ظلّ يتفاخر هكذا: «أنا يسوع المسيح في السياسة، أنا ضحية صبور، أتحمّل كل شيء، أضحّي بنفسي من أجل الجميع». أنصاره أطلقوا عليه لقب «الفارس» أي ذاك الذي ينقذ ويخلّص وينتشل، في السياسة كما في الاقتصاد والـ»شو بزنس» وكرة القدم. خصومه، في المقابل، لم يعدموا عشرات الصفات التي تختصر شخصيته: محتال، مهرّج، فضائحي، فاسد، متحرّش بقاصرات، فاشيّ، متهرّب من الضرائب، مازج السياسة الشعبوية بالاستعراض البورنوغرافي… السجلّ التاريخي من جانبه يقول، مع ذلك، إنه هيمن على الحياة السياسية والمالية والتلفزية والرياضية في إيطاليا المعاصرة على امتداد 20 سنة، بينها 4 مرّات في رئاسة الحكومة؛ وبينها، أيضاً وأيضاً، قرار من المحكمة العليا بإبطال عفو وزاري عام كان قد فُصّل على مقاس برلسكوني، وإدانة بالتهرّب الضريبي، وتجريد من عضوية مجلس الشيوخ بعد إسقاط الحصانة البرلمانية، وحكم بالسجن 4 سنوات (خُفّضت إلى 10 أشهر خدمة عامة، قضاها في مصحّ للشيوخ قرب ميلانو).
هذه بعض العناوين الأعرض التي تختصر شخصية سيلفيو برلسكوني (1936-2023) والتي تشير في كثير، وليس في قليل كما يصحّ القول، إلى مآلات نموذج فريد في اقتحام السياسة من بوّابة المال والأعمال والفساد والإفساد وتلفزة الواقع والاستعراض؛ مثلما تشير إلى قسط غير ضئيل من معضلات النموذج الأوروبي/ الغربي من النُظُم الديمقراطية في أطوار ما بعد الحرب العالمية الثانية. صحيح، كما يساجل أنصار هذه النُظُم، أنه في نهاية المطاف خضع لسلطة القانون وحوسب على أفعاله وتمّ إقصاؤه من الوظائف الأرفع في الحكم والحكومة؛ إلا أنّ الصحيح الموازي هو أنه رحل وحزبه ممثّل فعلياً في تحالف جورجيا ميلوني الذي يحكم البلد اليوم، ويضمّ فئات يمينية متشددة أو فاشية أو عنصرية. وقد يجوز ألا تُنسى عبارة، مفتاحية تماماً، أطلقها برلسكوني ساعة أخذت تيارات أقصى اليمين تصعد وتتصدر في صناديق الاقتراع: «نحن أدخلناهم في سنة 94 وأسبغنا عليهم الشرعية. نحن الدماغ، والقلب، والعمود الفقري».
للإيطاليين، وبينهم عدد من ألمع المؤرخين والباحثين في علوم السياسة وصلاتها الوثيقة والتكوينية مع الميديا والمال والأعمال، أن يعكفوا أكثر فأكثر على دراسة الظاهرة البرلسكونية (كما بات المصطلح شائعاً اليوم ومستقراً)؛ حتى إذا تورّط بعضهم في خيارات أقرب إلى الاستئناس بمنهجية كوبرنيكوس، إزاء موضوعٍ/ كونٍ بطليموسي؛ كما يساجل أستاذ التاريخ في جامعات روما جيوفاني أورسينا. ما لا يصحّ التسامح إزاءه هو تلك الجهود التي تسعى إلى تبرئة الديمقراطية الإيطالية، أو الغربية عموماً إذا شاء المرء، من ذنوب تصعيد برلسكوني وتمكينه، من جهة أولى؛ أو، ولكن عن سابق قصد وتصميم، إغفال ما شخّصه أنتونيو غرامشي حول التأثيرات الهائلة التي تمتلكها الثقافة في تسهيل الهيمنة وترسيخ القوّة، من جهة ثانية.
في صياغة أخرى، قد يكون أفضل مداخل استقراء الظاهرة البرلسكونية هو تفحّصها من منظار ناخب مناصر للرجل وحزبه ومحطات التلفزة التي يملكها؛ ليس بحثاً عن عناصر السياسة في ذلك كله، فحسب، بل كذلك لتلمّس الثقافة الأعمق خلف الحماس والتعصب، أو حتى الافتتان والانجذاب إلى رجل لامس حافة الأيقونة… على علاته مباذله وفضائحه! فإذا كانت الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، التي تمتلك صوتاً مسموعاً بالغ التأثير في السياسة الإيطالية عموماً، قد سكتت طويلاً عن ذنوب برلسكوني قبل أن يطفح بها الكيل فتخرج لتخطئته علناً؛ فليس ذلك لأنها تتفق مع سياساته وسلوكياته بالطبع، بل لأنّ نسبة عالية من رعاياها تنصت إليه، تتسلى معه، و… تصوّت له.
إنّ معادلة برلسكوني السياسية والأخلاقية لم تنهض على الغشّ والخفّة واقتناص الأرباح السريعة الرخيصة، وحدها؛ بل قامت أيضاً على الغطرسة والعنصرية والتحقير الثقافي والحضاري للآخر غير الإيطالي وغير الغربي عموماً
هذه ثقافة، دينية بالطبع، ولكنها عميقة الانغراس في النفوس والمعتقدات والطبائع؛ تماماً مثل الصيغة الأوضح من الثقافة، في نموذج ماريا لويزا بوسي، مذيعة الأخبار الشهيرة في التلفزة الحكومية الإيطالية، التي قدّمت استقالتها احتجاجاً على عدم استقلالية نشرات الأخبار، وانحيازها لشخص برلسكوني، فضلاً عن سكوتها على فضائحه المالية والأخلاقية. قبلها كان وزير الثقافة الإيطالي ساندرو باندي قد استقال ذاتياً من واجب الحياد التامّ إزاء حرّية التعبير واستقلالية الفنون، وذلك حين قرّر مقاطعة مهرجان كان السينمائي الفرنسي الشهير، احتجاجاً على عرض الشريط الإيطالي «دراكيلا، حيث ترتجف إيطاليا» الذي يمزج الواقع بالخيال؛ إذْ اعتبر الوزير أنّه ينطوي على «إهانة للحقيقة وللشعب الإيطالي بأسره».
وفي صلب الثقافة، أيضاً أنّ تعليق برلسكوني على الغزو الأمريكي للعراق، سنة 2003، نطق علانية بما كان يعتمل في صدور ساسة وصانعي قرار وخبراء ومعلّقين في الولايات المتحدة والغرب إجمالاً، إذا وضع المرء جانباً مشاعر الشرائح الأعرض في ما تطلق عليه العلوم الاجتماعية صفة «الدهماء». ولقد تجاسر على الإفصاح، الطافح بالوقاحة والغطرسة، في أزمنة شهدت جنوح الآخرين إلى الكتمان أو اللغة الدبلوماسية أو الألعاب اللفظية؛ كأن يستعيد الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن تعبير «الحملة الصليبية» ثم يتراجع عنه تدريجياً حرصاً على مشاعر المسلمين.
برلسكوني قالها بالفم المليء، ومن دون أدنى حرص على مشاعر المسلمين: «حضارتنا متفوّقة على حضارتهم» وقصد المسلمين أساساً، وشعوب الأرض الأخرى غير الأوروبية قاطبة وضمناً؛ ولهذا ينبغي على الغرب، واستناداً إلى تفوّق قِيَمه، أن «يُغَرْبن Occidentalize ويغزو Conquer شعوباً جديدة». هكذا، ببساطة وصراحة: نخضعهم لقِيَمنا لأنها الأفضل للإنسانية، ونغزوهم (أيّاً كان المعنى وراء فعل الغزو هذا) إذا تعثّر إخضاعهم في حروب القِيَم. ولكي يضرب برلسكوني أمثلة من العالم المحسوس، وليس العالم الافتراضي وحده، استذكر أنّ «الغرب فعلها سابقاً مع العالم الشيوعي ومع جزء من العالم الإسلامي، ولكن للأسف مع جزء من العالم الإسلامي يعود إلى 1400 سنة إلى الوراء».
وهكذا فإنّ معادلة برلسكوني السياسية والأخلاقية لم تنهض على الغشّ والخفّة واقتناص الأرباح السريعة الرخيصة، وحدها؛ بل قامت أيضاً على الغطرسة والعنصرية والتحقير الثقافي والحضاري للآخر غير الإيطالي وغير الغربي عموماً، وللعربي والمسلم بصفة خاصة. خطابه ذاك كان يصدر عن أحد أسوأ نماذج انحطاط الديمقراطية الغربية، الإيطالية هنا، حين أُتيح لرجل الأعمال وأغنى أغنياء إيطاليا أن يشتري السياسة بالمليارات، وأن يمارسها تماماً كمَنْ يعقد صفقة شراء نادٍ لكرة القدم.
وفي الثقافة كذلك، أياً كانت سويّة انتشارها شعبياً أو رواجها شعبوياً، أن يقيم برلسكوني صلات سياسية (واستطراداً: مالية واستثمارية) مع خلايا المافيا الصريحة أو المتقنعة المتخفية ضمن قوى سياسية فاشية وعنصرية، ومع الأروقة الماسونية غير البعيدة عن التورّط في الأموال القذرة، ومواصلة اتهام القضاة باعتماد أجندات «شيوعية» وتصنيف حفلات المجون والدعارة تحت باب التسلية والعروض والإمتاع… وإذا كان النظام الديمقراطي الإيطالي لم يردعه عن هذه، وسواها كثير، فليس لأنّ الديمقراطية في منطوقها الفلسفي والتطبيقي العريض بوّابة مشرعة لاقتحام أمثاله؛ بل، جوهرياً، لأنها في نموذجها الإيطالي هذا معتلة ومختلة ورهينة قوى عظمى مثل المال والاحتكارات والميديا، وهي في كلّ حال ضاربة الأطناب على امتداد الغالبية الساحقة من النُظُم الديمقراطية الغربية الراهنة.
وبين تشييع برلسكوني إلى سلّة مهملات التاريخ بموجب ثنائية تعتمد بطليموس (حيث الأرض ثابتة، والكواكب من حولها تدور) أو تُدرج كوبرنيكوس (حيث الشمس مركزية والأرض جرم من حولها يدور)؛ ثمة الكثير الذي يستوجب ضرب الرجل مثالاً صارخاً على مأزق جوهري وبنيوي، حكم على الدوام معادلات التنافر/ التناغم بين رأس المال والديمقراطية.
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس