برنار لويس عراب الشر

حجم الخط
3

في الآونة الأخيرة تنامت ظاهرة صعود اليمين المتطرف في الغرب، وباتت هذه الظاهرة مسيطرة على دوائر صنع القرار هناك، ما أصبح يشكل عبئا على المدافعين عن القيم الجوهرية للحضارة الغربية. والغريب أنه أصبحت له قاعدة شعبية لا يستهان بها، بعدما كان محاصرا شعبويا وأكاديميا.
هذه الظاهرة لم تنبت من فراغ، وليست وليدة اللحظة الراهنة، إنها سليلة جهد استشراقي ضخم، اقتات من الدراسات الاستشراقية التقليدية، وتغذى على كتابات وأطروحات حداثية تخفّت في الثوب الأكاديمي، هذه الكتابات سواء التاريخية منها، أو الآنية، كانت وقودا لتأجيج حالة العدائية تلك، سواء في حقبة الصراع الشيوعي الغربي أو ما بعده، التي شهدت تحالفا مع الإسلام الراديكالي الجهادي، لاستخدامه في استنزاف الخصم الروسي، في أفغانستان وبعض الجيوب في دول البلقان، تحت مسوغات عقائدية من جانب الإسلاميين، ودعاوى تهديد القيم الحضارية من جانب الغرب، وهي المسوغات نفسها التي استخدمها الطرفان الحليفان بعد ذلك في مواجهة بعضهم بعضا، حين اسْتُبدل العدو الأحمر، بالعدو الأخضر.
كان من الممكن أن نغض الطرف عن هذه الأطروحات المخاتلة، لو أن صُناع القرار والحكام في الغرب لا يتعاملون مع الكتّاب والمفكرين بجدية، كما يحدث في المستنقعات العربية خاصتنا، لكن للأسف الشديد هذه الكتابات تحرك الدوائر الحاكمة هناك، وصارت تعتمد وبشكل أساسي في تعاملها مع الإسلام والمسلمين على هذه السرديات، خصوصا سرديات ثلاثي الشر العنصري؛ برنار لويس؛ وصمويل هنتنغتون؛ وميشيل فوكوياما، باعتبارهم أبرز منظري هذا التيار، لكن أخطرهم بالتأكيد هو برنار لويس، الرجل الذي عاش قرنا كاملا، قضى ثلاثة أرباعه في تأجيج هذا الصراع بكل الحيل الأكاديمية الممكنة، ما جعل مفكرا كإدوار سعيد يصفه بالجهل الأكاديمي، والحقد الاستشراقي، لأنه على حد تعبيره، يُنَظْر عن منطقة جغرافية، لم تطأها قدماه منذ أربعين عاما.
في مقال دال بعنوان «جذور الغضب الإسلامي، لماذا يكره عدد كبير من المسلمين الغرب؟» ترجمة عبد الباسط منادى إدريس. يمارس لويس هوايته في تزييف الحقائق، بما يخدم وجهة نظره طبعا.. يقول في ثنايا المقال، إن أوروبا فصلت ما بين الكنيسىة والسلطة الزمانية بسهولة شديدة، ويُعزى ذلك إلى الجذور الدينية الكامنة في النص المسيحي المؤسس «ما لقيصر لقيصر، وما لله لله» وهذا الفصل حسبه لم يتوفر في الإسلام، حيث السلطتان ممتزجتان، ولا إمكانية لفصل زماني بينهما.
وهي مقولة تعكس الخلل في الطرح، فصحيح أن مبدأ «ما لقيصر لقيصر، وما لله لله» هو آية وردت في الإنجيل، لكن الشواهد التاريخية تؤكد أنها لم تعتمد بشكل حرفي أبدا في قراءة النص، على العكس، تم التعامل مع هذا النص وفي المراحل الأولى تاريخانيا، لأن قيصر نفسه اعتنق المسيحية، فصار ما لله، هو ما لقيصر، وأنشئت سلطة كُنسية شديدة التراتبية والصرامة، لم تعزل نفسها قط عن العمل السياسي طيلة التاريخ الكُنسي الأوروبي، كما أن دورها في إحكام قبضتها وهيمنتها على الشعوب طيلة قرون باسم الدين لا ينكر، فصارت تلك الشعوب محكومة بسلطة الكنيسة كسلطة روحية، وسلطة الحكم باسم الحق الإلهي المقدس كسلطة زمانية. سلطتان تداخلت علاقاتهما بشكل سافر، وعانت أوروبا جراء ذلك الويلات، مما تضج الشواهد التاريخية بذكره، ولم يُفْصَل بينهما إلا بسبب تيار الرشدية التأويلي، الذي اجتاح أوروبا في العصور الوسطى، وإليه وحده ينسب الفضل في هذا الفصل، وليس لشيء سواه، وهو ما لم يذكره برنار لويس في مقالته، لا من قريب، ولا من بعيد.

نموذج من الدجل المعرفي الذي علينا أن ندفع ثمنه، وأن نتحمل فاتورته، وأن نظل دائما في سياق تلاسني مقارناتي دفاعي للأسف الشديد

يقول برنار لويس ـ في معرض مقارنته – إن الإسلام لم يعرف هذا الفصل بين الزماني والروحي، وإن السلطتين مندمجتان بشكل جذري ومؤسسي في ثنايا وتضاعيف النص المقدس الإسلامي، وهو قول غريب من أكاديمي يتقن اللغة العربية، لأنه لا نص واضح، ولا ملزم بدمج السلطتين الزمنية والروحية في الديانة الإسلامية، كما أن الخلافة، أو المؤسسة الحاكمة، ليست شرطا في صحة إيمان المسلم من عدمها، وإذا كانت التاريخانية وحدها هي المعيار، فإن الفصل بين الزمني والتاريخي كان واضحا منذ البدايات التأسيسية، فثاني الخلفاء عمر بن الخطاب تجاوز النص ـ أكثر من مرة- تأويليا حين تغير الراهن التاريخي، وهي علامة دالة لم ينتبه لها الفقهاء للأسف في عصور تأسيس العلوم الإسلامية الأولى. كما أن العالم الإسلامي لم يعرف سلطة دينية شديدة التراتبية كالمؤسسة الكُنسية، وبالتالي لا يوجد مأسسة داخل بنية الدين الإسلامي، ما أدى إلى وجود فواصل بينية بين الدوائر الحاكمة، ورجال الدين. صحيح أن هناك محاولات جرت من جانب بعض الحكام والفقهاء لدمج السلطتين، لكنها ظلت دعاوى فردية، دعاوى استعان بها الحكام لتمرير ما يرونه من قرارات وقتية، ولم تتخذ أبدا شكل سلطة دينية مؤسساتية ملزمة. كما أنه وعبر التاريخ الإسلامي – وبشكل عملي، وليس نظريا- لم يكن هناك دمج بين الدين والدولة، وظل يُنْظَر إلى الخلافات الحاكمة على أنها ملك جبري، وحكم عضوض، وأصبحت هناك حالة من الحنين الدائم لدى الفقهاء والعامة ليوتوبيا مفقودة، يندمج فيها الدولة مع الدين لتحقيق فردوس أرضي.
صحيح أن هذه الحالة الطوباوية، حالت دون إنتاج نماذج لمؤسسات حكم تراعي السياقات التاريخانية والاجتماعية والنُسق الثقافية والمعرفية المتغيرة، وسعت إلى محاولات إعادة إنتاج النماذج الإسلامية الحاكمة الأولى، بوصفها حكومات راشدة، عابرة للأنساق السوسيولوجية والأنثروبولوجية، وقابلة دوما للاستنساخ بالشروط والأليات القديمة نفسها، وكأنها زمن سكوني مقدس، لا يمكن المضى إلى الإمام إلا من خلاله، ما حال أيضا دون إنتاج أي خطاب فكري سياسي، يفصل بين الجماهير والحكام بحقوق وواجبات ملزمة، ويضع تصورا واضحا لأليات حكم عادلة، لكن حتى هذه الحالة السكونية، رغم ما بها من عوار، جعلت في حالة اللاوعي الإسلامي تفريقا ما بين السلطة الروحية، التي بدت مستحيلة ومستعصية، والسلطة الزمانية، التي لم يكن مرضيا عنها بشكل عام عبر التاريخ الإسلامي، ولم تكن بحال من الأحوال دولة دينية.
في معرض حديثه عن المرأة في العالم الغربي ومقارنته بالعالم الإسلامي يقول وبالنص: «لقد كانت معاملة المرأة في العالم الغربي والمسيحي عموما غير مساوية، وجائرة، لكن حتى في صورها الأشد قتامة كان الوضع أفضل من قاعدة تعدد الزوجات، ونظام المحظيات». والعبارة الصحيحة وبموضوعية شديدة وإنصاف هي كالتالي: لقد كانت معاملة المرأة في العالم العربي والإسلامي غير مساوية وجائرة -في بعض الأحيان- بسبب أحكام منظومة الفقه البدوية، التي جنحت نحو بدونة الإسلام في نظرته للمرأة، واستعادة النُسق البدوية السابقة تاريخيا على وجود الإسلام وتفصيلها بأحكام إسلامية، لكن حتى في أشد الصور قتامة، فإن وضع المرأة كان أفضل من غيرها في ذلك التوقيت في الغرب الوسيط المسيحي، فالمصادر الغربية قبل الإسلامية تتحدث عن صور امتهان للمرأة لا يمكن تخيل بشاعتها وفداحتها، لذلك فإن من صحيح القول أن المرأة في العالم الإسلامي؛ وفي أشد أحوالها صرامة، كانت تتمتع بقدر من الحقوق في المال والميراث، والزواج والطلاق، وسلوكيات الحضارة من ملبس، ومأكل، واعتناء بالنظافة الشخصية، وهي حقوق لم تعرفها المرأة في العالم الغربي المسيحي، ليس فقط في العصور الوسطى، وإنما في بعض الحالات حتى مطالع القرن العشرين.
المقال للأسف مليء بكثير من المغالطات التي لا يتسع المجال هنا لتفنيدها، لكن وبشكل عام؛ تظل هذه المغالطات صورة دالة ومعبرة عن فكر رجل شكّل عصب تفكير السياسات ودوائر الحكم في الغرب لعقود، في تعاملهم مع العالم الإسلامي والعربي. هذا مجرد نموذج من الدجل المعرفي الذي علينا أن ندفع ثمنه، وأن نتحمل فاتورته، وأن نظل دائما في سياق تلاسني مقارناتي دفاعي للأسف الشديد، ما كنا نود أبدا أن نَكُنْهُ.

كاتب وإعلامي مصري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول علي البحار:

    شكرا علي هدا المقال الذي يسلط الضوء علي احد اكبر المستشرقين الصهاينة عداء للاسلام والذي ساهمت اطروحاته ومواقفه السياسية التي تبناها بوش الابن والمحافظين الجدد بامريكا في غزو وتدمير العراق

  2. يقول طاهر العربي:

    برنار لويس الصهيوني المستشرق، منظر الاجرام و الاٍرهاب، فيلسوف الشر الذي ساهمت أفكاره و آرائه التي تبناها المحافظون الجدد في تدمير العراق وعدد من البلدان العربية.

  3. يقول عابر:

    فرانسيس فوكوياما وليش ميشيل فوكوياما. ميشيل فوكو فيلسوف فرنسي

إشترك في قائمتنا البريدية