عادت مي زيادة إلى واجهة المشهد الثقافي العربي، من خلال رواية الكاتب الجزائري واسيني الأعرج، «ليالي إيزيس كوبيا»، منقبا فيها عن أسرار حياتها الثانية بعد فقدانها لوالديها، وخساراتها التي تتالت حتى وافتها المنية.
عادت إذن وعاد الجدال بشأن مرضها العقلي، الذي نُسب إليها، وليس هناك تأكيد على حقيقته، خاصة أن فترة ثلاثينيات القرن الماضي، لم تكن فترة تطور طبي لتشخيص نوع مرضها وتمييزه عن الحزن ومشاعر الخيبة التي لحقت بها، جرّاء فقدانها لوالدها، وانفتاح شهية الورثة للنيل منها، والحصول على ميراثها. وقد اختلفت قصّة مي عن قصص كتاب وشعراء وفنانين عانوا من أمراض عقلية فعلا، كون أي جنون تسبقه بوادر وإشارات وجذور عائلية تؤكده، أو تنفيه.. فقد عانى غي دي موباسان من نوبات البارانويا مثلا، هو الذي عاش مع أم مكتئبة وأخ مجنون توفي باكرا، وقد تقفّى أغلب من تناول أدبه بالدراسة آثار جنونه في كتاباته، وقد قيل أن لا عجب أن يكتب نصا عبقريا عجيبا مرعبا مثل «الهورلا»، فقد كانت حبّة العبقرية تفرّخ في رأسه بذورا ميزته، ولكنها أجهدته في الأخير، إذ عاش حياة لا تشبه حياة من حوله، في عزلته، وشكوكه، وريبته، ومراقبته لكل كائن متحرّك أمامه، واكتفائه بسماع أصوات رأسه، بدون حاجة لأصدقاء وحياة اجتماعية مثل أغلب الكتاب. وبقدر تألقه الأدبي، بقدر ما نالت حياته القسط الأوفر من اهتمام الصحافيين والباحثين وصناع الدراما بنوعيها التلفزيونية والسينمائية، بذرة الجنون تلك، التي قضت عليه وهو في ريعان شبابه كانت أكثر ما ميّز شخصيته وجعله مركزا للحياة الأدبية في زمنه وغير زمنه بعد وفاته.
لقد رأيت دائما أن مي زيادة «حالة» كان يجب دراستها من باب علم الاجتماع، حتى نفهم مجتمعاتنا العربية جيدا، التي تعاقب الضحية في الغالب وتكافئ الجاني.
ثمان وسبعون سنة مضت على وفاة مي زيادة، ولا تزال مادة دسمة للبحث، ولا أعتقد أنها ستكون كذلك لو أن مسار حياتها لم تعكّره تلك الأحداث المؤسفة، التي عصفت بصالونها، وشهرتها، وبريقها، وبالذكور الذين كانوا يحومون حولها، لأسباب تعدّدت، لكن أغلبها ليس نبيلا. لقد كانت مخاوف إبن العم جوزيف الذي زج بها في مستشفى المجانين في محلّها، حين خاف أن تذهب ثروتها للصهر الافتراضي، إذ ما كان ليختلف عن أي شخص من بيئته الشرقية، التي تعتبر الميراث من نصيب ذكور العائلة، ولعـــلّ الوضع كان سيختلف تماما، لو أن مي عرفت رجلا حقيقــــيا بين رجال الورق الذين صادفتهم في حياتها، وتزوجته وكونت عائلة، كان مصيرها سيختلف تماما، ولكنّها لم تستوعب المجتمع الذي انبثقت منه، ولم تعرف خطورة أفكارها عليها، هي الحالمة بتغيير مجنون آنذاك.
لقد رأيت دائما أن مي زيادة «حالة» كان يجب دراستها من باب علم الاجتماع، حتى نفهم مجتمعاتنا العربية جيدا، التي تعاقب الضحية في الغالب وتكافئ الجاني. إن حكاية «المرض العقلي» ليست بالأمر المهم في حياة كاتبتنا، فكل إنسان معــــرّض لصدمات قد تقضي إحداها على قدرته على التّحمُّل، لكن الأهم هو كيف تعامل الجميع مع هذه «المريضة الثرية»؟
تحضرني فرجينيا وولف التي عانت أكثر من مي زيادة، وعاشت هزّات نفسية نجد لها آثارا واضحة في كل ما كتبت، لكنّها رغم ذلك كانت أكثر حظّا، إذ قدم لها زوجها الكثير من الرّعاية، حتى أشفقت عليه، وفضلت أن تموت على إفساد حياته. تحضرني أيضا زيلدا وفرنسيس سكوت فيتزجيرالد، وعلاقتهما الغريبة، المتأرجحة بين الحب والغيرة، بين الرغبة في التملك، والرغبة في الانعتاق من العلاقة، بين المرض العقلي وعبقرية الإبداع، بين الطعن المؤلم، والوله اللامفهوم، وقد قيل إن فيتزجيرالد استغل زيلدا أدبيا، ليس فقط كمصدر ملهم لم يجد غيره، بل بلغ به الأمر أن سرق نصوصا لها وغذّى بها نصوصه، وهذا الجانب سنجهله إلى الأبد في ما يخص كتابات مي زيادة، التي ضاعت عند جبران خليل جبران وغيره من الذين رسالتهم، وحافظوا على علاقاتهم بها، بدون أن نعرف إلى أي مدى كانوا أخلاقيين تجاه نصوصها الجميلة.
أشك وأكاد أجزم أن جبران خليل جبران لم يكن يحب في مي غير رسائلها، ولو أنّه بادلها حقا ذلك الشغف والحب لما عاش بعيدا عنها عشرين سنة كاملة، يتنقّل بين أحضان العشيقات والخليلات في أمريكا، ويبادلها حبا على ورق، فأي رجل عاشق هذا الذي لا يستهويه الرحيل إلى ديار حبيبته لرؤيتها؟ لقد وقعت مي في غرام شخصية رسمتها له، هي نتاج مخيلتها، وهي من هذا الجانب، لا تلام، فقد عاشت حياة مختلفة، عمّا عاشه كل الرجال الذين كانوا حولها. كانت حالمة، وكانوا رجالا يريدون قضاء وقت ممتع مع سيدة جميلة ومختلفة. نحن أيضا نرى أولئك الرجال بعيون مخيلتنا، ولهذا يبدو لنا العقاد رجلا قويا وشامخا، وولي الدين يكن رجلا رقيقا عاشقا، والأزهري مصطفى عبد الرّازق هرما دينيا يجب عدم المساس بعفته، وهلم جرّا.
شخصية مي زيادة لا تزال غامضة، وأن حلقات مفقودة كثـــيرة، التهمتها الأيام، ومن حولها، وأن ما ظلّ من الأسرار المخفية بشأنها أكبر بكثير مما كُشف لحد الآن.
قد يقول البعض إن مي زيادة أيضا بالتأكيد لم تكن تلك المرأة العصية على الرّجال، وإنها مثل أي أنثى، استمالت البعض، وجاملت البعض، وهربت من البعض، فالنّفس البشرية واحدة، ولن تختلف كاتبتنا عن غيرها من النّساء في زمنها، خاصة نساء الطبقة الأرستوقراطية المتعالية، التي نالت من التعليم وخبرة الأسفار ما ميزهن عن غيرهن، لكن مي كانت فوق كل ذلك كاتبة، وجمعت حولها كتابا وشعراء، وشخصيات مشهورة، ما وثق لتاريخها، وأبداها لنا، فريدة من نوعها.
ما أريد الوصول إليه، هو أن شخصية مي لم تصلنا كاملة، والدليل هذا التناقض الصّارخ بين شقي حياتها، حين كانت في حماية والدها، وحين أصبحت مجرّد امرأة بدون سند، حين لم ينفعها لا ذكاؤها الذي تغزّل به عشاقها، ولا علاقاتها، وكأنّ ذلك الصالون الشهير، الذي ضم نخبة النخبة، لم يكن سوى واجهة وهمية لأشباح، فجأة برز ابن العم الشرير، مع بعض أفراد العائلة، فاختلّ توازن السيدة التي خطفت القلوب والعقول، فضربها وأهانها وجرّها من شعرها، وأودعها مستشفى للأمراض العقلية، وحصل على توقيعها ليدير أملاكها، وكأنها «ست بيت» أمية تماما، فقد انتهت بسهولة كما تنتهي الفراشات عند أول لمسة بشعلة شمعة!
تفهمت تماما تعاطف الروائي واسيني الأعرج مع مي، وأنّ ما حدث لها كان جريمة في حقها، لكن إن لم يخلصها الرئيس اللبناني شخصيا آنذاك، بطلب من حفيد الأمـــير عبد القادر جزائــــري، فماذا نستنتج؟ النتيجة التي استخلصتها من خلال قراءاتي، وكوني ابنة هذا المجتمع الشرقي الظالم لنفسه ولنسائه على وجه الخصوص، هي أن شخصية مي زيادة لا تزال غامضة، وأن حلقات مفقودة كثـــيرة، التهمتها الأيام، ومن حولها، وأن ما ظلّ من الأسرار المخفية بشأنها أكبر بكثير مما كُشف لحد الآن.
٭ شاعرة وإعلامية من البحرين
بدأت اليوم بقراءة الرواية التي أجلتها كثيرًا، فقط لأجل ما كتبته بروين عن ميّ زيادة هذه المرة.. بروين كتبت من المرأة عن المرأة.. عن وجع لا يسع هذه الأرض وعن تسلّط ذكوري لا ينتهي وأحسنتَ فيما كتبت! بقي أمر أخير حيث أنني أراهن على دخول الرواية القائمة القصيرة ومن ثم فوزها بالبوكر هذا العام!
مي زيادة شخصية غامضة .. ملتبسة .. ضبابية .. وهنا يكمن سر عظمتها ..
أي محاولة فك لرموزها والبحث عن سر الشفرات المفقودة لحياتها وعبقريتها قد يسيء لها كثير ويضعها في مصاف ” الشخصيات شبه العادية ”
أتمنى بقاء نبوغ العظيمة “مي” طيء الكتمان .. لتظل أسرار عبقريتها تضيء لنا عبر نوافذنا المتخمة بالغبار والتراب .