كان العالم كبيراً، وكنت أعتقد أنني ضائع فيه. علماً أن عالمي آنذاك لم يتعدّ مساحة بيتنا، وأزقة حارتنا؛ وعرصاتها. وحين اقتادني أخي الأكبر إلى المدرسة، ليسجلني طالباً مستمعاً فيها، اكتشفت أنه ثمة شوارع وأبنية أخرى في بلدتي الصغيرة في الواقع، الكبيرة في عينيّ. وتتالت الأيام؛ وتعاقبت المدن على ذاكرتي، وكلما عرفت مدينة، تضيق بي؛ إلى أن اكتشف معادلها الموضوعي، فتتحول إلى عالم تحده عواطفي، لدرجة أصبحت معها كل مدينة تمثل بالنسبة لي حالة حب خاصة، إلى أن جاء القرن العشرون (فأردف أعجازاً وناء بكلكل) وتحول العالم الكبير إلى قرية صغيرة. تولد وتموت بين شفتي سيرجي لافروف!! فتنكبت قول الشاعر:
نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى… ما الحبّ إلاّ للحبيب الأوّل
كم منزل في الأرض يألفه الفتى… وحنينه أبداً لأول منزل
وعدت أدراجي إلى علبة كبريت، تسمى: شقة؛ في الطابع الرابع من إحدى العمارات، وصرت أبحث في (برج العذراء) عن كاعب؛ أو حيزبون؛ ترضى أن تشاركني بيتاً نصفه ورق، ونصفه الآخر قلق. وحين وجدتها؛ اتفقنا على أن تخرج من برج العذراء، وتدخل في برج (الحمل) فحملت؛ وأنجبت شركاءنا في المعاش والفراش. ومنذ ذلك اليوم تحولت حياتنا إلى برامج تلفزيونية، تبدأ صباحاً بنشرة أخبار الطلبات، ونختتمها ليلاً بفيلم السهرة العربي، الذي تتدرج ألوانه من الأسود إلى الأسود مروراً بالأسود. وكل ذلك (ع الهوا) بث مباشر، دون إخراج؛ أو مونتاج؛ أو دوبلاج؛ أو ماكياج! كل شيء تراه على شاشتنا طبيعياً، من الصوت إلى الصورة، مروراً بالفضائح العائلية!
ومع الأيام صرنا نجوم الحارة، الذين يشار إليهم بالبنان. فعرفنا الجيران؛ وتدخلت في حياتنا النسوان. وكلما تفاقمت القضية، كانت إحداهن تستخدم حق (الفيتو) على قراراتنا العائلية! تارة أمي؛ وتارة أمها؛ وأحياناً كانت الجارات الغيورات يستخدمن هذا الحق من باب التضامن العربي. فيستجيب مجلس الأمن البيتي، لدرجة أصبحت معها حياتنا محكومة بمجموعة من المعاهدات، تختلف صياغتها؛ وبنودها؛ بحسب درجات الاستيطان. وتحول بيتنا إلى خريطة (سايكس بيكوية) نتحرك فيه حسب المناطق. فالمطبخ وغرفة النوم يشكلان المنطقة/آ/ الخاصة بالزوجة، وغرفة الضيوف أو القعدة كما نسميها فهي من ملاك المنطقة/ج/ الخاصة بالبنين والبنات، أما غرفة المكتبة فقد كانت تابعة إدارياً للمنطقة/ب/ التي تشكل المجال الحيوي لحركتي البيتية، وبقي الصالون والحمام منطقة حرة، منزوعة السلاح، وما زال التطبيع مستمراً! والفرق بين تطبيعنا، والتطبيع الإسرائيلي هو: أن إسرائيل تطبع ليلاً، وتقصفنا نهاراً. أمّا أنا وزوجتي فإننا نتطابع في النهار، ونتقاصف في الليل، وقصف الليل يمحوه النهار.
كاتب سوري