براين ريتشاردسون وعلم السرد ما بعد الكلاسيكي

يشتغل ديفيد هيرمان منذ سنوات على إنجاز مشروع (النظرية وتفسير السرد) بالتعاون مع مجموعة باحثين منهم، جيمس فيلان وبيتر رابينوفيتز وروبين وارهول وبراين ريتشاردسون. وقدموا في هذا الصدد طروحات مهمة تضيف جديداً إلى النظرية السردية مما يتعلق بعوالم السرد الخيالية والمؤلفين والسّراد والزمانية والفضاء السردي والشخصيات والقراء والتلقي والقيمة السردية والجمالية. ولعل آخر إنجازات هذا المشروع كتاب«شعرية الحبكة في القرن الواحد والعشرين: تنظير السرد الجامح» لبراين ريتشاردسون الصادر عن جامعة أوهايو 2019، ضمن سلسلة يحررها جيمس فيلان وبيتر رابينوفيتز وكاترا بيرام.
وميزة هذا الكتاب أنه يصب مع سائر كتب ريتشاردسون في موضوع علم السرد ما بعد الكلاسيكي عامة، وتحبيك السرد غير الطبيعي خاصة. وعودة إلى مؤلفات ريتشاردسون ستعطي صورة لمشروعه وما قدمه في كتبه السابقة ومنها كتاب «أصوات غير طبيعية» من تصورات ورؤى ومفاهيم وتطبيقات على أعمال روائية وقصصية. وقد يوحي تركيزه على الحبكة في كتابه الجديد أن للمنهجية البنيوية حضورها في تنظيرات ريتشاردسون، وفي ذلك شيء من الصحة إلى حد ما، لكن في اتجاه نقض المصطلحات البنيوية المعروفة واستبدالها بتصورات غيرها. ومن ذلك البحث في ديناميات مفهوم المتن الحكائي الخام (الفابولا) والمبنى الحكائي وعلاقتهما بالمحاكاة تعاقبا وتتابعا، وفي إطار التمثيل على سرديات ما بعد حداثية تتخذ من التجريب أداة في ابتكار طرائق جديدة في التعامل مع الواقع الموضوعي، سواء من ناحية الشخصيات أو الأزمنة أو بناء الأحداث أو موقع السارد، وغيرها من مناحي دراسة النظرية السردية.
ويعطي ريتشاردسون في كتابه هذا أهمية مركزية للبنية السردية من ناحية تسلسل الأحداث دون تحبيك، فتكون شعرية الحبكة هي فاعلية البناء السردي كبدايات وتوسطات وخواتيم، بوجود فواعل سردية غير قادرة على السرد، أي خارج مواضعات الاحتمال الأرسطي. وقد يبدو هذا جديدا بالقياس إلى السرديات الحديثة، التي تعتمد في تحبيك أحداثها على السياقات المعهودة، بيد أن عودة إلى تاريخ الرواية والدراما، ستكشف أن اللاتحبيك ليس استراتيجية جديدة من استراتيجيات السرد ما بعد الكلاسيكي، وإنما هو مظهر من مظاهر السرد القديم الممتد إلى الإغريق في رأي المؤلف ريتشاردسون، وإلى ملحمة جلجامش في رأينا. وما يريده ريتشاردسون من وراء دراسة اللاتحبيك هو توسيع مجالات النظرية السردية وإكمال نواقصها، لاسيما بعد الذي صرنا نشهده في هذه الوفرة من الروايات والقصص التي تخرج عن نطاق مفاهيم هذه النظرية، فتبدو عصية على الاندراج في صيغة من صيغها. وهو ما يعني الدخول في مقاربات ومناظرات مع منظرين اهتموا بموضوع التحبيك مثل، بيتر بروكس وتزفيتان تودوروف، وفي الوقت نفسه تقديم طروحات حول السرد غير الطبيعي من خلال التمثيل بأعمال بيكيت وروب غرييه وأنا كاستلو، وما تثيره من أسئلة تتعلق بطريقة تنظيم البناء السردي وزمانيته، كمداخل وتحولات ونهايات.

ويستعرض المؤلف في مقدمة هذا الكتاب المعنونة بـ(دينامية المحاكاة السردية والمحاكاة المضادة) مساعي منظري السرد منذ خمسينيات القرن الماضي حتى اليوم في فهم ميكانيزما دور المؤلف في بناء القصة، وكيف أن هذا الموضوع ما زال الأكثر إثارة في تاريخ الأدب لوجود مسائل تتعلق بالمؤلف تحتاج إلى مزيد من النظر النقدي، في إعادة تحديد معايير فهم الواقع الموضوعي. وأن أي عودة إلى روايات وقصص القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ستكشف عما في السرد من مناطق جديدة تماما على مفاهيم النظرية السردية ومصطلحاتها، مؤكدا أن كثيرا من كتّاب الروايات المعاصرة صاروا يهتمون اليوم في سرودهم بالابتعاد عن الطرائق التقليدية في السرد، ويسعون إلى رفض إعادة إنتاج العالم من حولهم، مفضلين بدلاً من ذلك إعادة تشكيل أو عكس العلاقات الأساسية بين الأحداث، أو حتى إنشاء عوالم وأشكال غير موجودة أو غير واقعية. وهو ما وجده ريتشاردسون في أعمال روائية غير طبيعية فيها السرد بلا تحبيك، لكنه مقنع. ومنها روايات مارتن أميس (1991) وإيان ماك إيوان (2001) وكريس وير (2013) وكيت أتكينسون (2014) وعلي سميث ( 2014) وأكد ان هذه الأعمال ليست سوى جزء من أمثلة كثيرة تدلل على ما أطلق عليه اسم (النظام السردي الجديد). ولم تغب عن المؤلف الأعمال الخيالية الرقمية التي تزيد من ثراء عوالم السرد غير الطبيعية، وتوفر أنواعا جديدة من التمثيل على أحداث لا طبيعية، كبدايات وتسلسلات وسطية ونهايات، تتحدى دينامية الحبكة التقليدية في محاكاة الواقع، موسعة عمل الخيال في اتجاه أنواع جديدة من الخرق والاستحالة.
وإذا كان التسلسل المعتاد في السرد الطبيعي يقتضي أن تكون النهاية متوقفة على ما كان قبلها حسب المفهوم البسيط الذي حدده فورستر وبيتر بروكس للمتن الحكائي والمبنى الحكائي ومفهوم النظام الزمني، كما أوضحه جيرار جينيت، فإن ذلك ما لا يعترف به السرد غير الطبيعي، بل يعمل على تعديله أو إعادة صياغته. وعزم المؤلف وهو إزاء التقديم لكتابه على طرح رأي نظري مغاير للحبكة، بالاستناد إلى مصطلحين هما: السرد المقلد والسرد المضاد للمقلد، أي اللامحاكي الذي يجعل التمثيل الخيالي يشبه التمثيل غير الخيالي. وبما يجعل التفكير الواقعي أكثر غنى في التعامل مع الشخصيات غير الطبيعية، لتبدو كما لو كانت شخوصا بشرية، تشترك في مجموعة أحداث تشبه بشكل عام الأحداث التي نواجهها في تجاربنا الحياتية، كما يكون للمكان والزمان في مثل هذا السرد امتدادات بعيدة عن قانون الاحتمال الأرسطي المعمول به في السرد الطبيعي ومحتكمة إلى حد كبير على تحبيك المحاكاة المضادة في بداية القصة، للتحول في نهايتها ـ عبر مراوغة التقاليد وتحديها ـ إلى محاكاة معتادة.

ولا يستعمل ريتشاردسون السرد المضاد إلا كمرادف للسرد غير الطبيعي، ويعني به السرد الذي لا يستنسخ الواقع، بل يخرقه منتهكا قوانين الواقع بمجموعة أفعال من غير الممكن أن تحصل في الحياة الواقعية. ويعد الزمان من أهم العناصر التي فيها بحث الكتّاب عما يطور سرودهم بأساليب وتقنيات جديدة، غير آبهين بمحاكاة الواقع وتكرار أشكال تقليدية، قلبا للأنماط المعتادة في تمثيل العالم وبحثا عن إمكانيات سردية جديدة. فإذا كان المعتاد في السرد الواقعي أن يتقدم الزمان إلى الأمام، أو يعود إلى الخلف فينعكس ترتيب السبب والنتيجة، فإن في السرد غير الطبيعي تتضاد المحاكاة إما بتضمينه بعض الصور غير المتوافقة، أو بتوال زماني متناقض وفضاءات مستحيلة، أو بشخصيات ذات خصائص لا تشابه البشر. فتكون البؤرة المركزية في شعرية الحبكة هي الاختراق، حيث لا اتفاقات أو قوانين تفرض على البناء السردي دينامية تقليدية معينة. ومثّل ريتشاردسون على ما تقدم بشكسبير الذي ما كان له أن يتعرض للاستهزاء في زمانه، إلا لأنه خرق وحدة الزمان في مسرحياته، وأحدث تناقضات في عدد منها، بينما ظلت المسرحيات الكلاسيكية والنيوكلاسيكية ملتزمة بالوحدة الزمانية في النظرية الأرسطية وبشكل روتيني. وما كان للانتهاك أو التجاوز أن يؤخذ على أعمال أدبية، إلا بسبب التقاليد بينما كان الأمر قبل آلاف السنين طبيعيا وموجودا. ومما رسخته هذه التقاليد أن السرد مبنى وليس متنا، والأول مطلوب والثاني قديم بينما المتن هو الأساس لأنه الأكثر شمولا، ولأن على اللامحاكاة قامت المحاكاة، بيد أن التعامل الديالكتيكي الذي يبحث عن التعقيد، ويتجنب التبسيط هو ما جعل السرد يبدو كالثعبان الذي يقضم ذيله ــ على حد وصف ريتشاردسون.
أما لماذا استعمل اصطلاحات البنيوية نفسها كالفابولا والحبكة والبؤرة والسرد، فلأنه ابتغى إعادة صياغة كل واحد منها لا تقديم مفاهيم جديدة غيرها وعن ذلك قال: (أفعل ذلك لأنني أعد مواقفي متممة لمعظم المفاهيم السردية الراهنة، وهي ليست بدائل لها. لكننا نحتاج أيضا إلى توسيع نطاق تطبيقاتها بطرائق جديدة متعددة، فتنتاقض الفابولا وتتغير الحبكة) وهذا هو ديدن منظري السرد ما بعد الكلاسيكي خاصة، ومنظري النقد الأنكلوأمريكي عامة.
وطرح ريتشاردسون رؤى تتعارض مع النظرية البنيوية التي ترى القصة هي التأسيس الذي منه تنطلق النظرية السردية، بل رأى الفابولا هي الأساس، وإذا كان المفهوم القياسي للفابولا أنها متن حكائي لأحداث تسرد كما حصلت بزمانية لا وجود فيها للسببية، وأن مفهوم المبنى الحكائي يخضع للنظام السببي، فإن المفهوم الجديد للفابولا أنها مجموعة أحداث خيالية تتضاد مع المحاكاة معيدة إنتاج ما لا يعاد إنتاجه. وعزز ريتشاردسون طرحه حول المحاكاة المضادة بقول منسوب إلى لوك هرمان وبارت فيرفايك، مفاده (إذا كان من المستحيل إعادة بناء أحداث القصة وترتيبها في تسلسل زمني واضح، فلا يمكن تقييم الترتيب في النصوص السردية باستخدام المنهج البنيوي) وبهذا يكون ريتشاردسون قد وسّع مفاهيم السرد ما بعد الكلاسيكي، معتمدا على النصوص التأسيسية الحكائية التي صار حقيقا بنظرية السرد أن تعطيها الأهمية، فتعيد النظر إلى المصطلحات الأخرى التي تشاكل الفابولا والحبكة، مشتملة على الممارسات الداخلة في المحاكاة والمضادة للمحاكاة معاً.

كاتبة عراقية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية