كان لافتا مشهد الدبلوماسيين الغربيين التابعين للدول الأوروبية الثلاث بريطانيا وفرنسا وألمانيا وهم يغادرون ثم يعودون بشكل متكرر إلى قاعة اجتماعات مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، قبل يوم واحد من إنهاء المجلس اجتماعه الدوري الأخير في مقر الوكالة في فيينا، الذي بدأ في الأول من الشهر الحالي واستمر لغاية الخامس منه .رافق هذا المشهد، مشهدٌ آخر لدبلوماسيين إيرانيين حضروا الاجتماع وكانوا بدورهم منهمكين في اجتماعات جانبية مع دبلوماسيين روس وصينيين ومن دول أخرى .
أعاد المشهدان إلى الذاكرة الأجواء التي كانت تسود اجتماعات مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية المخصصة لمناقشة تطورات التعاون بين الوكالة وإيران، على مدى سنوات طويلة استمرت من عام 2003 إلى غاية عام 2015 تاريخ التوصل إلى ما بات يُعرف بالاتفاق النووي بين إيران من جهة، ومجموعة 5 + 1 ( الولايات المتحدة ـ بريطانيا ـ فرنسا ـ روسيا والصين، إضافة إلى المانيا) من جهة أخرى .
خفف ذلك الاتفاق في حينه من حدة النقاشات والسجالات والاتهامات المتبادلة، التي كانت تتخذ من اجتماعات الوكالة الدولية للطاقة الذرية حول البرنامج النووي الإيراني مسرحا لها، وبدا أن الأمور قد وضعت في مسار جديد، أنهى ما يزيد على عقد من الزمن وصل فيه التوتر بين إيران والدول الغربية إلى حافة الحرب.
لكن قرار إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الانسحاب من الاتفاق وهو إجراء لاقى في حينه استهجانا من حلفاء الولايات المتحدة الغربيين، إضافة إلى روسيا والصين، أعاد الآن، كما هو واضح، الأمور بين أطراف الاتفاق إلى نقطة الصفر تقريبا. فطهران وجدت نفسها مدفوعة للرد على الخطوة الأمريكية بتخليها عن بعض التزاماتها بموجب الاتفاق النووي، وصولا إلى وقف العمل مؤخرا «بالبروتوكول الملحق» وهو اتفاق (يتيح إجراء عمليات تفتيش وتحقق مفاجئة للمنشآت النووية الإيرانية) كانت قد توصلت إليه إيران مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية قبل سنوات من توصلها إلى الاتفاق النووي.
في اجتماع مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية الأخير، جاءت الأطراف المعنية بمواقف يطالب كل منها الآخر بالتراجع عن الإجراءات التي اتخذها ليتراجع هو عن إجراءاته. فالإيرانيون طالبوا برفع العقوبات الأمريكية، وعودة واشنطن إلى الاتفاق النووي أولا، والولايات المتحدة ومعها الدول الأوروبية الثلاث بريطانيا وفرنسا والمانيا طالبت طهران بالعودة إلى الالتزام ببنود الاتفاق النووي كافة، لإتاحة المجال أمام عودة جميع الأطراف للالتزام ببنود الاتفاق.
أعطى غزو العراق واحتلاله، مثالا قويا على تعاون وتنسيق وثيق على الأرض وفي الميدان، بين كل من واشنطن وطهران
ومع التهديد الأوروبي بتقديم مشروع قرار إلى مجلس محافظي الوكالة لانتقاد إيران بسبب خطواتها الأخيرة، وتدخل أطراف دولية أخرى لإقناع الأوروبيين، ومن خلفهم الامريكيون بالتراجع عن تقديم مشروع القرار، لإتاحة فرصة أمام إيران للتراجع التلقائي عن إجراءاتها، بدا أن أجواء السجالات والمداولات الساخنة قد عادت إلى أروقة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وأعاد بالتالي زخم التغطيات الصحافية، التي تحظى بها اجتماعات الوكالة الخاصة بملف إيران النووي.
يرتبط تاريخ البدء الرسمي لوضع الملف النووي الإيراني فوق طاولة البحث والتقصي الدوليين، ممثلين بالوكالة الدولية للطاقة الذرية، بتاريخ آخر حُفر عميقا في ذاكرة الشرق الأوسط وهو عام 2003 الذي شهد الغزو والاحتلال العسكري الأمريكي للعراق البلد المجاور لإيران. كان هذا التطور الدراماتيكي جزءا من مشهد متسارع بأحداثه، أحاط بإيران شرقا وغربا، ابتدأ عام 2001 بغزو أفغانستان بذريعة مسؤولية تنظيم «القاعدة» عن هجمات سبتمبر/أيلول في نيويورك وواشنطن، وانتهاء بغزو العراق بعد أقل من عامين على الخلفية ذاتها من المزاعم والاتهامات. من المفارقات المسجلة على هذا الصعيد أنه في الوقت الذي ذهب فيه كثير من المحللين إلى اعتبار ما جرى آنذاك في المحيط الجغرافي لإيران، هو حركة أمريكية استهدفت عزل وتطويق إيران، تم لاحقا وباعتراف إيراني رسمي جاء على لسان الرئيس السابق محمد خاتمي، وغيره من مسؤولين إيرانيين، إضافة إلى مصادر دبلوماسية واستخباراتية امريكية، الكشف عن قيام تعاون وتنسيق استخباراتي في المقام الأول بين واشنطن وطهران، في قضية الغزو العسكري الأمريكي لافغانستان، وهو ما سيؤسسُ لاحقا لمرحلة من التعاون السري أو شبه السري بين البلدين، في كثير من التطورات اللاحقة التي ستشهدها المنطقة الممتدة من أفغانستان شرقا إلى شواطئ البحر المتوسط غربا، وصولا إلى خليج عدن وبحر العرب جنوبا. أعطى غزو العراق واحتلاله، ثم إعادة تكوين المشهد السياسي والاجتماعي فيه على النحو الذي استقر عليه الآن، مثالا قويا على تعاون وتنسيق وثيق على الأرض وفي الميدان، بين كل من واشنطن وطهران أملته على كل طرف حقائق واعتبارات وإمكانات تمتع بها الطرف الآخر .
اعتمد الأمريكيون في العراق على سبيل المثال، على استثارة العامل الطائفي والمذهبي بين سنة وشيعة لإحداث استقطاب حاد، يمكن من خلاله استخلاص أدوات سياسية وعسكرية في الواقع العراقي، يضطرها الخوف والتوجس الطائفي والمذهبي من العراقي الآخر إلى الارتماء في الحضن الأمريكي، الذي كان بدوره بحاجة إلى حضن آخر يلعب دور الوكيل، نظرا لكونه الأكثر إقناعا ونجاعة وفائدة في الحالة العراقية، ولم يكن هذا الحضن بطبيعة الحال سوى الحضن الإيراني، الذي لم يوفر للمرتمين فيه الغطاء العقائدي والسياسي فقط، بل المالي والتسليحي أيضا. وهكذا في الوقت الذي كانت فيه وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) تنسق عمليا مع الإيرانيين في العراق كما في افغانستان، كان هناك من يدفع بوزارة الخارجية الأمريكية للسير في اتجاه معاكس سياسيا ودبلوماسيا، محوره البرنامج النووي الإيراني ومسرحه أروقة الوكالة الدولية للطاقة الذرية .مع الوقت لعبت وسائل الإعلام والتصريحات والسجالات السياسية والإعلامية بين واشنطن وطهران، دورا بارزا في رسم صورة متوترة للعلاقات بين الجانبين، على خلفية النزاع القائم حول برنامج إيران النووي وقضايا أخرى، في حين أتاحت السرية التي غلفت تعاونهما المشترك في إعادة صياغة وتسيير الأوضاع في العراق، باستثناء ما تسرب وما ظهر من حقائق على الأرض، دورا في صرف النظر عن هذا التعاون وإبعاده عن الأضواء، وهو تعاون قُدر له أن يتطور لاحقا ليشمل عموم المنطقة، خاصة مع الهزة الكبيرة التي أحدثتها ثورات الشعوب العربية، في ما سُمي بثورات «الربيع العربي «. لكن مع ذلك لا ينفي ما تقدم حرص واشنطن على إبقاء الإمكانات العلمية والتسليحية، وحتى الاقتصادية لدول المنطقة، بما فيها إيران تحت السيطرة، بالمقدار الذي لا يهدد النفوذ الأمريكي التقليدي، وهو حرصُ استفادت منه إيران وحولته إلى ساحة للمناورة مع الأمريكيين لمد نفوذها إقليميا تحت مظلة تفوذهم وهيمنتهم على المنطقة، بحيث بدا الطرفان كخصمين وكشريكين في آن.
كاتب فلسطيني