بداية رجل شجاع

حجم الخط
3

عندما قرر الشاب بنجامين لاندراء تعريف العالم بالقضية الفلسطينية، وتسليط الأضواء على عدالتها، ومدى الظلم الذي لحق ولا يزال بالشعب الفلسطيني على مدى أكثر من قرن، لم تكن دوافعه دينية، فهو يقول إنه لا ينتمي إلى دين، والحال نفسه مع والديه. ولم تكن دوافعه سياسية فهو لم ينتم إلى أي حزب سياسي في بلاده، قراره جاء من منطلقات أخلاقية ضميرية إنسانية مبدئية، ترفض الظلم والاضطهاد والرياء والنفاق الدولي.
وهل هناك قضية أكثر أخلاقية وإنسانية وعدالة من القضية الفلسطينية؟
وهل هناك شعب عانى على مدار مئة عام ولا يزال من الاضطهاد والظلم الدوليين، أكثر من الشعب الفلسطيني؟ وهل هناك شعب محتل ونحن نقترب من نهاية الربع الأول من القرن الواحد والعشرين غير الشعب الفلسطيني، وأمام بصر وسمع العالم أجمع، وبقبول غير معلن من دول العالم، أقول ذلك لأن هذه الدول ترفض عمليا أن تحرك ساكنا؟ وهل هناك رياء ونفاق أكثر من الرياء الدولي، لاسيما الغربي إزاء هذه القضية؟
وما يثير غضب أي متابع ومهتم، أو لنقل أي إنسان لم يفقد إنسانيته بعد، أن هناك إجماعا دوليا طبعا باستثناء الولايات المتحدة واسرائيل وبعض الجزر الكاريبية، على رفض الاستيطان، ورفض الجرائم والممارسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة. وقد اتخذ مجلس الأمن الدولي بالاجماع قرارا (2334) نهاية 2016 يرفض الاستيطان، صوتت لصالحه حتى إدارة أوباما السابقة، وإن لم يكن حبا بالفلسطينيين، بل نكاية بنتنياهو، لكن هذا القرار لم يجد طريقه إلى التطبيق.
ليس هذا فحسب، بل إن هناك إجماعا أيضا على رفض خطوات إدارة ترامب بشأن القدس، وتدعم الغالبية العظمى من دول العالم،4 منها دول دائمة العضوية في مجلس الأمن، حل الدولتين، إحداهما دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة عام1967 وعاصمتها القدس الشرقية، ورغم ذلك تصر هذه الدول، لاسيما الاوروبية منها على عدم الاعتراف بدولة فلسطينية، إلا عبر مفاوضات تتهرب منها إسرائيل.
بنجامين لاندراء شاب سويدي في مقتبل العمر ذو ضمير حي ووعي واسع لما يدور حوله وفي أصقاع العالم. يرفض شريعة الغاب وحكم القوي على الضعيف. وبخلاف معظم أترابه الذين لا يشغلهم شاغل في هذا السن سوى البحث عن مستقبل أفضل، وحياة مريحة، قاده وعيه وضميره الحي وحسه الإنساني، ومن خلال عمله مع منظمات إنسانية، لاكتشاف القضية الفلسطينية، والتعرف عليها، وأوصلته قناعته وإنسانيته إلى واجب الدفاع عنها، أو على الأقل الترويج لها، فقاده تفكيره إلى ابتداع فكرة السفر إلى فلسطين سيرا على الأقدام من مدينته يوتبوري غرب السويد، حيث كان يعيش مع اسرته، تاركا وراءه رغد العيش وملذات الحياة، وهي كثيرة، غير عابئ بما يخبئ له القدر في رحلته إلى المجهول، ولا يعرف إن كان سيخرج منها حيا معافى أم لا.
لم يردعه رادع، لا المخاطر ولا التعب الذي سيحل به، ولا الجوع الذي سيعاني منه، ولا إمكانية تقطع السبل به، ولا احتمال اعتراض طريقه من قبل قطاعي طرق، ولا احتمالات المرض ولا الوحوش الضارية التي قد تواجهه وحيدا، كل هذا لم يردعه ولم يثنه عن قراره الشجاع هذا شيء، إنه حقا الرجل الشجاع.

قرار لاندراء جاء من منطلقات أخلاقية ضميرية إنسانية مبدئية، ترفض الظلم والاضطهاد والرياء والنفاق الدولي

وفي السادس من اغسطس 2017 عقد العزم وانطلق بنجامين لاندراء في رحلة مسافتها آلاف الكيلومترات، رحلة استمرت نحو11 شهرا مستعينا بالأجهزة الذكية لترشده إلى الطرق التي سيمر فيها من الدنمارك إلى ألمانيا فالنمسا مرورا بكرواتيا والجبل الأسود وصولا إلى تركيا ولبنان والأردن.
واختيار بنجامين عام2017 للقيام برحلته، لم يكن اعتباطا، بل لأنه يتصادف مع الذكرى المئوية لوعد بلفور المشؤوم، الذي صدر في الثاني من نوفمبر 1917، وأعطى فيه وزير الخارجية البريطانية جيمس بلفور، الذي لا يملك إلى من لا يستحقه (الحركة الصهيونية) لإقامة دولة لليهود على أرض فلسطين.
غادر مدينته في غرب السويد نحو الجنوب باتجاه الدنمارك وبحوزته حقيبة للظهر فيها بعض حاجاته وثيابه وخيمة صغيرة وعربة أطفال تخفف عنه حمله الثقيل، والاهم من كل ذلك علم فلسطيني كبير. تحدثت إلى بنجامين كصحافي بعد انطلاقته بأيام، ولم يكن قد قطع بعد الحدود السويدية، وكان يتمتع بمعنويات عالية جدا، وهي المعنويات نفسها التي لمستها فيه عندما التقيته في لندن إحدى محطاته، في جولته العالمية لمواصلة المهمة التي أخذها على عاتقه وهي التعريف بالقضية الفلسطينية.
بالمناسبة لم تتحقق أمنية بنجامين في الوصول إلى فلسطين سيرا على الأقدام، بعدما رفض الاحتلال الإسرائيلي السماح له بعبور معبر الكرامة وأعاده إلى الأردن بعد ست ساعات من التحقيق المتواصل. وما كانت هذه الزيارة، لو تمت، الأولى له لفلسطين، فقد زارها من قبل وتنقل بين مدنها وقراها، وذاق طعم الإرهاب والاضطهاد والظلم الذي يتعرض له الفلسطينيون على أيدي قوات الاحتلال والمستوطنين.
ولم تكن رحلته هي نشاطه الأول دعما لفلسطين، ويُذكر أنه نظّم إضراباً عن الطعام في مدينته في مايو2017 تضامناً مع الأسرى الفلسطينيين، الذين كانوا قد أضربوا عن الطعام في السجون الإسرائيلية آنذاك لتحسين ظروف الاعتقال ووقف الاعتقال الإداري التعسفي.
ولن تردع الإجراءات الإسرائيلية بنجامين من تكرار تجربته الفريدة، ولكنه هذه المرة لن يكون وحيدا. ويأمل كما قال في تنظيم رحلة جديدة يشارك فيها الكثيرون، تنطلق من مدينة لاهاي الهولندية، حيث مقر محكمة الجنايات الدولية، وما لها من رمزية، حيث يفترض أن تشهد هذه المحكمة قضايا فلسطينية ضد جرائم إسرائيل واحتلالها ومستوطنيها واجراءاتها الممنهجة لتهويد أراض محتلة، في انتهاك صارخ للقوانين الدولية والقوانين الإنسانية، وجرائم جنرالاتها وجنودها التي تتجاوز جرائم ضد البشرية. وستنطلق الرحلة الجديدة في الخامس عشر من مايو المقبل وما لهذا التاريخ من رمزية، فهو تاريخ إعلان دولة الكيان الصهيوني على حساب معاناة وظلم واضطهاد وتشريد وقتل الشعب الفلسطيني. ويناشد بنجامين في جولاته ومحاضراته كل مقتدر أن يشارك في هذه المسيرة، ليجعل منها مسيرة «أم المسيرات».
عن هذه الأخلاق نتحدث عزيزي القارئ الذي تساءل غاضبا عن أي أخلاق ومبادئ تحدثت في مقالي ما قبل الأخير بعنوان «الأخلاق والمبادئ لا تباع ولا تشترى يا عرب». وأقول للقارئ إنني أتحدث عن أخلاق ومبادئ بنجامين لاندراء وأعداد لا حصر لها من أمثاله في جميع أنحاء العالم، وأذكر على سبيل المثال لا الحصر، وبما تسمح به المساحة، ايضا الهولندي سيمون فروفي. فهذا الناشط الهولندي ينظم مظاهرة فردية في عاصمة بلاده أمستردام منذ نحو خمسة أعوام. ولا يتظاهر احتجاجا على غلاء المعيشة أو بطالة أو لأغراض شخصية، إنما لتسليط الضوء على الظلم الذي تمارسه إسرائيل في فلسطين. مظاهرة فردية يحرص على تنظيمها أيّام الأحد كل اسبوعين مرة، في ساحة «دام» التي يقصدها السياح بكثافة في وسط العاصمة، أيا كانت الأوضاع الجوية. لم تردعه التهديدات، بل لم تمنعه الاعتداءات الجسدية أحيانا واللفظية دائما عن مواصلة تضامنه مع الشعب الفلسطيني وقضيته والتأكيد على عدالتها. نظم 500 مظاهرة في أمستردام، ووزع خلالها منشورات عن الاحتلال والمطالبة بمقاطعة إسرائيل.
واختتم بالقول وأقول لقارئنا إنني أتحدث عن لاندراء وفروفي وأمثالهما، رغم أنهما لا يمتان لفلسطين بصلة، ولا يربطهما بها أي علاقة، لا عن طريق الدم ولا اللغة ولا الدين ولا حتى الجغرافيا والتاريخ، ولكن كما يبدو أن هناك ما هو أقوى من كل ذلك، إنها الانسانية والايمان بالعدالة ورفض الظلم والاضطهاد.
كاتب فلسطيني من أسرة «القدس العربي»

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ادم:

    رجل شجاع هو من السويد لا يتكلم عربي لا يسكن في الشرق الأوسط للاسف ناس من أبناء جلدتنا يتسابقون التطبيع مع النازيين الصهاينه ويتبراؤن عن القضيه الفلسطينيه هذا الشاب جدير بأن يكون من صلب رجل شجاع و ما العربان فهم يشكرو الله اذا صارو عبيد. الا ما رحم ربي

  2. يقول سعدون الباهلي:

    اشجع رجل دافع عن القضية الفلسطينية الرئيس صدام

  3. يقول خليل مطران:

    إني أشعر بالخجل والعار أمام هذا الشاب السويدي الذي يدافع عن فلسطين لأنه أشجع مني

إشترك في قائمتنا البريدية