برج بابل الرقمي

حجم الخط
0

لم أجد كلمة أوفى ولا أعمق من وصف الحقبة التي نعيشها حاليا من «الفتنة». إنها جامعة لكل ما يمكن أن تحتويه من دلالات ومعان، ومصطلحات متداولة في مختلف العلوم السياسية والاقتصادية والاجتماعية مثل: العولمة والتفاهة والسطحية والضحالة والنرجسية، وما لا يحصى من الكلمات المستعملة في وصف ما آلت إليه الأمور، تحت تأثير الوسائط الرقمية وعلى المستويات كافة.
قد يقول معترض إن كلمة الفتنة مصطلح ديني (والفتنة أشد من القتل)، وهي تقتصر على الردة والشرك، لكنني أستعملها بمعنى أعم لأني أرى أن الفتنة التي نعيشها حاليا أشد من القتل، لأنها تتضمن كل أشكال القتل المعروفة والمجهولة، مادية كانت أو معنوية.
من مظاهر هذه الفتنة أن الشك أصبح محيطا بكل شيء، وبات اليقين منعدما في أي شيء. لقد أصبح كل فرد، وليس فقط كل جماعة، يرى أنه يملك الحق، وأن غيره على باطل. وأضحى الكذب والصدق بلا معنى، واللغة بلا دلالة. وغدا ادعاء اكتشاف الماضي الموغل في القدم، والمخفي هو الحقيقة المطلقة. وأمسى الكل متكلما، ولا أحد يسمع. أليست هذه هي الفتنة التي هي أشد من القتل، والمبدأ الذي يحكمها: الحياة للذات، والموت للآخر. لقد صار الكل فاتنا أو فتانا، ومفتونا أو مفتتنا. وقليلون جدا من هم بمنأى عن الفتنة.
كان الناس يعيشون حياتين: الحياة الخاصة التي يعيشها المرء مع نفسه، والحياة التي يشترك فيها مع أهله وأقاربه ومحيطه. كان هذا في الحقبتين الشفاهية والكتابية، وحتى في حقبة الوسائط الجماهيرية. مع الثورة الرقمية صار المرء يعيش حياة ثالثة ينغمر بكليته في الواقع الافتراضي، الذي وفر له إمكانية مثلى للانغماس بعيدا عن حياتيه الواقعيتين. في هذه الحياة لم يبق فقط ذلك المتلقي المرتخي، بل صار المنتج المتوتر. كان التمييز بين الناس يتوقف على ما يمكن أن يقدمه الفرد للجماعة، فظل التمييز بين الخاصة والعامة، وبين العالم والمتعلم، والشيخ والمريد، واللاعب والجمهور.. فكان تاريخ المجتمعات والأفكار مبنيا على إبدالات معرفية مشتركة، وعلى قيم، وأفكار تفرض نفسها في زمن لتحل بعدها إبدالات جديدة مع تطور الزمن. مع الواقع الافتراضي صار الكل لاعبا وجمهورا في الوقت ذاته. وصار اللعب بلا قواعد، وبلا ملاعب خاصة. في اليوتيوب مثلا باعتبارها ملعبا تجد فيها كل اللاعبين والمتلاعبين، والجماهير والمتجمهرين، وكل يرى نفسه الفائز، وغيره الخسران، أوليس في هذا دلالة على زمن الفتنة؟
تبين قصة بناء برج بابل في الكتاب المقدس، أن الناس اجتمعوا على لسان واحد فكان التواصل بينهم على فعل كل ما يريدونه. فبلبل الله لسانهم حتى لا يسمع بعضهم بعضا، وكان أن تبددوا على وجه الأرض. بناء برج بابل الرقمي كان بهدف دمقرطة الثقافة، فكان أن بدد ليس لسان الناس، بل أفكارهم. فكان تبلبل الأفكار أشد من تبلبل الألسنة، وإن اجتمعوا جميعا في البرج فقد تفرقوا بددا.
يبرز تبلبل الأفكار في غياب إبدال معرفي جامع، فصار «اللاإبدال» هو السائد، وكل واحد يصنع له إبداله، ويتوهم أن الناس سيجتمعون عليه. فكان الضياع الفكري، والعجز عن التلاؤم مع العصر، والعجز عن التفكير في الواقع، أو الفعل فيه. يمكننا اختزال بعض مظاهر هذا التبلبل الفكري (الفتنة) في كلمة واحدة هي «الاكتشاف» الذي يبرز في نقطتين اثنتين، وهناك نقاط لا حصر لها. أما النقطة الأولى فهي «عقدة الهوية». صار الكل يطرح السؤال عن هويته: هل هو ذكر أم أنثى؟ إنسان أم سوبرمان؟ هل هو أصيل أم هجين؟ هل هو ثابت أم متحول، أو قابل للتحول؟ وكانت الفتنة أن الجهة العربية في البرج البابلي الرقمي، بدل أن يتوحدوا ويندفعوا إلى التفكير في واقعهم ومشاكله الكثيرة، أو يتفاعلوا مع القضايا الكبرى التي تهم الإنسانية وهي مهددة بالانقراض الذاتي بسبب الكوارث التي يصطنعها الإنسان، وهو يخرب الطبيعة، صار الكل يكتشف أن له هوية خاصة، وعليه أن يفرضها على غيره. فصرنا موزعي الهويات المتصارعة والمتقاتلة.
أما الثانية فمتصلة بالأولى، وهي «نوستالجيا الأصول». صار الكل «يكتشف» أن كل ما عرفناه في التاريخ زائف ومتهافت، وأن اكتشافاتهم النيرة تبين أنهم الأصل، والأصلاء، وأنهم العرق الأصفى، وأساس الحضارة الإنسانية، وأنهم «النص» وغيرهم «مُتناصَّات» هامشية لا قيمة لها. لقد صار العراق أصل كل الديانات، والأنبياء والرسل. ففيه أول شاعرة، وأول قصة حيوان، وصارت الأمازيغية أصل كل لغات البشرية. كما بات اليمن فضاء التوراة، والطوفان، وحتى مكة يمنية. وحتى الأهرام بات استكشاف أسرارها مناقضا لكل ما هو متداول. وصار التساؤل عن الأحاديث النبوية المخفية، وعن أحاديث خديجة، وعن إسلام زينب، ناهيك عن الاكتشافات في تفسير القرآن، وتأويل الأحاديث، وهلم جرا؟
لم أذكر كل ما يزخر به البرج البابلي الرقمي العربي، وهو دال فعلا على تبلبل الأفكار. وعندما تخرج منه لتمارس حياتك الأولى والثانية، في مدينتك، تجد عالما لا علاقة له بحياتك الثالثة، التي اخترت الانغماس فيها. فهل حياتك الواقعية أمُّ حياتك الافتراضية، أم أن الأخيرة أمُّ حياتيك الأولى والثانية؟ فأين تكمن الفتنة؟

كاتب مغربي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية