المحتجين في تل أبيب لا تشبهه، خاصة أن النقاش يدور حول ديمقراطية لليهود. ومع ذلك دعا عودة فلسطينيي الداخل إلى وقف عدم تدخلهم بهذا السجال، والمشاركة في الاحتجاجات لأن الحكومة الحالية سيئة والنظام السياسي الراهن سيئ، لكن البديل نظام فاشي.