بركة ساكن: مع الجيش السوداني ضد الميليشيا

يحسب للروائي السوداني عبد العزيز بركة ساكن أنه جاهر بموقفه من الحرب الدائرة في الخرطوم بشكل مبكر، وفي وقت كان يختلط فيه الأمر على الكثيرين.
في بداية التصعيد العسكري، وخلال تظاهرة يسارية سودانية في باريس كانت تتبنى شعار «لا للحرب!»، تم تقديم ساكن المعروف بأنه ليبرالي، ليس فقط في كتاباته ولكن أيضاً على المستوى الشخصي، ليقدم كلمة أمام المجتمعين. كانت المفاجأة هي أنه قدم خطاباً ناقدا لراية رفض الحرب، كلمة الحق التي، وفق ساكن، يتجاوز المراد بها معنى السلام، الذي لا يختلف حوله أي إنسان، لمناصرة الميليشيا ضد الجيش، لم يكن ساكن يطلق على الميليشيا أي اسم سوى «الجنجويد»، ومن النادر أن تجده وقد استخدم، حتى قبل الأحداث الأخيرة، أي توصيف آخر لها. استخدام هذه الكلمة له حساسية خاصة، فهي ترتبط في أذهان من عايشوا تجربة الغزو، خاصة في إقليم دارفور، بالكثير من أعمال القتل والسلب والاغتصاب وغيرها من الجرائم المرتبطة بها، التي ما يزال أهالي تلك المناطق يرددون فظاعاتها، والتي كان كثير من أهل الخرطوم يعتبرون أنها محض خيال ومبالغة.

الوقوف مع الجيش في معركة بقاء السودان، خاصة بعد توثيق اشتراك قادة وعسكريين من دول افريقية، لا يعني منحه صكاً على بياض للحكم، أو للتغول على المجال العام

بهذا الاستبعاد تعامل كثيرون مع رواية «مسيح دارفور»، التي كتبها ساكن إبان تصاعد أعمال العنف في الإقليم. كانت الرواية في نظر قرائها مجرد حبكة تحكي عن وجهة نظر ذاتية، ولا تعكس بالضرورة حقيقة الأوضاع، الاستبعاد والتقليل تعامل به المتلقون مع التقارير والدراسات، التي ظلت تحذر من صعود قائد الميليشيا القبلية محمد حمدان دقلو، المعروف باسم «حميدتي» ومن خطر شرعنة وجوده. كانت الصورة مشوشة لدى أغلب الناس. كبر مساحة السودان والبعد الشاسع بين منطقة الوسط الآمنة ومناطق الالتهاب الإثني، كانت تشجع على اعتبار أن ما تفرزه مراكز الدراسات من تحذيرات، لا يعدو أن يكون حملة مقصودة، ضمن حملات استهداف الدولة السودانية. نضع في الاعتبار هنا الدعاية الحكومية النشيطة، خاصة إبان اتهام الرئيس المعزول عمر البشير بجرائم الحرب. كانت تلك الدعاية تصور كل شيء على أنه مجرد مبالغة بلا أساس وأن دول العداء، إنما تبحث عن ذرائع من أجل تطويق السودان. كانت عبارة ساكن، التي صدّر بها روايته «مسيح دارفور» والناتجة عن غضب كبير موحية، فقد كتب: «أهون لجمل أن يلج في ثقب إبرة من أن يدخل جنجويد في ملكوت الله»، في وقت صدور الرواية، التي سرعان ما ستحظى بشهرة عالمية، كان كثير من المثقفين يتبنى موقفا هو أقرب للدفاع عن مشروع الجنجويد، فكانوا يرون أن هناك استهدافاً عالمياً للمكون العربي في المنطقة، وأن تسليح القبائل العربية وتكوين قوة رادعة خاصة، كان أمراً لا بد منه لتوفير الحماية ضد ما يعرف بالمكونات الزرقاء. على ذكر المكونات الافريقية أو «الزرقاء»، فإنه لا بد من التوقف حول عبثية كل هذه السرديات، فحتى كاتب هذا المقال، الذي يعد من المنطقة، لا يمكنه التفريق بشكل حاسم بين القبائل، التي تدعي الأصل العربي وغيرها، بل يبدو الأمر مختلطاً بسبب الهجرات والتداخل القبلي، الذي يمتد لقرون خلت. حينما توزعت الميليشيا في أحياء الخرطوم مسببة الكثير من الآلام للأهالي عبر التدمير الممنهج وغير المبرر للمنشآت والسرقة والنهب، وصولاً لاستباحة أموال الناس وبيوتهم وأعراضهم، استوعب الجميع أن ما كان يحكى ويقال لم يكن مبالغة، وأن هذه الميليشيا، ليست مجرد «حركة مسلحة» ذات مطالب واضحة، مثل تلك الحركات المتعددة، التي عرفها السودان وتعاملت معها الحكومات المختلفة، ولكنها مجموعات ذات دوافع متناقضة لا يربط بعضها ببعض أي هدف سوى الانتقام العنصري، وتحقيق أكبر قدر من الغنائم. يمكن لمن يشاهد صور الاقتحامات والتعديات الإجرامية على البنوك والسفارات الأجنبية والملكيات العامة والخاصة، أن يدرك أن الغزاة كانوا يتعاملون مع منطقة الخرطوم بمنطق الغارة القبلية، التي تستبيح كل شيء، وكأن الزمن عاد بالناس لعصر ما قبل الدولة، بل لما قبل الإسلام.
هناك شبهة أخرى يطلقها المتعاطفون أو المتواطئون المحليون مع الغزاة، وهي المتعلقة برفض إطلاق توصيفات من قبيل «الميليشيا» أو «الجنجويد» عليهم وهم يقولون بهذا، إن «الدعم السريع» جزء من مكونات الدولة العسكرية والسيادية، وإنه لا يمكن لخلاف سياسي أن يجرده من هذه الصفة. لهذه الشبهة عدة أغراض منها التقليل مما حدث واعتباره مجرد خلاف على السلطة بين جنرالين، كما أن منها التأكيد على أن الجهتين، الجيش السوداني و»الدعم السريع»، متساويتان في الشرعية والأهمية، وهو الخطاب الذي ظل يتبناه كثيرون سواء في الداخل أو في الدول الخارجية، التي حاولت التعاطي مع الحدث السوداني منطلقة من مبدأ الحياد بين «طرفي الصراع». حياد يمكن توصيفه بالأعمى، لأنه يرفض أن يرى وجود تمرد على الدولة، بل يرفض الاعتراف بسيادة الدولة. الحقيقة هي أن «الدعم السريع» بدأ كميليشيا قبلية جند لها حميدتي آلاف المرتزقة. لم يكن مهماً في ذلك الوقت أن يكون الجميع سودانيون، بل كان الأهم هو تجنيد أكبر عدد ممكن لمواجهة التحديات القبلية أو غيرها من التهديدات، التي كانت تواجه نظام البشير. في مرحلة تالية حاولت الحكومة الاستفادة من هذه القوات عبر «أنسنتها» وإدارة توحشها، واستخدامها في ضبط الحدود، أو في إسناد الجيش ومن هناك جاء اسمها الأخير «الدعم السريع». بعد سقوط البشير حدثت مفارقة غير متوقعة تعلقت بتضخم هذه القوات وتضخم دور قائدها السياسي والعسكري، الذي بات يحظى بمنصب نائب رئيس المجلس السيادي.
في معركة الخرطوم، التي كانت فيها القوات الغازية منضبطة في البداية، وواثقة من النصر بفضل عامل المفاجأة، وبسبب الأعداد الكبيرة من المقاتلين المحملين بأنواع متقدمة من العتاد، حدث شيء لم يكن في الحسبان، وهو أن الجيش امتص الصدمة بشكل غير متوقع مستطيعاً تنفيذ ضربات نوعية. كان أهم ما نتج عن هذه الضربات هو قطع خطوط الاتصال بين أطراف المهاجمين، الذين كانت أعداد كبيرة منهم تدخل إلى الخرطوم لأول مرة. مع فقدان التواصل وغياب القائد لم يعد الحديث عن مؤسسة «الدعم السريع» منطقياً، فلم يعد هناك أي شيء له علاقة بالتأسيس أو المنطق هنا، ومع استمرار الحرب، وفقد من تبقى من العقلاء السيطرة، عادت القوات تدريجياً إلى أصلها، مجرد مجموعات إجرامية خارجة عن النظام والقانون.
الوقوف مع الجيش في معركة بقاء السودان، خاصة بعد توثيق اشتراك قادة وعسكريين من دول افريقية، لا يعني منحه صكاً على بياض للحكم، أو للتغول الدائم على المجال العام. هذا ما عبر عنه ساكن والآلاف غيره من مناصري الجيش الحاليين بشكل واضح. من أولئك المناصرين من عرف بانتقاداته اللاذعة للجيش السوداني حتى قبيل اندلاع الحرب، كما أن منهم من لا يخفي، حتى الآن، رغبته في رؤية قيادة بديلة له في المستقبل القريب. بكلمات بسيطة عبر ساكن، ووافقه في ذلك الأكاديمي الماركسي عبدالله علي إبراهيم، عن هذه المعادلة قائلين إنه إن كان تجرع تصدر الجيش للمشهد في هذا الوقت مريراً، إلا أن الأمرّ من ذلك هو حكم الميليشيا، الذي لا يعني سوى نهاية السودان الذي نعرفه.
كاتب سوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية