بداية تمرّد سياسي ودبلوماسي دولي من أجل فلسطين

ستبقى قصة فلسطين تلاحق الضمير الإنساني بدون توقف، برغم مرور ثلاثة أرباع القرن عليها، وبرغم تضافر فوى الشر ضدها، وخذلان الصديق وتوحش العدو. لكن بقاء القضية له ثمنه الغالي، متمثلا بسيل من الدماء لم يتوقف حتى كتابة هذه السطور.
وسيسجل التاريخ أن شعب هذا البلد بقي وفيّا لقضيته، ملتزما بإنسانيته، برغم فيض الدماء. فلم يرفع الفلسطينيون الراية البيضاء كما كان الصهاينة وداعموهم في واشنطن ولندن يحلمون. يعيشون في المخيّمات وعينهم على المستقبل الواعد بتحرر بلدهم وعودتهم إلى قراهم وضيعاتهم. يترجل فارسهم برصاصة او صاروخ يطلقه المحتلون، فيقوم غيره ليحمل علم الحرية ويواصل الزحف. هذا الفلسطيني خذله الجميع، ولم يخذله خالق السماوات والأرض الذي وعده بالنصر. بالأمس زحفت جحافل الفلسطينيين مجبرين بسلاح الاحتلال من خان يونس إلى رفح، ضمن خطة إخلاء الأرض وتوطين المستوطنين مكانهم، لكن كلا منهم كان يؤمّل نفسه بالعودة ويستخف بالقتلة الذين نهبوا أرضه. القرارات الصهيونية بإخلاء الأرض من سكانها الأصليين لا تواجه مقاومة من القوى التي تدعمها وتوفر السلاح لها، برغم عدم شرعيتها من وجهة النظر الدولية. وحين يتمعّن المرء في وجوه زعماء الدول الداعمة للكيان الإسرائيلي يرى وراءها «أشباه رجال» بعد أن تخلّوا عن مسؤوليتهم الإنسانية، فضمرت مشاعرهم وتلاشت أحاسيسهم. يظن المرء أنه يعيش في عالم الإنسان، ولكن هذه المواقف سرعان ما تجعله يشكك في ماهية أولئك البشر الذين يعيشون بدون مبادئ أو قيم.
لا يمر يوم إلا ويزهق المحتلون الصهاينة أرواحا فلسطينية بريئة بدون أي مبرر. وهنا يتفنّن العالم في تقديم الأرقام والإحصاءات بعد أن قبل بأن يتحول الفلسطيني إلى رقم يضيف تراكما للأرقام التي تحصي ضحايا الصهاينة يوميا. فما مصير الإنسانية إذا أصبح المنتمون لها يستمرئون القتل ويتماهون مع الظلم؟ وإلى أين تسير قاطرة العمل الدولي المشترك إذا كان روادها مستعدّين للتخلي عن الدفاع عن المظلومين وضحايا الاحتلال؟ إن كل فلسطيني ترتفع روحه شهيدا، يترك وراءه عائلة مفجوعة، فكيف إذا استُشهد شقيقان مثلا؟ كيف يُسمح لآلة الموت الإسرائيلية بحصد الأرواح وكأنها لا تعادل شيئا؟ وكيف يستمتع المرء بالحياة وهو يرى إخوة له في الدين أو نظائر له في الإنسانية يفقدون حياتهم بدون حساب بأيدي بشر يرون حياتهم في موت الآخرين وسعادتهم بشقاء ضحاياهم؟
أما آن لهذا العالم أن يصحو من سباته، ولو برهة يسيرة، ليكتشف حجم معاناة أهل فلسطين؟ فلا يمر يوم إلا وتزهق أرواح عشرات الفلسطينيين ببشاعة ليس لها مثيل. ووفقا للمرصد الأورومتوسطي في 14 يناير فقد كان هناك 100 ألف ضحية في 100 يوم من الحرب على غزة، وقال إن «إسرائيل ارتكبت جرائم حرب مروّعة ذهب ضحيتها بمعدل 1000 فلسطيني من القطاع يوميا، في أكثر إحصائية دموية في التاريخ الحديث للحروب». وتابع «نحو 92٪ من الضحايا في غزة من المدنيين، بينهم 12 ألفا و345 طفلا و6471 امرأة، و295 عاملا في المجال الصحي، و41 من عناصر الدفاع المدني، و 113 صحافيا». ووفقا للمرصد، فإن «مليونا و955 ألف فلسطيني نزحوا قسرا من منازلهم ومناطق سكنهم في قطاع غزة، بدون توفر ملجأ آمن لهم، أي ما نسبته 85٪ من إجمالي السكان». يحدث هذا أمام مرأى العالم ومسمعه، ولا ترى دول «العالم الحر» غضاضة من رفض التصويت لوقف إطلاق النار!.

للمرة الأولى منذ الاحتلال يشعر الصهاينة أن هناك جهة تنظر في جرائمهم وقد تصدر أحكاما لم يتوقعوا صدورها يوما بسبب الدعم المطلق من الغرب

ولا يقتصر الاستهداف على من يحمل السلاح بوجه الاحتلال، بل حتى من ينفّذ أوامره. وفي الأسبوع الماضي استُهدف العديد من الذين خرجوا من خان يونس متوجهين إلى غزة بعد قرار الاحتلال إخلاء المنطقة. فهل يحدث في أي بلد في العالم أن يُطلب من مجموعة بشرية ترك منازلها بدون سبب ليصبح لاجئا؟
فكيف أصبح هذا العالم متواطئا في ما يمكن تسميته «صناعة اللاجئين» في الوقت الذي يصرخ الأوروبيون من كثرة وصول اللاجئين إلى سواحلهم. في فلسطين يتم القتل علنا في وضح النهار، وتسجل عدسات المصوّرين الكثير من حالات الإعدام التي تمارسها قوات الاحتلال لأشخاص تركوا سلاحهم ورفع بعضهم الراية البيضاء. مع ذلك يرفض الأمريكيون والبريطانيون شجب الممارسات الإسرائيلية أو الدعوة لوقف إطلاق النار. ففي يوم الأربعاء الماضي قتلت قناصة الاحتلال في غرب خان يونس شقيقين هما ناهض عادل بربخ، 14 عاما وأخوه رامز، 20 عاما. وكان ناهض يحمل قطعة قماش بيضاء عندما خرج من «حي الأمل» مع عائلته تنفيذا لأوامر الإخلاء الإسرائيلية. ومثل هذه الجريمة تتكرر يوميا، فهي قتل خارج إطار القانون لشخص بريء لم يرتكب جرما، بل كان ينفذ أوامر المحتلين. أما الشاب إبراهيم النابلسي ذو الثمانية عشر ربيعا فقد صعدت روحه إلى بارئها قبل عام ونصف بعد أن حاصر منزله 500 من الجنود الإسرائيليين واستمروا بإطلاق النار عليه ثلاث ساعات حتى استشهد.
وتتواصل قصص الموت في الأراضي المحتلة، وهي قصص مروّعة يستغرب العقلاء من السماح بحدوثها، مع وجود إمكان منع ذلك. ففي الأسبوع الماضي مثلا أنهى الصهاينة من تبقى من عائلة الصحافي إياد الرواغ، مقدم برامج في إذاعة صوت الأقصى. فقبل أربعة اسابيع استهدفوا منزل العائلة وقتلوا عددا منهم وأصابوا ابنه الطفل بجروح. واستطاع الطفل وأمه السفر إلى مصر للعلاج. وفي مساء الخميس الماضي قام الإسرائيليون بتصفية النابلسي وطفله وزوجته. وربما الأبشع منها قصة الصحافي الذي يعمل مع قناة «الجزيرة» وائل الدحدوح. ففي 20 أكتوبر الماضي كان الدحدوح على الهواء عندما جاءه الخبر الصادم حيث كانت عائلته -التي نزحت كغيرها إلى منطقة ظنتها آمنة وفقا لوعود جيش الاحتلال- هدفا للقصف، وانضمت -حتى ذلك المساء- إلى قائمة 6546 شهيدا معظمهم نساء وأطفال حسب بيانات وزارة الصحة في قطاع غزة. وفقد الدحدوح زوجته آمنة (أم حمزة) وابنه محمود البالغ من العمر 16 عاما، وابنته شام ذات الأعوام الستة، وكذلك حفيده آدم وهو رضيع قدم إلى الدنيا قبل 45 يوما فقط. عائلات كاملة تمت تصفيتها، وما تزال قوافل الشهداء تزداد كثافة. لتتجاوز 25 ألفا قتلوا بدماء صهيونية باردة في ظل صمت دولي مشين على جرائم الاحتلال.
عندما وافقت محكمة العدل الدولية على النظر في قضية رفعتها جنوب افريقيا ضد «إسرائيل» بتهمة الإبادة، وقف داعمو الاحتلال ضدها، ولكنهم لم ينجحوا بمنع النظر فيها. للمرة الأولى منذ الاحتلال يشعر الصهاينة أن هناك جهة تنظر في جرائمهم وقد تصدر أحكاما لم يتوقعوا صدورها يوما بسبب الدعم المطلق من الغرب. وبرغم استمرار النظر في قضية الإبادة ما تزال سياسات الاحتلال متواصلة في سياسة الإبادة التي يعتبر التجويع من بنودها. يصف إبراهيم الآغا، أحد مواطني غزة اللحظة التي تبرع فيها دبلوماسي أيرلندي لعائلته بشيء من الطعام والماء بعد أسابيع من منع وصول الطعام والغذاء إلى غزة، عندما قال للدبلوماسي: هل بإمكاني أن أشرب ماء أكثر؟ ففي أي عالم يعيش إنسان القرن العشرين حين يصل الوضع إلى هذا المستوى من اللا إنسانية؟ إذا لم يكن القتل الجماعي والحرمان من الغذاء والدواء ضمن الجرائم ضد الإنسانية، فما هي تلك الجرائم؟
الإسرائيليون يحاولون تفنيد دعوى سياسات الإبادة لديها، خصوصا بعد أن أصدرت المحكمة (التي تخضع للضغوط الغربية خصوصا الأمريكية) أمرا للسلطات الإسرائيلية بوقف عمليات القتل في غزة. ومن أجل ذلك كشفت عشرات القرارات الخاصة التي أصدرها مجلس الوزراء لأجهزة الأمن والجيش بهدف التشويش على مقولة الإبادة. وقد قُدمت ثلاثون وثيقة للمحكمة على أمل إقناعها بعدم إصدار موقفها الأولي يوم الجمعة الماضية. وقال بعض الذين اطلعوا على الوثائق الإسرائيلية أن هناك انتقائية واضحة لعدم كشف ما يدعم تهمة الإبادة، وترويج بعض الأوامر المرتبطة بعمليات الإغاثة وتقليل الضحايا المدنيين. مع ذلك فإن عمليات القتل المتواصلة لا يمكن أن تشوش عليها تلك الأوراق المنتقاة التي ربما تعرض بعضها للتزوير. فالاستخبارات الإسرائيلية معروفة بضلوعها في تزوير الوثائق.

كاتب بحريني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية