«بدايات» و»بيت العنكبوت» للاماراتي سيف المري: استكناه النص بين اللغة العليا ونفاذ الرؤية

حجم الخط
0

لقد قامت فلسفات التفكير النقدي المعاصر في مختلف اتجاهاته ومذاهبه على تأكيد فكرة وثاقة الصلة بين الفن والحياة، والأديب ابن المجتمع يتأثر بأحواله السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية، ولايمكن أن ينكر أحد العلاقة العميقة القائمة بين الأديب والمجتمع على حد قول هربرت ريد (1893 – 1968م) وهذه العلاقة تنتج من اعتماد الأديب على المجتمع، فهو يحصل على نغمته وإيقاعه وقوته من المجتمع الذي هو عضو فيه، ولهذا يعتبر الاحتكاك المباشر بالاطار الاجتماعي هو مصدر انفعالات الأديب؛ لأن «الإحساس العاطفي تنفيس عن المشاعر وهو أيضًا نوع من الارتياح وارتخاء الوجدان».
من هنا وأمام هذه الافتراضات الإمبريقية فإن المتلقي لعمل الكاتب سيف المري «بيت العنكبوت» القارئ لنصوصه ومقدّماته في مجلة «الصدى» يشعر أنه أمام نصٍ مُشكِل مُوغِل في التعقيدات، لأن كاتبه- في الأغلب- يحاول استمداد قيمة النص من القواعد الاسطاطيقية أكثر من انشدادِهِ إلى رؤية اجتماعية أو همٍّ جمعي. الكتابة من أجل إرساء القيمة الجمالية أمرٌ جيد على أي حال، لكن إلى أين يُفضي؟ إن المناهج النقدية التي رسَّخت لنظرية الفن للفن لم تنتِهِ به سوى إلى المدارس الشكلانية، وهذه بدورها انفصلت تماماً عن ديالكتيك المجتمع وحراكه، واستمر أدباؤها يدورون في جمالياتهم المنحوتة من اللغة وفوقيتها التي لا تصل إلى المتلقي عبر أُطُر التقعيد المنهجي لاسطاطيقا اللغة.
يقول سيف المري في أحد نصوصه بعنوان (هروب) «هاربٌ من الأيام. يصارع عباباً ويُطاردُ سراباً ويداخلُ ضباباً. شقت جيبه الليالي، ودقت عظمه الخوالي. حُشِرَ بين زوايا الأربع. وظفرت به زوبع. فلا وزر لا وزر. ولا نفع من الحذر. ولا رد للقدر. ولا خير في البشر. وعلى الجانب الآخر من الحكاية ثمة سرور. وأهل حبور. وملك قدير. وكون حرير. وصوت خرير وبعض غرور. وبضع كبير. بحجم أمير. ورجع غزير وسجع طيور، ثم عوداً على ما كان من أمر، فقد فقأت الصخرة عين الإعصار وهو يطيِّرها، صغرها لم يمنع أن تفقأ عينه وتدفع مينه».
كيف يمكن تحليل نصٍ كهذا، من أين يبدأ فتح مستغلقاته، وبأي منهجٍ تنجلي شفرات مثل هذا النص؟!
إذا حاولنا تسليط قواعد علم اجتماع النص الأدبي- وهو أكثر منهجٍ وجدته يمزج بين مناهج نقدية متعددة لكل منها مساره- وكل هذا لمحاولة إيجاد مفتاحٍ يضيء هذا النص المشكل، حيث إن علم اجتماع النص الأدبي، الذي كان سبَّاقاً لوضعه د. سيد البحراوي، يجمع بين مناهج السيميائية والبنيوية والتحليل النفسي ونظريات القراءة، عبر نظريات باختين وزيما ولوسيان جولدمان، لا أحسبه يستطيع أن يتعامل مع هذا النص المُلغز الذي احتفظ مبدعه بسرِّ رموزه لنفسه، متكئاً على اللغة وانسيالها، والتدفق الحر للغنائية القائمة على السجع وجماليات اللغة والبلاغة القديمة، لا على التداولية في معرفيتها.
إن المتأمل لأعمال الكاتب سيف المري، يجد أن مسألة توظيف اللغة في مستوياتها العليا المعتمدة على الرمز والإلغاز يصل إلى أقصى مستوياته، وفي هذا فصمٌ كامِلٌ للعَلاقَة مع المتلقي «العادي» الذي يُفترَض أنه ليس على المستوى المعرفي والإبداعي نفسه للكاتب.
في نصٍّ آخر للمبدع بعنوان «المتاهة» يقول: «رهطٌ وثلة وكوكبة. قسمة الكتيبة بين عددٍ وعديد، وبأسٍ شديد. وعهدٍ جديد ورأيٍّ سديد. وجفرٍ مريد. لمن كان يراه عياناً حتى غدا كوكباً فصار يراه جناناً حتى لم يعُد بإمكان من غشته كدرة الطين أن يرى ما لا يُرى، حُرم بعد نوال، ومُنِع إثر وصال، وإن كانت الكوكبة قد تفرَّقت تحت كل كوكب، فلا يزال الرهط الأسمى الذين لم يخاطلهم النقص جالب النقيصة مرهطين الظهر في رحلةٍ أسطورية. وحين نسخت الشمسُ الظلَّ، واشتدت العكة، توقَّف كل شيء إلا هم، ولا صوت إلا دقَّات القلوب يسمعها أصحاب لوطأة الأكَّة».
إن اللغة تتصارع في هذين النصين، وتحتشد الاستعمالات المعجمية على كافة مستوياتها الأفقية في اشتباكٍ لا أظن أنه خدم الرؤية بقدر ما عمَّق ضبابيتها.
وإن كان تشومسكي ذكر في نظريته عن اللغة إن مستوياتها تبدأ من البناء النووي لها وتتسع حتى تصل عبر تسلسل الكلمات إلى سياق مستقل يفرض نفسه من المعنى ويُقر قواعدها عبر النحو التحويلي؛ أرى سيف المري يتجاوز هذا كله في نصوصه، ربما لأن لديه رؤيةً أبعد لا يراها المتلقون العاديون.
في نصٍّ ثالثٍ من سلسلة «بدايات» بعنوان (استجواب) يقول المري: «يستجوبُ الصمتَ الذي يطربُ، طفلٌ له المشرقُ والمغربُ، مباركٌ مُقدَّسٌ ألمعيّ، يغرِقُ في صَمتِ الوجودِ الخفي، ليس له شبهٌ فتىً مفردُ، جَفرٌ غُلامٌ أوحدٌ أمردُ، ذو ميعةٍ جلِدٍ ولا يكبُرُ، في ذاتِهِ الأوحدُ والأخطرُ، لا تُنقِصُ الأيامُ ريعانَه، ولم يُبِن للورى آنَهُ، يصرِفُ الأيامَ لا يُصرَفُ، يداهُ إذ تبطشُ لا ترجفُ، لا يَنحَني لا ينثني لا يُرد، يقطعُ في الصَّخرِ كما قطعُ حَد، طيفٌ وليلٌ ومستذئبُ، ومُرهفٌ من ذاتِهِ أحدبُ، يعرفُ فكَّ الرموز كم حلَّهَا، في صُحبَةٍ طالت وما مَلَّهَا. كان معي كنتُ له كان لي، من مهبطِ الملاءةِ الأوَّلِ، يشغلُهُ أمري وبي شغلُهُ، ظلي وكم كنت أنا ظلَّه».
مرةً أخرى يواجهنا استغلاق النص. ما بين التداخل النوعي بين جنسي السرد والشعر وهو ما يُظلِّل الإطار البنيوي للعمل بشروط تلقٍّ متداخلة، ما يجعل المعنى أو ظلَّه يظلُّ مستعصياً على إيصال الرسالة النصية للمتلقي عبر شفراته التي لا يملك رموزها سوى كاتبها.
أمام نصٍ كهذا نعتقد أن «المحايثة» وحدها هي التي يمكنها التعامل مع مفرداته، في إطارها البنيوي، فالتحليل المحايث هو الذي يفصل ويعزله عن النص عن الوسط المحيط، ويُقصيه عن أي دلالاتٍ محيطةٍ به، فلا يبقى سوى «النص للنص»، منفصلاً عن السياقات الأخرى، وممتلكاً لدلالاته بذاته. فنحن في النص السابق حين نتابع بصوت السارد المُتحدَّث عنهُ في النص، نجد أن هناك اطّراداً في الصفات واتصالها عن بطل النص الغائب الذي لا نمسك لهُ بجوهرٍ يربط هذه الصفات معاً، ولا نتبين إنتاج الدلالة من خلال هذه المدلولات التي لا تُقدّم رؤية عبر عناصر متماسكة، فبناء النص المعتمد على انتقاء العناصر (الإفراد)، ثم تركيبها معاً وفق سياق بنائي يوجِّه المعنى؛ مُختفٍ في النص، وهو ما أنتج في النهاية بنية أدبية معتمدةً على خصوصية الرؤية في خلق الخطاب، قوامها الاعتماد على عناصر البلاغة من جَرسٍ وتَشكيلٍ وتصوير، دون الاهتمام بتأويلها أو بتعدد مستويات القراءة والتفسير في حيز التلقي.
إن جزالة اللغة التي يستعملها الكاتب، وزخم المفردات، والبناء الهيكلي المحكم للغة، والمستويات الصوتية واستعمال جميع ممكنات التوليد الاستقرائي للمعنى لدى المتلقي، أمرٌ يسم نصوصه، ويجعل القارئ أمام تحدٍّ حقيقي أمام كل هذا الزخم من القوة التعبيرية ونمذجة اللغة وفي نفس الوقت ابتعاد المعنى وعدم وضوحه.
لا يمكن أن يُنكر أحد موهبة سيف المري، كاتبٌ مختلفٌ للغاية رغم إقلاله إبداعياً، ولكن- في تصوري الخاص- عليه أن يُنزِل اللغة من عليائها قليلاً في نصوصه، حتى لو كانت رؤيته أبعد وأعمق مما نرى، فالاتصالية والتراسل المعرفي أبقى من جماليات اللغة التي لا تصمد أمام اختلاف ذائقة عصر إلى آخر.

*ناقد مصري.

حمزة قناوي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية